من الطبيعي أن تكون السلع التجارية أحد وسائل تحقيق الأرباح، فهذه هي التجارة في النهاية، لكن أن تتحول أجساد البشر وحرياتهم إلى سلع تباع وتشترى، فهذا ما لا يمكن فهمه أو استيعابه إلا في إطار العبودية.
العبودية انتهت، لكن التربُّح من تسليع الأجساد لا يزال قائمًا في منظومة كاملة من السجون التي يديرها القطاع الخاص في الولايات المتحدة، وهي تحتجز في أغلبها المهاجرين وأصحاب البشرة الداكنة، في عملية منظمة بين الشركات الخاصة والحكومة، أدّت في النهاية إلى حصول تجاوزات قانونية وأخلاقية وفضائح كثيرة طالت النظام القضائي، الذي تحول في بعض الأحيان إلى أداة لتحقيق الربح لا العدالة.
سجون القطاع الخاص
في 26 يناير/ كانون الثاني 2021، وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن مرسومًا يقضي بإنهاء تعاقدات وزارة العدل مع السجون التي يديرها القطاع الخاص، كجزء من المساواة العرقية والتخلص من العرقية المنظمة.
رغم ذلك، لا يبدو أن المشكلة في طريقها إلى الحلّ، لأن الأعداد الكبيرة التي تضمّها هذه السجون، والأرباح الكبيرة التي جعلت لوبي السجون الخاصة أحد مجاميع الضغط الأكثر تأثيرًا، ستحول دون الوصول للمساواة الكاملة، خاصة مع احتمالية عودة الجمهوريين إلى الحكم في الانتخابات المقبلة.
وفقًا لتقرير معهد سياسة العدل، تأوي سجون الشركات الخاصة ما يقرب من نصف المهاجرين المحتجزين في البلاد، مقارنة بحوالي 25% قبل عقد من الزمن، في المجموع يوجد الآن حوالي 130 سجنًا خاصًّا في البلاد فيها حوالي 157 ألف سرير.
وفي حين أن الولايات المتحدة تمثل 5% فقط من سكان العالم، إلا أنها تحتجز ربع المساجين فيه، فهناك ما يقرب من 2.3 مليون شخص في سجون أمريكا، بواقع 655 نزيلًا لكل 100 ألف شخص، حيث تعدّ الولايات المتحدة إلى حد بعيد رائدة في السجون بين الدول الغربية.
بدأت القصة بعد أن أعلن الرئيس نيكسون الحرب على المخدرات في ثمانينيات القرن الماضي، إذ ارتفع عدد الأشخاص المسجونين بسبب جرائم المخدرات في الولايات المتحدة من حوالي 50 ألفًا عام 1980 إلى 452 ألفًا و964 عام 2017، واليوم يبلغ عدد الأشخاص المسجونين بسبب جرائم متعلقة بالمخدرات في الولايات المتحدة، أكثر من عدد الأشخاص الذين كانوا خلف القضبان على خلفية أي جريمة عام 1980.
العنصرية لعبت دورًا آخر، يقول الدكتور مارك هوارد، أستاذ القانون ومؤسس مبادرة السجون والعدالة في جامعة جورج تاون: “بينما يتعرض واحد من كل 17 رجلًا أبيض للسجن في الولايات المتحدة، فإن واحد من كل 3 رجال سود يقضي وقتًا خلف القضبان، القوة الدافعة الرئيسية وراء هذا التفاوت الهائل هي التنميط العرقي من قبل الشرطة”.
يكمل: “من المرجَّح أن توقف الشرطة أصحاب البشرة الداكنة أثناء القيادة أكثر من البيض، كما أنهم أكثر عرضة للاحتجاز وتكبيل الأيدي والتفتيش الأمني، لذلك ليس من المستغرب أن تظهر الدراسات أن معدل اعتقال السود أعلى بـ 5 مرات من البيض، عدا عن ذلك، فبمجرد القبض عليه من المرجح أيضًا أن تدين الرجال السود، وبمجرد إدانته فإنه في الغالب سيواجه أحكامًا قاسية أكثر من نظرائه البيض”.
