ترجمة وتحرير: نون بوست
شهد أهالي البصة على الوحشية الإمبراطورية عندما داهم الجنود البريطانيون القرية بعد الفجر. فُتحت مدافع رشاشة مثبتة على سيارات رولز رويس مدرعة النار على سكان القرية الفلسطينية ثم وصلت مجموعات البنادق الملكية الإرلنديّة ومعها مشاعل نار وأحرقت المنازل بالكامل، بينما اعتُقل الناجون من أهالي القرية ليُجبروا في وقت لاحق على قيادة حافلة فوق لغم أرضي ليموت جميع من كانوا على متنها.
صوّر شرطي بريطاني هذا المشهد بينما كانت النساء يجمعن رفات موتاهن قبل دفن الأشلاء المشوهة في حفرة. كان ذلك في خريف 1938 وكانت القوات البريطانية تواجه تمردًا في فلسطين، التي كانت تحت السيطرة البريطانية بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية قبل عقدين من ذلك.
كانت الغارة البريطانية على البصة جزءا من سياسة معلنة من قبل القائد المحلي في إجراء “عقابي” ضد قرى فلسطينية بأكملها، وذلك بعد أن تسببت قنبلة مزروعة على جانب الطريق في قتل أربعة جنود بريطانيين، بغض النظر عن وجود أي دليل عن الطرف المسؤول.
رُفع الستار عن هذه الفظائع في روايات الجنود وأهالي القرية بعد عقود من مغادرة المملكة المتحدة البلاد. وقد أصبحت هذه الروايات تشكل جزءا من ملف يُعرض على الحكومة البريطانية للمطالبة بالمساءلة على ما تعرّض له الفلسطينيون من جرائم حرب مزعومة من قبل القوات البريطانية.
تطالب العريضة، التي تضم 300 صفحة من ملفات الأدلة، بإقرار واعتذار رسميين عن الانتهاكات خلال فترة الحكم البريطاني لفلسطين من سنة 1917 حتى 1948، وهي الفترة التي انسحبت بعدها بريطانيا بسرعة وتم الإعلان عن “دولة إسرائيل”.
تتضمن مراجعة البي بي سي للأدلة التاريخية المدرجة تفاصيل عن القتل التعسفي والتعذيب واستخدام الدروع البشرية وهدم المنازل كعقاب جماعي. نُفّذت معظم هذه الإجراءات في إطار المبادئ التوجيهية للسياسة الرسمية للقوات البريطانية في ذلك الوقت أو بموافقة كبار الضباط.
قال عيد حداد، وهو ابن اثنين من الناجين من البصة، في حديث خلال برنامج “بي بي سي نيوزنايت”: “أردت أن يعلم الناس أن والديّ كانا يعانيان منذ أن كانا في سن المراهقة. وعلينا الآن أن نتحدث نيابة عن الأشخاص الذين لاقوا حتفهم”. وفي بيان لها، قالت وزارة الدفاع البريطانية إنها كانت على علم بوجود ادعاءات تاريخية ضد أفراد القوات المسلحة خلال تلك الفترة، وإن أي دليل يتم تقديمه سيخضع “لمراجعة شاملة”.
من المرجح أن يؤدي طلب الاعتذار إلى إعادة إحياء النقاش حول تحقيق المساءلة العصريّة عن جرائم الحقبة الاستعمارية، بينما يسلّط الضوء أيضًا على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر. يُقيّم هذان المجتمعان الإرث التاريخي لبريطانيا من وجهات نظر مختلفة، وقد قاوم كلاهما في أوقات مختلفة العداء أو الإساءات أو الوعود الكاذبة خلال حكم المملكة المتحدة.
جاء هذا الطلب من طرف منيب المصري (88 عاما)، وهو رجل أعمال فلسطيني وسياسي سابق معروف أصيب برصاص القوات البريطانية عندما كان صبيا في سنة 1944. تحدّث المصري مع بي بي سي في منزله في نابلس بالضفة الغربية المحتلة قائلا: “أثّر [الدور الذي اضطلعت به بريطانيا] علي كثيرا لأنني رأيت كيف يتعرض الناس للمضايقات.. ليس لدينا أي حماية على الإطلاق ولا أحد ليدافع عنا”.
طلب المصري من محاميين دوليين معروفين مشاركين في المشروع إجراء مراجعة مستقلة للأدلة، وهما لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية، والمحامي البريطاني بن إيمرسون، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.
