ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد مر شهران منذ أن توسطت الأمم المتحدة وتركيا في مبادرة حبوب البحر الأسود في 27 تموز/ يوليو في إسطنبول؛ حيث استأنفت الاتفاقية صادرات الحبوب الأوكرانية، ومهدت الطريق أمام صادرات الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية الروسية للوصول إلى العالم الخارجي. ووفقًا للأمم المتحدة، شُحن ما يقارب 5 ملايين طن من المواد الغذائية والحبوب عبر ممر البحر الأسود منذ بدأ الاتفاق. ومن المتوقع أن تخفف الاتفاقية من أزمة الغذاء العالمية.
تُظهر بيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) انخفاضًا حادًّا في أسعار المواد الغذائية، حيث وصل مؤشر فاو حاليًا إلى 138 (آب/ أغسطس 2022)، منخفضًا عن أعلى مستوى له على الإطلاق عند 160 في آذار/ مارس 2022 (الشكل 1). ومع ذلك، لا تزال أسعار المواد الغذائية أعلى بنحو 8 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، انخفضت أسعار القمح في الأشهر الثلاثة الماضية بنسبة 25-30 بالمائة تقريبا.
وفي هذا السياق؛ كانت أزمة الغذاء العالمية، ومخاطر الأمن الغذائي المتزايدة، وحتى خطر الجوع الجماعي، إلى جانب أهمية صفقة تصدير الحبوب الأخيرة، من أبرز التطورات – على الأقل – في الأشهر القليلة الماضية. وفي هذه المرحلة، من المرجح أن يكون الأمن الغذائي، الذي يزداد خطورة، وتكاليف المعيشة من أهم القضايا والأسئلة التي تواجه الاقتصاد العالمي والبشرية على حد السواء.
علاوة على ذلك؛ تُظهر بيانات برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أنه مقابل كل زيادة بنسبة 1 بالمائة في الجوع العالمي أو مخاطر الأمن الغذائي؛ هناك زيادة بنسبة 2 بالمائة في موجات الهجرة؛ حيث كشفت إحصائيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن الأمن الغذائي يعد السبب الرئيسي وراء مغادرة 67 بالمائة من الأشخاص لمنازلهم في سنة 2021. وهي أرقام لا تبشر بالكثير من الأمل بالنسبة لسنة 2022 التي مزقتها الحرب.
وفي الوقت نفسه، وفقا لبيانات برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة (WFP)؛ ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي على مستوى العالم إلى 1.6 مليار (بزيادة 440 مليونًا) بينما يعيش 250 مليون شخص على خط الفقر. ووفقًا لبيانات الجمعية الخيرية البريطانية “مشروع مكافحة الجوع”، يعيش 811 مليون شخص في العالم تحت خط الفقر وتشكل النساء 60 بالمائة من هذا الرقم.
بشكل أكثر كثافة؛ تعاني العديد من البلدان التي تعتمد على استيراد الحبوب من شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى جنوب آسيا من آثار أزمة الغذاء العالمية هذه. كما مثلت الحرب الأخيرة في أوكرانيا دعوة مهمة للاستيقاظ، لتذكير جميع اقتصادات العالم بمدى أهمية الاكتفاء الذاتي، خاصة في القطاعات الإستراتيجية مثل الزراعة أو الغذاء بشكل عام.
مبادرة حبوب البحر الأسود
أصبحت المحادثات التي قادتها تركيا والاتفاق على السماح بتصدير الحبوب من أوكرانيا إنجازًا كبيرًا لأنقرة، وهو ما يعد أمرا بالغ الأهمية نظرا لأن روسيا وأوكرانيا توفران حوالي ثلث إمدادات الحبوب في العالم، وقد كان الاتفاق نتيجة للجهود الكبيرة التي بذلتها تركيا في الشهرين اللذين سبقا توقيع الصفقة، مما أدى إلى إبرام الصفقة في تموز/ يوليو؛ حيث حصلت تركيا عن ائتمان كبير بفضل دور الوساطة الذي قامت به في الصفقة بين أوكرانيا وروسيا.
وتضمن اتفاقية تصدير الحبوب، الموقعة بموجب ضمانات تركيا والأمم المتحدة، الأمن الغذائي، وساعدت في استئناف الشحنات من أوكرانيا إلى بقية العالم. وسيكون هذا الممر الجديد لتصدير الحبوب في البحر الأسود مُتنفسًا للاقتصاد العالمي، خاصة لمليارات الأشخاص من أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا الذين تأثروا بالطفرة الأخيرة من مخاطر الجوع.
وحققت مبادرة حبوب البحر الأسود نجاحًا دبلوماسيًّا كبيرًا وانتصارًا سياسيًّا وإستراتيجيًّا لتركيا والعالم. علاوة على ذلك؛ فقد كانت خطوة حاسمة إلى الأمام لضمان الأمن الغذائي العالمي، ولا سيما بالنظر إلى أزمة الغذاء الدولية واسعة النطاق التي يواجهها العالم. ومن المرجح أن تزيد هذه الصفقة مرة أخرى من أهمية تركيا ونفوذها في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم.