هناك أيضًا عامل الهجرة والتشديد على تعقُّب المهاجرين منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وغالب المهاجرين محتجزون في الولايات الجنوبية مثل تكساس وأريزونا، والتي تملك بدورها أحد أكثر المجتمعات الصناعية ذات الثراء الفاحش، وأحد أكثر مجاميع الضغط قوة وتطرفًا، يكفي أنها دعمت إدارات مثل بوش الأب والابن وترامب مثلًا.
في واشنطن، أثّرت جماعات الضغط في صناعة السجون على السياسة لتأمين أعداد متزايدة من السجناء الفيدراليين في منشآتها، مع تشجيع الكونغرس على زيادة تمويل مساحة الاحتجاز. في مجتمع أريزونا على سبيل المثال، تشارك شركات السجون الخاصة غنائم أعمالها مع الحكومة المحلية، ما يمنح سلطات إنفاذ القانون في المنطقة حافزًا للقبض على أكبر عدد ممكن من المهاجرين غير الشرعيين، وقد ساهم التقاء هذه المصالح في مضاعفة عدد المهاجرين المعتقلين إلى حوالي 400 ألف في السنة، ما يقرب من نصفهم محتجزون في سجون خاصة، بعد أن كانوا يمثلون نسبة الربع قبل عقد من الزمن.
ووفقًا لوزارة الأمن الداخلي، فقد ضاعفت أكبر شركتَي سجون تهدفان إلى الربح، كوريكشن كوربوريشن (Corrections Corporation of America) وجيو غروب (The GEO Group)، عائداتهما من أعمال احتجاز المهاجرين منذ عام 2005، بحسب ملفات الأوراق المالية.
انتهاكات وانحرافات في القانون
رغم الأدلة على الانتهاكات الدستورية المتكررة، ارتفع عدد نزلاء السجون الخاصة بشكل سريع منذ عام 2000 من العدد الإجمالي للسجناء، ويواجه مدراء هذه السجون اتهامات دائمة بوجود فشل روتيني في حماية النزلاء من الضرب والإهمال الطبي، حيث في ولاية ميسيسيبي أغلقت السلطات 4 سجون خاصة عام 2016، بعد قرار قاضٍ فيدرالي بأن السجن “يرسم صورة لرعب يجب ألا يتحقق في أي مكان في العالم المتحضر”.
في قضايا متصلة، رفع المدّعي العام دعوى قضائية ضد شركتَي كوريكشن كوربوريشن وجيو غروب، بتهمة الابتزاز فيما يتعلق بفضيحة فساد أدت إلى إدانة كريستوفر إيبس، مدير الإصلاحيات السابق في ولاية ميسيسيبي، وفي عام 2017 حُكم عليه بالسجن لمدة 20 عامًا تقريبًا بعد تلقيه حوالي 1.4 مليون دولار من الرشاوى والعمولات من الشركات التي تتنافس على عقود السجون الحكومية.
في الولاية ذاتها رفضت المحكمة تسوية دعوى قضائية منفصلة رُفعت نيابة عن السجناء في منشأة شرق ميسيسيبي من قبل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، حيث قدمت المحاكمة أدلة على تفشي العنف والإهمال المزمن وسط نقص في الحرّاس والطاقم الطبي، رغم أن 4 من كل 5 سجناء يعانون من أمراض عقلية، إلا أن السجون لم تشهد وجود أطباء نفسيين بين موظفيها.
يخلق تأثير السجون الخاصة نظامًا يتاجر بالمال مقابل حرية الإنسان، غالبًا على حساب السكان الأكثر ضعفًا في البلاد: الأطفال والمهاجرون والفقراء.
تكمن خطورة هذه المنظومة في تأثير لوبيات السجون على السياسة الحكومية، فغالبًا ما تتطلب عقود السجون الخاصة من الحكومة إبقاء المرافق الإصلاحية ومراكز احتجاز المهاجرين ممتلئة، ما يجبر المنظومة الحاكمة على الاستمرار في تحويل الأشخاص إلى نظام السجون، حتى لو كانت معدلات الجريمة الفعلية منخفضة.