يقول إيمرسون إن الفريق القانوني قد اكتشف أدلة على “جرائم مروعة ارتكبتها عناصر معينة من قوات الانتداب البريطاني بشكل منهجي ضد السكان الفلسطينيين”، وصرّح لبي بي سي “أن بعض هذه الجرائم على درجة كبيرة من الخطورة لدرجة أنها كانت لتعتبر حينها انتهاكات للقانون الدولي العرفي”.
أقفاص الأسلاك الشائكة
من المقرر أن يقدم المصري الملف إلى حكومة المملكة المتحدة في لندن في وقت لاحق من هذا العام، ويشير التماسه إلى فظاعة أخرى وقعت في صيف 1939 عندما أجرى جنود من فوج بلاك ووتش عملية تفتيش للأسلحة في قرية حلحول الواقعة في الضفة الغربية.
وصفت الروايات المتعددة من كل من السكان والجنود البريطانيين بالتفصيل الطريقة التي تمت بها مداهمة المنازل واعتقال أهالي القرية تحت تهديد السلاح، قبل أن يتم جمع ما يصل إلى 150 رجلا في مكان خلف أحد المساجد وإجبار العديد منهم على البقاء داخل أقفاص من الأسلاك الشائكة. يقول محمد أبو ريان (88 عاما)، الذي كان صبيا عندما اقتحم الجنود البريطانيون منزله واحتلوا السطح: “هؤلاء ليسوا ثوارا بل مزارعون ذلك أن الثوار الحقيقيين يختبئون في الجبال”.
كان أبو ريان يعرف الكثير من الناجين من أقفاص حلحول. خلال أسبوعين من تعرّضهم للأسر في الحر الشديد، توفي 13 شخصا بسبب الجفاف، بينما أصيب شخص واحد على الأقل برصاصة أثناء محاولته الهرب. قال أبو ريان لبي بي سي في منزله في حلحول: “لقد بدأوا في حفر التربة محاولين أكل الجذور، ووضعوا الأوساخ المبللة على جلدهم فقط في محاولة لتبريد أجسادهم”.
قدر مسؤول بريطاني في ذلك الوقت أن عدد القتلى سجّل انخفاضا طفيفا. وكتب مفوض المقاطعة آنذاك إدوارد كيث روتش في رسالة خاصة: “بعد 48 ساعة من المكافحة، كان معظم الرجال مرضى للغاية وتوفي 11 من كبار السن والضعفاء، وقد تلقيت تعليمات بعدم إجراء تحقيق مدني”.
كشف وصف استثنائي قدمه المقدم اللورد دوغلاس جوردون، وهو تابع سابق لفوج بلاك ووتش، عن وجود “قفص جيد” يحتوي على خيام للمأوى وكميات مياه غير محدودة، بجوار “القفص السيئ حيث لم يكن لديهم مأوى، لقد تم توزيع، على ما أعتقد، نصف لتر من الماء يوميًا”.
توترات متزايدة
بدأت سيطرة بريطانيا على فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى عندما طردت قواتها الإمبريالية القوات التركية العثمانية. في سنة 1917، تعهد وزير الخارجية آرثر بلفور للحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود فيما أصبح يعرف باسم وعد بلفور.
مُنحت المملكة المتحدة تفويضًا بالحكم، مما سمح بارتفاع مستويات الهجرة اليهودية والاستحواذ على الأراضي وأدى ذلك إلى تأجيج التوترات المتزايدة مع العرب الفلسطينيين والتي كثيرًا ما تحولت إلى أعمال عنف.
شهد الوجود البريطاني الذي دام ثلاثة عقود سلسلة من الانتكاسات الفوضوية في السياسة حيث كافحت القوات لاحتواء العنف المتزايد – بين الفلسطينيين واليهود، وفي مرات مختلفة، بين الجماعات المسلحة من كلا الجانبين ضد القوات البريطانية. اندلعت ثورة فلسطينية – تُعرف بالثورة العربية – منذ سنة 1936، وأغرقت لندن البلاد بالقوات.
كانت الفظائع التي ارتكبتها بريطانيا في فلسطين “عنيفة ومثيرة” ولكنها “استثنائية”، وفقًا للمؤرخ العسكري البروفيسور ماثيو هيوز، الذي قال إن تكتيكات القوات البريطانية لم ترقَ عادة إلى مستويات الوحشية التي تمارسها في بعض المستعمرات الأخرى.
