حين يتوارد للأذهان مسمى “قطاع غزة”، يخال للبعض أنه بقعة جغرافية صغيرة مكتظّة بالسكان يعيشون فوق ركام بيوتهم، التي تكوّمت بفعل الصواريخ الإسرائيلية بعد كل عدوان أو تصعيد، وأن الحياة شبه معدومة فيها حيث لا أماكن سياحية أو ترفيهية أو حتى مؤسسات تعليمية وغيرها، هذا حال من يعيش خارجها ويعرفها من خلال الصور التي يشاهدها عبر وسائل الإعلام أو منصات التواصل الاجتماعي.
لكن مهلًا، هناك حياة أخرى صنعها الفلسطينيون في غزة بعدما انتفضت مدينتهم كطائر العنقاء يزيح الردم والركام عنه، حيث يرمم أبناؤها بيوتًا عتيقة تحكي تاريخ حضارات تعاقبت عليها، أو يصنعون أخرى بطراز غربي وهم يكسرون حصارهم ومنعهم السفر بجلب كل ما هو حديث إليهم، عبر فن العمارة التي يعيشون داخلها كل الأزمنة التي يريدون.
وفي السنوات الأخيرة باتت واضحة طبيعة العمار في غزة، حيث البيوت ذات الطراز الغربي وحتى المطاعم التي تصمَّم بطريقة عصرية، فمن يتصور أن الحياة في القطاع المحاصر الذي يقصَف من وقت لآخر وتسقط أبراجه عبارة عن كوم ركام، يجد الواقع مغايرًا حيث المولات والأبنية الحديثة.
وفي المقابل هناك أيضًا بيوت تصمَّم لتكون ذات طراز قديم على الطريقة العثمانية التي تشبه المباني الموجودة في مدينة القدس والبلدات القديمة في الضفة المحتلة، ليشبع الغزي شوقه لتلك المناطق المحروم من الوصول إليها، حيث مطاعم على الطراز القديم في البلدة الغزية القديمة، وحين يُسأل زائر لها: “أين كنت؟”، يردّ: “في البلدة القديمة” في إشارة لحنينه لتلك الأماكن.
تغيرات كثيرة طرأت على حياة الغزيين ودفعتهم لتغيير نمط معيشتهم وتمردهم على الواقع الذي يعيشونه منذ 16 عامًا، لذا يعرض “نون بوست” أبرز تلك الأسباب التي انعكست على طابع المدينة المعماري.
البحث عن البلدة القديمة
في البلدة القديمة الواقعة بين الأحياء القديمة الثلاثة (الزيتون، الشجاعية والدرج)، بدأت حركة المواطنين، لا سيما الشباب الغزيين، تتسارع تجاه اكتشاف المزيد من البيوت العتيقة والمهجورة، فأعادوا ترميمها لتتحول إلى مراكز ثقافية أو مطاعم شعبية تحمل روح الحقبة العثمانية والمملوكية.
وبالقرب من المسجد العمري، في حي الدرج شرق قطاع غزة، كان أحدهم يبحث عن مصدر رزق، فبقيَ يعدّ الفطائر وأكواب الشاي الساخنة للمارّة، حتى اهتدى بنصيحة أحدهم قبل سنوات قليلة بوضع طاولات قرب جدران المسجد.
بدأ يرتاد المكان طلبة الجامعات والمدارس ويلتقطون الصور بالقرب من جدران المسجد الرمليّة التي جذبتهم، وبدا المكان وكأنه في مدينة القدس أو البلدات القديمة في الضفة المحتلة، ما كان يدخل البهجة على قلوب الجيل الصغير الذي بدأ يبحث وينقّب عن تاريخ مدينته، حتى بدأ يتوافد الأجانب لهذه الأماكن التي نفضت الغبار عنها وأعاد الصغار لها رونقها وبثّوا فيها الحياة من جديد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل اُفتتحت مراكز ثقافية في بيوت مهجورة منذ عقود طويلة، وأصبحت ملجأ للكثير من الشباب للتعرُّف إلى تراثهم الفني والشعبي حيث الدبكة والتطريز والحكايات التي يرويها الأدباء الكبار، وكذلك الأكلات القديمة التي تصنعها السيدات اللواتي يسكنّ بالقرب من تلك المراكز.
تقول حنين عماد (28 عامًا)، وهي مهندسة اتصالات، إنها زارت مدينة القدس ونابلس والخليل وحيفا قبل 3 سنوات، وشاهدت المباني الأثرية القديمة، حيث تساءلت: “لماذا لا يوجد مثلها في غزة؟”، وعند عودتها من مهمة عمل استمرت أيام قليلة، بدأت بالبحث عن البلدة القديمة في غزة وباتت تتردد على الأماكن الترفيهية فيها، وتدعو أصدقاءها الذين يأتون لزيارة مدينتها.
وتحكي حنين أنها حين تشتاق لمدن الضفة والقدس التي زارتها في السنوات الأخيرة، بعد تمكنها من الحصول على تصريح زيارة عمل، تهرب إلى مقاهٍ ومطاعم في غزة تحمل الطابع المعماري القديم ذاته.
وتقول لـ”نون بوست”: “مع وجود أماكن أثرية مهترئة بغزة بسبب قلة الإمكانات، إلا أنني أحب كأبناء جيلي التعرُّف إلى تاريخ البلد من خلالها، فهي تستحق أن نعرفها أكثر، وما سمح لنا بالتردد على تلك الأماكن أكثر هو أصحابها الذين باتوا مرحّبين بكل زائر ويشرحون تفاصيل أكثر”، وتضيف: “تمكّن الجيل المحاصر بتحويل القطاع من سجن كبير إلى مدينة تنافس بلاد أخرى من حيث الطابع المعماري”.
