ترجمة وتحرير: نون بوست
لم تُحدث استخبارات المصادر المفتوحة ثورة في التدفق العالمي للمعلومات خلال أوقات النزاع، من سوريا إلى أوكرانيا. من خلال تجميع المحتوى المتاح للجمهور، مثل صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو المصوّرة بالهواتف المحمولة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، يعمل محللو المصادر المفتوحة على اختراق ضباب الحرب وكشف ونشر المعلومات الاستخبارية النقدية التي تحتكرها سلطات الدولة.
في ظل تراجع الثقة في وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية على نطاق واسع، أصبحت استخبارات المصادر المفتوحة وسيلة فعالة وموثوقة من قبل الجمهور باعتبارها مصدرًا موضوعيًّا للمعلومات. لكن رغم الطبيعة الديمقراطية المتأصلة لهذه التقنيات، فإن فوائد استخبارات المصادر المفتوحة لا تؤثر على الجميع على قدم المساواة، وهي بالنسبة للفلسطينيين على وجه الخصوص تعتبر سيفًا ذو حدين.
تقدم استخبارات المصادر المفتوحة للفلسطينيين أدوات منخفضة التكلفة يمكن الوصول إليها نسبيًا لجمع ونشر معلومات قيمة حول الصراع في منطقتهم، وبالتالي كشف جرائم الحرب أو انتهاكات حقوق الإنسان التي قد لا يتم الإبلاغ عنها أو يتم التعتيم عليها من قبل المنافذ الدولية.
مع ذلك، وجد الفلسطينيون أنفسهم غير قادرين على المشاركة بشكل كامل في ثورة استخبارات المصادر المفتوحة مقيّدين بالاحتلال الرقمي الإسرائيلي المشدد وإحجام محللي المصادر المفتوحة الإسرائيليين عن إثبات حيادهم أو شفافيتهم. ومن خلال التعتيم على جرائم الحرب الإسرائيلية والترويج للروايات التي المغالطة عن الاحتلال الإسرائيلي، حوّلت “إسرائيل” استخبارات المصادر المفتوحة من أداة موضوعية إلى أداة تشويه.
في السنوات الأخيرة، اكتسبت حسابات استخبارات المصادر المفتوحة مجهولة المصدر مثل “أورورا إنتل” و”رادار إسرائيل” متابعين متنامين بتغطيتهم الجريئة والسريعة للتطورات الأمنية في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية والشرق الأوسط الأوسع، وقد أصبحت مصدرًا للصحفيين والمحللين وصانعي السياسات على حد سواء.
وفي الوقت الذي شنت فيه “إسرائيل” هجومها الأخير على غزة هذا الصيف، الذي أسفر عن مقتل 49 فلسطينيًا على الأقل، أصدر حساب “أورورا إنتل” تحديثات حول التطورات التشغيلية لأكثر من 225 ألف متابع على تويتر في الوقت الفعلي تقريبًا. ويعدّ إيمانويل فابيان أحد مصادر “أورورا إنتل” التي يتم الاستشهاد بها باستمرار، الذي كان في السابق محللًا مفتوح المصدر وهو الآن صحفي في موقع “تايمز أوف إسرائيل”.
في السادس من شهر آب/ أغسطس، أفاد كل من “أورورا إنتل” وفابيان بأن الغارة الجويّة التي استهدفت حي جباليا في غزة أسفرت عن مقتل أربعة أطفال. وفي ظل انتشار الأخبار وتزايد الغضب العام، أعلن الجيش الإسرائيلي عن فتح تحقيق وحاول التنصل من المسؤولية.
دعمًا للرواية الإسرائيلية، شارك فابيان و”أورورا إنتل” مقاطع فيديو ورسوم بيانية قدمها جيش الدفاع الإسرائيلي يُزعم أنها تُظهر قيام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بإطلاق صواريخ فاشلة كدليل على أن “إسرائيل” لم تكن مسؤولة عن الخسائر المدنية.
بعد أيام، وفي حادثة منفصلة، أقر مسؤولون عسكريون إسرائيليون بمسؤوليتهم عن غارة جوية أخرى بالقرب من جباليا أسفرت عن مقتل خمسة أطفال فلسطينيين. مع ذلك، لم يتطرق حساب “أورورا إنتل” أو فابيان إلى القصة على الرغم من مشاركتهما بشكل لا لبس فيه لمعلومات المخابرات العسكرية الإسرائيلية غير المؤكدة التي ألقت باللوم على حركة الجهاد الإسلامي في إطلاق الصواريخ الخاطئة التي تسببت في سقوط ضحايا مدنيين قبل أيام فقط.
