جاء قرار منظمة “أوبك+” تخفيض إنتاجها النفطي بمثابة الصدمة للولايات المتحدة ودول أوروبا التي كانت تعول على نجاح مفاوضات زيادة الإنتاج للتقليل من تداعيات تقليص الإمدادات الروسية من النفط جراء الحرب الأوكرانية التي تسببت في إحداث هزة عنيفة في سوق الطاقة منذ فبراير/شباط الماضي.
القرار اعتبرته واشنطن إعلانًا صريحًا لدعم المنظمة لموسكو في نزاعها مع الغرب، فيما رآه آخرون برغماتية واضحة لدى الدول المنتجة للنفط التي تبحث عن مصالحها الخاصة، مستفيدة من الارتفاع الجنوني في أسعار المادة الخام التي قفزت إلى مستويات عام 2008 الشهيرة.
خطوة كهذه في ذروة الأزمة التي فجرتها الحرب الروسية على أوكرانيا وما لها من تبعات لا شك أنه سيكون لها ارتدادات كبيرة على مسار العلاقات بين أمريكا وأوروبا من جانب والسعودية وحلفاء المنظمة من جانب آخر، وهو ما بدأ البيت الأبيض يلوح به بشكل غير مباشر.
وكانت “أوبك+” قد قررت في اجتماعها الذي عقد في العاصمة النمساوية فيينا، الأربعاء 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وهو الاجتماع الأول لها منذ مارس/آذار الماضي، مع تفشي جائحة كورونا، تخفيض إنتاجها النفطي بمقدار مليوني برميل يوميًا اعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فيما تم استثناء كل من ليبيا وإيران من هذا القرار.
وبحسب القرار ستخفض السعودية وروسيا إنتاجهما النفطي من 11 مليون برميل يوميًا إلى 11.4 مليون برميل، لكل منهما على حدة، فيما يتراجع الإنتاج العراقي من 4.6 مليون إلى 4.4 مليون برميل، والإمارات من 3.18 إلى 3.01 مليون برميل يوميًا، أما الكويت فينخفض حجم إنتاجها اليومي من 2.8 مليون برميل إلى 2.6 مليون.
خيبة أمل
قبل شهرين ونصف تقريبًا توجه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مدينة جدة السعودية (غرب) حيث المشاركة في قمة جدة للأمن والتنمية، بحضور قادة الخليج وزعماء مصر والعراق والأردن، وذلك في إطار جولته الشرق أوسطية التي استمرت أربعة أيام (13-16 يوليو/تموز 2022)، وشملت بجانب المملكة، كل من “إسرائيل” وفلسطين وكانت الزيارة الأولى له منذ توليه مهام منصبه.
الزيارة حينها هدفت إلى تحقيق حزمة من الأهداف على رأسها إقناع الرياض بزيادة معدلات الإنتاج النفطي بما يعوض الإنتاج الروسي تجنبًا لتفاقم أزمة الطاقة العالمية بعدما وصلت الأسعار إلى أرقام فلكية ترهق اقتصادات العالم، تكرارًا لسيناريو 2008 حين زار الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش السعودية لطلب زيادة الإنتاج حتى يتراجع السعر الذي بلغ حينها 147 دولارًا للبرميل في يوليو/تموز من نفس العام، وعلى الفور تمت الاستجابة، فتراجع سعر البرميل إلى أقل من 42 دولارًا بنهاية العام، أي بعد أقل من 6 أشهر من الزيارة.
لكن شتان شتان بين ما حدث مع بوش وما يحدث اليوم مع بايدن، حيث أعلنت المملكة على لسان وزير خارجيتها فيصل بن فرحان في بيان قمة جدة الختامي أن الطاقة الإنتاجية القصوى التي ستصل إليها بلاده لن تتجاوز 13 مليون برميل من النفط يوميًا، منوهًا حينها على أن أوبك+ لديها منظومة قائمة لمتابعة الأسواق وضمان إمدادها بما تحتاجه من الطاقة.
ورغم ذلك كان بايدن يراهن على استجابة المملكة للضغوط التي تمارسها إدارته في ظل حرب الاستقطابات التي تشهدها الخريطة العالمية والمصالح القوية التي تجمع بين الرياض وواشنطن، غير أن قرار المنظمة التي تقودها السعودية قبل يومين بتخفيض الإنتاج بمعدل مليوني برميل نفط يوميًا كان صادمًا للجميع، وعكس التوقعات والآمال التي كان يعلقها الأمريكان على حلفائهم الخليجيين في حرب النفوذ التي تشنها بلادهم وجيرانهم الأوروبيين مع الدب الروسي.