لكن المشهد المستفز كما ترى هو أثناء سير الزائر في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، حيث البيوت المهترئة التي لا تصلح للعيش يقابلها بعد عدة أمتار فنادق تصل تكلفة الليلة الواحدة فيها 100 دولار، وفي ذلك ازدواجية مطلقة واختلاف كبير بين المواطنين والأماكن بطبيعتها.
ولا يقتصر بحثّ الغزيين عن بيوت أثرية لتحويلها إلى مطاعم أو مراكز ثقافية، بل حتى هناك عمار جديد يحمل الطابع القديم من حيث التصاميم والديكورات التي تحاكي الموجودة في القدس وبلدات الضفة القديمة، والتي يغلب عليها الطابع العثماني.
أسباب تطور العمارة في قطاع غزة
في البقعة الصغيرة التي يعيش فيها أكثر من مليونَي ونصف نسمة على مساحة 365 كيلومترًا، شُيّدت مبانٍ بطراز غربي أيضًا، فعند التقاط صورة أمام برج قام بدلًا من الذي دمّرته الصواريخ الإسرائيلية يظن البعض أنها خارج القطاع، عدا عن المطاعم والفنادق التي بمجرد دخولها تفصلك الموسيقى والديكورات الغربية عن الواقع الغزي المحاصر.
بالقرب من الجامعات الغزية، أنشأ الشاب أمجد المغني (29 عامًا) مطعمًا للوجبات السريعة بطراز غربي، يقول إنه بعدما أنهى دراسته الجامعية قرر عمل مشروع شبابي خاص به، فكان هذا المكان الذي آثر أن يكون بطابع أوروبي، لا سيما بعدما زار عدة دول أجنبية وكان يدرس تفاصيلها أكثر ليكون له مثلها في غزة.
ويحكي لـ”نون بوست” أن أكثر ما يجذب الشباب المحاصر هو كل شيء غريب لم يتمكّنوا من رؤيته إلا عبر المسلسلات والأفلام الأجنبية وحتى العربية، فكما الطعام الغربي الذي يغزو الموائد الغزية أصبح هناك محلات بالنمط ذاته.
ويقول: “هدفي من مطعمي الذي مزجت فيه بين الطابع الحديث والقديم، ليس فقط تناول الزبون طعام غربي بل أن يعيش كما لو كان في محل في إسطنبول أو أوروبا”، مؤكدًا أن كثيرًا من زبائنه يرددون عليه: “شعرنا وكأننا في مكان خارج غزة”.
التغيير الطارئ على العمران في قطاع غزة له عدة أسباب، كما يقول محمود البلعاوي، مهندس معماري ومسؤول المشاريع في مركز إيوان للتراث الثقافي، وهي أنها تأثرت في القرن الأخير بـ 4 أزمنة: العثماني، البريطاني، الاحتلال الإسرائيلي وزمن السلطة الفلسطينية.
ويذكر البلعاوي لـ”نون بوست” أن التحولات التاريخية أثّرت على الطابع العمراني، مثل مواد البناء التي اختلفت من العصر العثماني حيث الحجر الرملي، ثم البريطاني الذي أدخل وقتها لأول مرة الخرسانة المسلحة مع الحفاظ على الرملي، وفي زمن الاحتلال صار هناك انفتاح على البناء بسبب تمكُّن الغزيين من السفر للخارج وتلقي تعليمهم واحتكاكهم بثقافات مختلفة، ثم عهد السلطة حيث باتت المساحات الواسعة والصالات الكبرى والفنادق الحديثة، حتى وصل الحال لما هو عليه الأن.
ولفت إلى أن هناك سببًا آخر كان له تأثير كبير، وهو الحالة الاقتصادية حيث عند تقييم المباني في الفترة البريطانية في الجنوب تختلف عن المناطق الشمالية، حيث القصور والبيوت والأماكن المميزة في وسط وشمال فلسطين، كما القدس وأراضي الـ 48، بينما جنوب قطاع غزة حيث عمار الفقراء.
وبحسب متابعته، فإن الوضع الاقتصادي لكل مرحلة ينعكس على المواد المستخدمة، سواء كانت من الحجر الرملي بشكل كامل أو يصاحبها الزخارف.
وأكّد البلعاوي أن الحالة الثقافية والعلمية للسكان المحليين لعبت دورًا كبيرًا، فكل 15 عامًا هناك ثقافة جديدة تحدث تنقلات مختلفة على حالة العمران في قطاع غزة تحديدًا، والذي تأثر كثيرًا بعد إرسال الكثير من الطلبة إلى الخارج وعادوا وهم يحملون تصورات عمرانية مختلفة، وفي المقابل رحّب السكان بالتجديد.
ولأن علم العمارة لا ينسلخ عن علم الاجتماع، خاصة أنه يحاكي سلوك السكان، يقول البلعاوي: “قطاع غزة له خصوصيته، حيث العدوان الحربي والتصعيد الإسرائيلي المتكرر، ما أدّى إلى تدمير المئات من المباني السكانية والتراثية القديمة”.
وترجع عودة الغزيين إلى دمج الأبنية بين الحداثة والأصالة، إلى محاولتهم إثبات الذات كنوع من التحدي للعالم بأنهم موجودون ويستوردون ملامح عمار غربي بنوع من الندّية والتحدي مع الاحتلال، ليثبتوا أن ما على هذه الأرض يستحق الحياة.
فغزة بلد المتناقضات، حيث الركام الذي تحول إلى عمار حديث يجذب كل من يطرق بوابتها ويدخل للتضامن معها، يخرج منبهرًا بجمالها ورونقها وقوة سكانها في خلق مشهد عمراني مميز، بعيدًا عن الجدران التي خزّقتها قذائف الاحتلال وشوّهت شوارعها.