وعندما سُئل عن سبب عدم ذكر جريمة الحرب المحتملة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي رغم اعتراف المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، أعرض فابيان عن ذلك وأصرّ على أنه لا يمكنه نشر الأخبار لأن القضية “لا تزال موضع تحقيق”.
نظرًا لأن استخبارات المصادر المفتوحة تعتمد على الوصول إلى الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات، منع هذا الاحتلال الرقمي الفلسطينيين من المشاركة الكاملة في هذا المجال وجعلهم غير قادرين على كشف المعلومات المضللة أو الطعن في التقارير المتحيزة.
هذا النوع من التجاهل عبر تضخيم بعض القصص التي لم يتم التحقق منها وتجاهل بعض الآخر التي تم التحقق منها يشير إلى اتجاه أوسع بين محللي استخبارات المصادر االمفتوحة الإسرائيليين أو المؤيدين لـ “إسرائيل” للعمل كناقلين غير انتقاديين لنقاط الحوار العسكري الإسرائيلي.
في الواقع، يعد هذا الأمر بمثابة تبييض لجرائم الحرب الإسرائيلية. ومن خلال تعميم تصريحات جيش الدفاع الإسرائيلي دون التحقق منها مقابل تجاهل التطورات التي تنعكس بشكل سيء على جيش الدفاع الإسرائيلي، يعمل هؤلاء المحلّلون كأبواق للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشكل بعيد كل البعد عن الموضوعية التي يتوقعها الجمهور من محللي المصادر المفتوحة.
وكون العديد من الحسابات مفتوحة المصدر مجهولة يجعل من المستحيل على متابعيهم التحقق من خبرتهم التقنية أو تحديد التحيّزات الأساسية. وبالتالي، من غير المفاجئ أن هذه المصادر الموضوعية الظاهرية للمعلومات تفشل أيضًا في المساهمة في فهم أوسع للقضية المنهجية التي تشكل السبب الجذري للعنف في الأراضي الفلسطينية و”إسرائيل” – الاحتلال.
من الناحية النظرية، يجب أن يوازن محللو المصادر المفتوحة الفلسطينيون سوء استخدام “إسرائيل” للاستخبارات مفتوحة المصدر. بوجود أكثر من 3.6 مليون مستخدم للإنترنت في سنة 2021 – أكثر من 70 بالمئة من السكان – يعتبر الفلسطينيون بالفعل من بين الأشخاص الأكثر ارتباطا بالعالم الرقمي في الشرق الأوسط. لذلك، قد يتوقع المرء منهم أن يكونوا في وضع فريد للمشاركة في مجال استخبارات المصادر المفتوحة المزدهر.
مع ذلك، في ظل سيطرة “إسرائيل” شبه الكاملة على البنية التحتية الرقمية الفلسطينية التي تتضمن قيودًا روتينية على الوصول إلى الإنترنت عبر الضفة الغربية وقطاع غزة، غالبًا ما يجد الفلسطينيون أنفسهم معزولين عن العالم. لقد سيطرت “إسرائيل” بشكل كامل على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الفلسطينية في سنة 1967.
منذ ذلك الحين، منعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من إنشاء شبكات مستقلة عن طريق تقييد الوصول إلى تقنيات التردد الجديدة، ورفض طلبات استيراد معدات اتصالات جديدة، ومراقبة نشاطهم عبر الإنترنت عن كثب. عندما يتصل الفلسطينيون بشبكة الإنترنت، يكون الاتصال بطيئا بشكل سيء نظرا لأن شبكات الاتصالات الفلسطينية في الضفة الغربية تستخدم شبكة الجيل الثالث منذ سنة 2018، بينما لا تزال غزة تعتمد على شبكة الجيل الثاني الأقل موثوقية.
ونظرًا لأن استخبارات المصادر المفتوحة تعتمد على الوصول إلى الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات، منع هذا الاحتلال الرقمي الفلسطينيين من المشاركة الكاملة في هذا المجال وجعلهم غير قادرين على كشف المعلومات المضللة أو الطعن في التقارير المتحيزة.