تعاملت إدارة بايدن مع ملف الطاقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية كأحد الأوراق السياسية المهمة التي يمكن الاستعانة بها في صراع النفوذ مع الجمهوريين، لا سيما بعد تراجع شعبية الرئيس إلى أدنى مستوياتها، إذ كانت تنظر لتلك المسألة على أنها “قشة الإنقاذ” التي تعيد الديمقراطيين لحلبة المنافسة والصراع مرة أخرى من أوسع الأبواب.
#بايدن يحمل #السعودية و #روسيا مسؤولية ارتفاع أسعار #البنزين
بعد قرار “أوبك +” خفض إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل يومياhttps://t.co/WyFfF3z8vR pic.twitter.com/TLLKHx0YG6
— ANADOLU AGENCY (AR) (@aa_arabic) October 8, 2022
تحالف أوبك مع روسيا.. أمريكا تتهم
في أول ردة فعل له على هذا التطور اتهم البيت الأبيض المنظمة النفطية بالتحالف مع روسيا، لافتًا على لسان المتحدثة باسمه، كارين جان بيير، في تصريحاتها للصحفيين على متن طائرة الرئاسة: “من الواضح أن أوبك+ ينحاز إلى جانب روسيا”، مضيفة أن “حرب (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين تلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي، وبالتالي فإن القرار سيؤثر سلبًا على البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل”.
القرار أحدث حالة من الصدمة لدى صناع القرار في الإدارة الأمريكية كذلك، حيث قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وكبير المستشارين الاقتصاديين بريان ديزي: “بايدن يشعر بخيبة أمل من القرار، بينما يتعامل الاقتصاد العالمي مع التأثير السلبي المستمر لغزو بوتين لأوكرانيا”.
ودخلت العلاقات بين واشنطن ومنظمة “أوبك” خلال الآونة الأخيرة موجات من المد والجزر بسبب تباين وجهات النظر بشأن مسألة رفع الإنتاج النفطي اليومي لسد العجز المحتمل جراء تقليص الإمدادات الروسية، وهي المعارك الجانبية التي شهدت كرًا وفرًا بين الرضوخ لتلك الضغوط أحيانًا والهروب منها أحايين أخرى.
وكان بايدن يعول على حلفائه الخليجيين، السعودية والإمارات وقطر، في حسم تلك المعركة، لكنه الرهان الذي يبدو أنه فشل في ظل توتر علاقات إدارته مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والموقف المتخذ سابقًا من المملكة بسبب سجلها الحقوقي المشين، ما سيجعله مضطرًا للإفراج عن مخزونه النفطي لسد العجز المتوقع، بما يعد ضربة موجعة للاقتصاد الأمريكي الذي يعاني هو الآخر من واقع مأزوم أسوة ببقية الاقتصادات الدولية خلال الآونة الأخيرة.
واشنطن تدرس الخيارات
الخطوة السعودية الأخيرة لا شك أنها ستكون محل دراسة وتقييم لدى الإدارة الأمريكية التي استشعرت بهذا القرار الحرج إزاء نفوذها المتراجع في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يمكن أن يكون له تداعياته على انتخابات التجديد النصفي المقرر لها الشهر المقبل التي يستغلها الحزب الجمهوري للتقليل من شأن منافسه الديمقراطي وفشله في الحفاظ على صورة الولايات المتحدة ونفوذها الخارجي.
وزير الخارجية أنطوني بلينكن قال في مؤتمر صحفي له أول أمس إن بلاده تدرس “عددًا من خيارات الرد” في إشارة منه إلى علاقات بلاده مع السعودية على خلفية قرار المنظومة الأخيرة، مضيفًا “تحرك أوبك لخفض إنتاج النفط قصير النظر ومخيب للآمال”، بحسب شبكة “سي إن إن” الأمريكية.
برلمانيًا.. وفي تصعيد مواز تقدم 3 أعضاء من مجلس النواب الأمريكي بمشروع قانون يقضي بإزالة الأصول العسكرية الأمريكية الموجودة في السعودية والإمارات، فيما أكد بلينكن أن بلاده لن تتخذ أي إجراء يضر بمصالحها، مضيفًا “سنضع جميع هذه المصالح في الاعتبار ونتشاور عن كثب مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين عندما نقرر اتخاذ أي خطوات”.