على الرغم من انعدام الثقة من كلا الجانبين، تمكنت تركيا، بصفتها وسيطًا موثوقًا به، من تأمين اتفاق نهائي. وفي الوقت الحالي، تقوم بدور وسيط من أجل معاهدة سلام محتملة كاملة النطاق، بعد أن ساعدت في ترتيب تبادل مهم وحاسم للأسرى بين البلدين المتحاربين.
التأثيرات العالمية
من المرجح أن تتأثر المنتجات الزراعية وأسعار الطاقة وأسعار المواد الغذائية وأسعار السلع بهذه الصفقة وبما ينتج عنها من تحسن في الإمدادات والأمن. وقد سبق وأن انخفضت أسعار القمح بالفعل بنسبة 30-40 بالمائة في منتصف آب/ أغسطس، مقارنة بشهر أيار/ مايو 2022. وفي الوقت الحاضر، وصلت قيمة العقود الآجلة للقمح إلى 8 دولارات.
ووفقًا لبيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، بلغت أسعار المواد الغذائية بالفعل ذروتها في 10 سنوات بحلول سنة 2021. وتزامنًا مع الحرب، تصاعدت الأسعار بسبب الانخفاض في الإنتاج، وتعطل سلسلة إمداد الحبوب المتمركزة في البحر الأسود، وارتفاع تكاليف التأمين والنقل، وتزايد المخاوف بشأن أمن الإمدادات.
بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ ارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء (FFPI) بنسبة 13 بالمائة شهريًا إلى 159.7 – وهو أعلى مستوى جديد على الإطلاق- في آذار/ مارس 2022. (الشكل 1) وفي فترة ما بين نيسان/ أبريل وآب/ أغسطس 2022؛ حدث انحدار جزئي وانخفض مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء إلى 138. ومع ذلك، بعد الصفقة، وإلى جانب توفر شحنات الحبوب من أوكرانيا، انخفضت أسعار القمح بنسبة 30-40 بالمائة عن ذروتها في ربيع 2022.
وفي تركيا؛ بلغ مؤشر أسعار المدخلات الزراعية لمعهد الإحصاء التركي لشهر تموز/ يوليو 2022 مستوى غير مسبوق قيمته 133.4 بالمائة (الشكل 2)؛ ووفقًا للبيانات المُستمدة من الرقم القياسي لأسعار المدخلات الزراعية، هناك دليل واضح على ارتفاع الأسعار حتى في المدخلات الزراعية. وقد لوحظت أعلى زيادة في أسعار الأسمدة بنسبة 235 بالمائة على أساس سنوي، تليها أسعار الطاقة بنسبة 201 بالمائة على أساس سنوي. وينبغي أن تبدأ آثار هذه الأسعار المُرتفعة على الإنتاج الزراعي والحصاد في الانعكاس تدريجيًّا.
بشكل عام، تتمحور مبادرة حبوب البحر الأسود حول:
– المساعدة في تخفيف أزمة الغذاء العالمية
– تخفيف النقص في الغذاء
– خفض أسعار المواد الغذائية والحبوب بشكل عام
– المساعدة في تفريغ صوامع الحبوب الكاملة بالفعل في أوكرانيا
– تشجيع الأوكرانيين على زرع بذور الموسم المقبل
– خفض تكاليف التأمين والنقل
كما سيتم تعويض خسائر الإنتاج بسبب موجات الحر والجفاف وما إلى ذلك، وسيكون تضخم الغذاء محدودا وخاضعا للسيطرة.
الأهمية الإستراتيجية المتزايدة لتركيا
من المتوقع أن تخفف مبادرة حبوب البحر الأسود من أزمة الغذاء العالمية وتضخيم الأمن الغذائي، لكنها تحمل أيضًا علامات واضحة على:
– الأهمية الإستراتيجية والسياسية المتزايدة لتركيا،
– الأهمية المتزايدة لممر الحبوب بالبحر الأسود،
– هيمنة روسيا وأوكرانيا في سوق الحبوب والأغذية العالمية.
من أجل فهم الوضع بشكل أفضل؛ يحتاج المرء إلى فهم أزمة الغذاء العالمية الحالية بصورة كاملة. فعلى سبيل المثال؛ تعتبر روسيا وأوكرانيا من الموردين العالميين الرئيسيين للقمح، وينتجان معًا حوالي ثلث إمدادات القمح العالمية، ويوفران ما يقرب من ثلث إجمالي صادرات القمح، وربع إجمالي صادرات الحبوب؛ حيث يتم توفير حوالي ربع تجارة الحبوب العالمية البالغة قيمتها 120 مليار دولار من قبل أوكرانيا وروسيا.