ساعد الإنترنت على فضح جرائم العنف التي ترتكبها الجهات الحكومية، إلا أن هذا العصر الرقمي شهد أيضًا دولًا استبدادية تتبنى تقنيات كان كثيرون يأملون أن تجعل القمع والسيطرة أكثر صعوبة.
يخضع الفلسطينيون للمراقبة المباشرة من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية. تستهدف السلطات الإسرائيلية بانتظام محللي المصادر المفتوحة الفلسطينيين الذين يتبادلون المعلومات التي قد تورط القوات الإسرائيلية في جرائم حرب أو انتهاكات حقوق الإنسان. في السنة الماضية، اعتقلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 390 فلسطينيًا بتهمة “التحريض على العنف” على مواقع التواصل الاجتماعي وذلك وفقًا لمركز الأسرى الفلسطينيين للدراسات.
أكد الكثير من الفلسطينيين احتجازهم واستجوابهم بسبب منشورات غير ضارة على غرار مشاركة صور الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد القوات الإسرائيلية على فيسبوك. يعني الاعتماد على “إسرائيل” للوصول إلى الإنترنت أن محللي المصادر المفتوحة الفلسطينيين يخضعون لإرادة المحتل – ما يجعلهم في وضعية ضعيفة لفضح جرائمه.
تتعرض مبادرات استخبارات المصادر المفتوحة التي يقودها الفلسطينيون للتهديد بسبب الحملة الإسرائيلية المكثفة على المجتمع المدني الفلسطيني ومنظمات حقوق الإنسان. وخلال صيف سنة 2021، أعلنت “مؤسسة الحق” الحقوقية الفلسطينية عن إنشاء وحدة تحقيقات هندسة جنائية تستفيد من تقنيات المصادر المفتوحة لرصد انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، صنّف وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مؤسسة الحق إلى جانب خمس منظمات حقوقية فلسطينية أخرى على أنها منظمات إرهابية. وحتى حقيقة أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وخبراء الأمم المتحدة وعشرات منظمات حقوق الإنسان رفضت صراحةً أو فشلت في إثبات الأدلة المفترضة التي ذكرتها “إسرائيل” لتبرير التصنيف، لم تردع القوات الإسرائيلية عن مداهمة مكاتب مؤسسة الحق وتهديد موظفيها. وكلما أصبح الفلسطينيون أكثر فاعلية في فضح انتهاكات “إسرائيل” لحقوق الإنسان، تنامت وتيرة استهدافهم.
إن السلطات الإسرائيلية ليست وحدها التي تفرض رقابة على نشاط الفلسطينيين على الإنترنت. ففي الأسبوع الماضي، توصّل تحقيق مستقل إلى أن فيسبوك وإنستغرام حظروا أو يقيدون المنشورات والحسابات التي نشرت لقطات عن الغارات الجوية الإسرائيلية في غزة والهجمات على الفلسطينيين في الضفة الغربية أثناء الهجوم الإسرائيلي الذي جدّ في أيار/ مايو 2021.
بينما ألقت شركات التواصل الاجتماعي باللوم في الرقابة على مواطن الخلل في برمجيات الذكاء الاصطناعي، أكد النشطاء أن ممارسات فيسبوك في تعديل المحتوى تكون بناءً على طلب الحكومات الأمر الذي أثار قلقهم. تقوم وحدة الإنترنت الرسمية في “إسرائيل” – التي تعمل من مكتب المدعي العام للدولة – بالإعلام عن طلبات الرقابة وتقديمها لشركات التواصل الاجتماعي.
تُظهر بياناتها الخاصة أن 90 بالمئة من هذه الطلبات يتم منحها عبر جميع منصات وسائل التواصل الاجتماعي. حتى أن غانتس حث بشكل شخصي المسؤولين التنفيذيين في فيسبوك وتيك توك على تعديل ومراقبة المحتوى الذي ينتقد إسرائيل. نتيجة لذلك، يجد محللو المصادر المفتوحة الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة مع الحكومة الإسرائيلية وعمالقة التكنولوجيا الأجانب.