ينص ما يقرب من ثلثَي عقود السجون الخاصة على أن تحافظ حكومات الولايات والحكومات المحلية على معدل تشغيل معيّن -عادة ما يكون 90%-، و تطلب في حال عدم حصول ذلك من دافعي الضرائب دفع ثمن الأسرّة الفارغة.
في ولاية أريزونا، تعمل 3 سجون خاصة بضمان تشغيل بنسبة 100%، حتى أن هناك حصة مغلقة على المستوى الفيدرالي، حيث تتضمن ميزانية الاحتجاز التابعة لسلطة الهجرة والجمارك تفويضًا من الكونغرس يقضي بأن ما لا يقلّ عن 34 ألف مهاجر ما زالوا محتجزين على أساس يومي، وهي حصة تزداد باطّراد كل عام، حتى مع تزايد عدد السكان المهاجرين غير المسجّلين في الولايات المتحدة، استفادت السجون الخاصة بشكل كبير من هذه السياسة، حيث امتلكت 9 من أكبر 10 مراكز احتجاز تابعة لإدارة الهجرة والجمارك، وفقًا لتقرير صدر عن Grassroots Leadership.
يخلق تأثير السجون الخاصة نظامًا يتاجر بالمال مقابل حرية الإنسان، غالبًا على حساب السكان الأكثر ضعفًا في البلاد: الأطفال والمهاجرون والفقراء، وخلقت هذه الأجواء مناخًا عامًّا في جهاز القضاء يقدّم الربح على حساب العدالة، كما حصل مع إحدى الفضائح التي تلقّى بموجبها قاضيان من ولاية بنسيلفانيا 2.6 مليون دولار كرشاوى من مراكز احتجاز الأحداث الهادفة للربح، لإرسال المزيد من الأطفال إلى المرافق مع أحكام طويلة بشكل غير معتاد.
المدن تتنافس على السجن
رغم ظلامية المشهد، تتنافس المدن والولايات على اجتذاب هذه السجون، بسبب وجود اتفاق بين هذه السجون والحكومات المحلية على تقاسم الأرباح، وسمح تزايد عدد نزلاء السجون للمدن الصغيرة الحصول على مبالغ من فوائض في الميزانية في حال تضررت بسبب الركود، وتجنّبت المدن التي احتضنت السجون إلى حد كبير الضائقة الاقتصادية الرهيبة التي عانت منها مجتمعات أريزونا بسبب ذلك.
في مدينة فلورنسا -التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 17 ألف سجين، يعيش معهم 7800 شخص خارج القضبان-، يأتي أكثر من 40% من الأموال العامة للحكومة المحلية من العائدات المرتبطة بنزلاء السجون، وفقًا لجيس كنودسون، نائب مدير المدينة.
سمح ذلك للحكومة المحلية تقديم خدمات ذات شعبية كبيرة لكبار السن وبناء حدائق تزلُّج وحدائق للكلاب وملاعب صغيرة في جميع أنحاء المدينة، حيث يقول كنودسون: “نحن واحدة من المدن القليلة في ولاية أريزونا التي تمكنت من البقاء في ظل الركود الاقتصادي”.
التشريعات والإجراءات التي تصبّ باتجاه ملء السجون بالمحتجزين بأي طريقة، يرافقها حملات تخويف إعلامية قوية من المهاجرين المكسيكيين والمهاجرين الآخرين أو مجتمع السود حتى؛ لتبرير ما تقوم به السلطات من احتجاز وتوقيف في مرافق السجون الخاصة، فتلك الحملات تهدف إلى استباق ردات فعل الرأي العام من انتهاكات حقوق الإنسان الموجودة في هذه السجون، على خلفية طريقة إدارتها أو أسلوب الاعتقالات التعسفية أو طول فترة التحقيقات.