الصدمة التي تلقتها أمريكا جراء هذه الخطوة ستدفعها حتمًا نحو إعادة النظر في بعض المواقف والتوجهات السابقة، أبرزها نيتها في تخفيض العقوبات المفروضة على فنزويلا والسماح لشركة شيفرون كورب باستئناف ضخ النفط هناك، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، هذا بخلاف فتح قنوات اتصال مع بعض الدول المنتجة للنفط التي كانت إما غائبة عن الاهتمام الأمريكي وإما خاضعة للعقوبات، وهو ما أشارت إليه الخارجية الأمريكية التي أوضحت أن زيارة وزيرها لبيرو قبل أيام كانت بهدف حضور اجتماعات الجمعية العامة السنوية لمنظمة الدول الأمريكية (OAS) ضمن جولة له في أمريكا اللاتينية، تهدف إلى تعزيز أوجه التعاون مع بعض الدول للحصول على إنتاجها النفطي وزيادة معدلات الضخ في الأسواق العالمية.
أما على المستوى الأوروبي فإن الرد المتوقع ربما يقل في درجة حدته عن نظيره الأمريكي، وهو ما يمكن قراءته من خلال ردود الفعل الأوروبية بشأن الموقف من روسيا منذ بداية الغزو، حيث يعاني الجدار الأوروبي من تباين واضح في وجهات النظر إزاء هذا الملف، وذلك وفقًا لدرجة تأثر كل دولة على حدة وقدرتها على الاستمرار في الخندق الأمريكي وتحمل تبعاته.
برغماتية سعودية
رغم أن القرار يمكنه إنعاش خزائن موسكو ويعوض إلى حد ما التداعيات المحتملة الناجمة عن حظر الاتحاد الأوروبي معظم صادراتها من النفط في وقت لاحق من هذا العام كما تم الاتفاق على ذلك، لكنه في الأساس لم يكن لتحقيق هذا الهدف وفق ما أشار البيت الأبيض، فالسعودية ودول أوبك وحلفاؤها تبحث عن مصالح المنظمة ومصالحها الخاصة في الأساس دون النظر إلى المصلحة الروسية تحديدًا، هذا ما أشار إليه الخبير السياسي السعودي أحمد آل إبراهيم في تصريحاته لموقع قناة “الحرة” الأمريكية.
وأوضح آل إبراهيم أن “أسعار الغاز التي تبيعها أمريكا إلى ألمانيا والدول الأوروبية تمثل ضعفي ما كانت عليه أسعار الغاز القادم من روسيا”، وأضاف “واشنطن تبحث عن مصالحها. لماذا يغضب البيت الأبيض وواشنطن عندما تبحث أوبك عن مصالحها؟”، وهو الرأي ذاته الذي ذهب إليه المحلل السياسي في معهد هدسون الأمريكي ريتشارد واينز حين قال: “السعوديون قرروا الاصطفاف إلى جانب مصالحهم”.
وتتبنى المملكة في الآونة الأخيرة سياسة برغماتية بامتياز، ساعدها على ذلك الأجواء التي تشهدها الساحة العالمية، التي سمحت لها بالتزحزح نسبيًا عن العباءة الأمريكية التي كانت قابعة تحت ظلها عقود طويلة، مستفيدة من حرب الاستقطابات بين واشنطن وموسكو، وهي الحرب التي تحاول الرياض توظيفها لمصالحها الخاصة دون خسارة أي من القطبين.
ويعلم السعوديون جيدًا حجم حاجة الأمريكان والغرب عمومًا لإنتاجهم من النفط في المرحلة الحاليّة والمقبلة في ظل إستراتيجية التخلي عن الإمدادات الروسية، وهي العصا التي يقتص بها ابن سلمان من تجاهل وتهميش الغرب له خلال السنوات الماضية، لا سيما الديمقراطيين أصحاب المواقف المناوئة للأمير الشاب، مع الوضع في الاعتبار مصالح بلاده حيث الاستفادة من الارتفاع الكبير في سعر النفط بما يساعده في تنفيذ مشروعاته التي يتعامل من خلالها كأوراق اعتماد رسمية لخلافة والده في حكم المملكة.
ليس من المرجح أن تصعّد الولايات المتحدة إزاء أعضاء أوبك على خلفية قرارهم الأخير، رغم ارتداداته السلبية، رضوخًا للمستجدات الإقليمية والدولية التي فرضتها التطورات الأخيرة، غير أن ما حدث لا شك أنه سيلقي بظلاله على شعبية وجماهيرية إدارة بايدن، ما قد يُترجم عمليًا خلال الماراثون الانتخابي المقبل من جانب، ومن جانب آخر على العلاقات الأمريكية السعودية تحديدًا، وهو ما يمكن تلمسه بين الحين والآخر في صورة حملات إعلامية وتحركات برلمانية لكن دون الوصول إلى مرحلة القرارات الرسمية حفاظًا على مصالح الأمريكان التي تمثل المملكة ضلعًا كبيرًا فيها نظرًا لقيمتها النفطية ونفوذها الشرق أوسطي.