ووفقًا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لسنة 2020، توفر أوكرانيا 92 بالمئة من واردات القمح لمولدوفا، و81 بالمئة من واردات لبنان، و 64 بالمئة من واردات قطر، وحوالي 50 بالمئة من واردات تونس وليبيا وباكستان. وتستورد 26 دولة مختلفة ما لا يقل عن نصف وارداتها من القمح من روسيا أو أوكرانيا.
ونظرًا لاعتمادها الكبير نسبيًا على روسيا، فإن أسعار الغذاء والطاقة في أوروبا ترتفع أكثر من غيرها، وقد كانت الاقتصادات الأوروبية بشكل عام الأكثر تضررا من الحرب. لقد أدى الارتفاع الشديد في أسعار الطاقة والغذاء إلى ارتفاع معدلات التضخم في الاتحاد الأوروبي على امتداد 30 سنة؛ وفي بعض الحالات، إلى أعلى مستوى له في 40 سنة، كما أن معدلات البطالة آخذة في الارتفاع.
وفي الوقت نفسه؛ يؤثر هذا الاتجاه على الفقراء على نحو غير متكافئ؛ حيث يتوقع صندوق النقد الدولي تراجع معدل نمو بنسبة 2.6 بالمئة لمنطقة اليورو في سنة 2022.
عهد جديد
يعتبر الأمن الغذائي وأمن الطاقة أهم قضيتين يواجهان العالم اليوم، وخصوصًا عندما أدت الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت في 24 شباط/ فبراير 2022، إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية. ومن المتوقع أن يؤثر نقص الحبوب والغذاء بشكل كبير على اقتصادات الشرق الأوسط وأفريقيا المجاورة، كما أنه من المتوقع أن يؤدي انعدام الأمن الغذائي إلى موجات جديدة من الهجرة نحو تركيا وأوروبا، وبالتالي فهو يمثل مشكلة أمنية أيضًا.
كان الغذاء قضية إستراتيجية في القرن الحادي والعشرين المكتظ بالسكان والمعرض لعدم المساواة؛ فلقد أدى ارتفاع الطلب بعد الجائحة، وقضايا سلسلة التوريد، والجفاف، وتغير المناخ، وعادات التخزين إلى تدهور الوضع.
وتعتبر المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة أن أزمة الغذاء الحالية (وأزمة السلع بشكل عام) قضية حاسمة يجب أن تؤخذ على محمل الجد. وفي غضون ذلك؛ من المتوقع أن تستمر أزمة الغذاء المستمرة لسنة أخرى على الأقل.
علاوة على ذلك؛ فإن تغير المناخ والتلوث والاستخدام الفعال للمحاصيل الزراعية بالإضافة إلى إدارة سلسلة التوريد كلها تحظى باهتمام كبير، ويمكن للصين أن تساهم بشكل كبير في في إدارة سلسلة التوريد من خلال مبادرة الحزام والطريق، ودورها النشط في قدرات المحاصيل الحقلية الاحتياطية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي التعامل مع التخزين.
في غضون ذلك؛ ليس هناك شك في أن المستقبل يكمن في الأمن الغذائي والتكنولوجيا والزراعة؛ حيث تعتبر الزراعة والغذاء من أكثر القطاعات إستراتيجية في القرن الجديد. وبحلول سنة 2050؛ من المتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى 9 مليارات، وسيعيش 70 بالمئة من هؤلاء السكان في المناطق الحضرية. ومن ثم، فإن الأمن الغذائي سيكون قضية أكثر أهمية بكثير عند التطلع إلى المستقبل.
ومع ذلك؛ فإن الحرب في أوكرانيا تسببت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والأسمدة والمبيدات الحشرية. وتؤدي مشاكل سلسلة التوريد، خاصة في سلسلة التوريد بالبحر الأسود وممر الحبوب، إلى زيادة تكاليف التأمين واللوجستيات لجميع أنواع الصادرات. لذلك، ينبغي أن يُنظر إلى أزمة الغذاء ومخاطر الجوع اليوم باعتبارها مشكلة عالمية وتحدي متزايد ومستمر ينبغي معالجتها بسرعة.
وسوف تساعد صفقة الوساطة في الإمدادات الغذائية بين أوكرانيا والعديد من المشترين الدوليين تركيا أيضًا على تحسين معاييرها المالية الكلية، ولا سيما أسعار المواد الغذائية التي تؤثر حاليا على الاقتصاد التركي.
ويعتبر ارتفاع أسعار المواد الغذائية من أهم العوامل المساهمة في ارتفاع التضخم في تركيا. وفي الوقت نفسه؛ تعد روسيا وأوكرانيا من بين الشركاء التجاريين الأوائل لتركيا. لذلك، فإن انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية وعملية السلام الجديدة مهمان أيضًا للاقتصاد التركي.
المصدر: بوليتكس توداي