جلب مطلع القرن معه الأمل في أن الإنترنت سوف يزيل الحواجز أمام سبل الوصول إلى المعلومات، ويعطي صوتًا لمن لا صوت لهم، ويعمل كقوة للتحرر في جميع أنحاء العالم. ساعد الإنترنت على فضح جرائم العنف التي ترتكبها الجهات الحكومية، إلا أن هذا العصر الرقمي شهد أيضًا دولًا استبدادية تتبنى تقنيات كان كثيرون يأملون أن تجعل القمع والسيطرة أكثر صعوبة. ويبدو أن مجال استخبارات المصادر المفتوحة الآخذ في الاتساع يجلب لغزًا مشابهًا.
إن الفلسطينيين، الذين يُقيّدهم جهاز مراقبة إسرائيلي خانق واحتلال رقمي، محرومون من الوصول إلى أداة يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في نضالهم من أجل التحرير ومقاومة الجهود المبذولة لإخفاء الحقيقة وإدامة أنظمة السيطرة القمعية.
أظهرت استخبارات المصادر المفتوحة قدراتها كأداة لتعزيز الموضوعية والشفافية والعدالة. ظاهريًا، توفّر طبيعتها اللامركزية والمساواة آلية فريدة للضعفاء للجمع بين الخبرات حول العالم وتحدي الروايات التي شكلها حكام الشرعية التقليديون. رغم العقبات التي أوجدتها إسرائيل، أثبتت المعلومات الاستخباراتية مفتوحة المصدر في بعض الحالات أنها أداة مفيدة للفلسطينيين لمحاسبة إسرائيل.
في 11 أيار/ مايو، أطلقت القوات الإسرائيلية النار وقتلت صحفية الجزيرة الشهيرة شيرين أبو عاقلة أثناء تغطيتها لغارة في مدينة جنين الفلسطينية المحتلة. انتشرت أخبار مقتل أبو عاقلة إلى جانب لقطات لحظة إطلاق القوات الإسرائيلية النار عليها مثل النار في الهشيم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مما أثار صدمة المنطقة التي تعرفت على هذه الصحفية المعروفة. نفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على الفور مسؤوليتها، وحاولت إلقاء اللوم على “الفلسطينيين المسلحين الذين أطلقوا النار على نطاق واسع”.
مع انتشار لقطات إطلاق النار على الإنترنت، قام محللون فلسطينيون بفحص سيل من الأدلة المتراكمة في محاولة لمحاسبة قتلة أبو عاقلة. باستخدام تحديد الموقع الجغرافي والتحليل الجنائي، توصلوا إلى أن الرصاصة التي قتلتها أطلقها جندي إسرائيلي – وهو استنتاج أكدته منذ ذلك الحين الأمم المتحدة والجزيرة ونيويورك تايمز ومجموعة بيلنغكات وإلى حد ما الجيش الإسرائيلي نفسه.
في الأسبوع الماضي، أجرت مؤسسة الحق ووحدة تحقيقات الهندسة الجنائية مزيدا من التحقيق من خلال الاعتماد على التحليل المكاني لإثبات أن أبو عاقلة قد تم استهدافها بشكل مباشر من قبل القوات الإسرائيلية. كان تحقيقهم المشترك إنجازًا رائعًا بالنظر إلى العقبات الهائلة التي خلقها الاحتلال الرقمي والقمع الإسرائيلي المستمر لجماعات حقوق الإنسان. وتعد هذه التحقيقات الجماعية في جرائم الحرب الإسرائيلية المحتملة وانتهاكات حقوق الإنسان شهادة على إمكانات الاستخبارات المصادر المفتوحة، لكن ينبغي ألا يضطر الفلسطينيون إلى الاعتماد على الخبراء الموجودين في الخارج للدفاع عن حقوقهم.
إن الفلسطينيين، الذين يُقيّدهم جهاز مراقبة إسرائيلي خانق واحتلال رقمي، محرومون من الوصول إلى أداة يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في نضالهم من أجل التحرير ومقاومة الجهود المبذولة لإخفاء الحقيقة وإدامة أنظمة السيطرة القمعية. في غياب فرص متساوية، تنضم استخبارات المصادر المفتوحة إلى صفوف الأدوات الرقمية التي اختارها الأقوياء للانقلاب على الأفراد الذين كان من المفترض أن تكون في خدمتهم.
المصدر: فورين بوليسي