بدلاً من ذلك، فرضت بريطانيا – على حد تعبيره – نظام “التهدئة اليومية” الذي كان “أكثر جوهرية وتراكمية واستنزافًا في إنهاك الفلسطينيين”، مستشهدًا بإجراءات تشمل القيود على الحركة وحظر التجول ومصادرة الممتلكات أو المحاصيل كإجراءات عقابية فضلاً عن الاعتقال التعسفي واستخدام السخرة لبناء الطرق والقواعد العسكرية.
يقول البروفيسور هيوز، مؤلف كتاب “التهدئة البريطانية لفلسطين”: “أصبحت البلاد بأكملها سجنًا”. ويضيف أن المبادئ التوجيهية العسكرية للمملكة المتحدة سمحت للقوات بتنفيذ “عقوبات جماعية” – غالبًا ما تنطوي على هدم منازل – بالإضافة إلى “الانتقام” وإطلاق النار على مثيري الشغب، بينما كان من الشائع أيضًا إطلاق النار على المشتبه بهم الذين كانوا يفرون.
“ربطهم بالأحزمة وضربهم”
عُثر على مذكرات العديد من الجنود وضباط الشرطة البريطانيين في فلسطين في أرشيفات متحف الحرب الإمبراطوري في لندن. وتشرح بعض شرائط الفيديو التاريخية بالتفصيل روايات عن الحملات “العقابية” واستخدام الدروع البشرية والتعذيب.
قال فريد هوبروك، ضابط في كتبية مانشستر، إنهم ذهبوا إلى القرى و”هدموا بعض المنازل وأشياء من هذا القبيل” بينما كان السكان فقط يشاهدون ما يحدث. وصف جندي آخر من كتيبة مانشستر يدعى آرثر لين، كيف كانوا “ينزلون إلى سجن عكا ويستعيرون خمسة أو ثلاثة ثوار، ليجعلوهم يجلسون على غطاء محرك السيارة ليتمكن الرجل الموجود في أعلى التل من رؤية رجل عربي في الشاحنة حتى لا يفجرها … إذا كان الثائر سيئ الحظ، فإن الشاحنة القادمة من الخلف ستضربه. لكن لم يكلف أحد نفسه عناء جمع الجثث. لقد تُركوا”.
كما تحدث عن ممارسة فظيعة تسمى “الركض بين القفازات” حيث يُجبر الفلسطينيون المشتبه بهم على الركض بين صفين من الجنود البريطانيين حيث يتم “ربطهم بالأحزمة وضربهم” بأعقاب البنادق والفؤوس. وقال “كل من يموت، يُنقل إلى عربة الطبيب أخرى ثم يُرمون في إحدى القرى بعيداً”.
شهدت فترة الانتداب البريطاني في نهاية المطاف استخدام “أساليب سيئة للسيطرة” على كل من اليهود والعرب، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، مؤلف كتاب “فلسطين واحدة، كاملة”. وقال لبي بي سي: “أدرك البريطانيون في وقت مبكر من سنة 1937 أنه لا يمكن أن ينجح الأمر، وأنه يجب عليهم الخروج من هنا حقًا … وأن الصراع بين اليهود والعرب ليس له حل فعلياً”.
يظل العديد من الإسرائيليين ممتنين لوعد بلفور، يقول سيغيف إنه بحلول الأربعينيات من القرن الماضي، ازداد التوتر بين الصهاينة والبريطانيين “بشكل سيئ للغاية”، ويضيف: “شعر بعض اليهود أن البريطانيين يخونونهم”. وشهدت تلك الفترة إعادة بريطانيا لسفن الناجين من المحرقة النازية الذين كانوا يحاولون الوصول إلى فلسطين. ويتابع: “لقد كان البريطانيون قادة أقوياء للغاية وكل ما أرادوه هو: “اصمت، لا تزعجنا بمشاكلك، فنحن لا نهتم حقًا بمن هو على صواب ومن على خطأ”. ولذا فقد طبقوا أساليب إدارة سيئة للغاية.
في غضون ذلك، يسعى السيد منيب المصري إلى إظهار أن الصراع الذي أعقب ذلك ترك الفلسطينيين معرضين للخطر تمامًا، حيث تبنت “دولة إسرائيل” المنشأة حديثًا بعض الصلاحيات الاستثنائية التي تركها البريطانيون. حيال هذا الشأن، يقول: “يجب على بريطانيا أن تنظر في سبل ووسائل التعويض.. وأن تكون شجاعة وتقول: “نعتذر على ما ارتكبناه”.
المصدر: بي بي سي