ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل نصف قرن، تمخّض عن حرب أكتوبر التحريرية بين إسرائيل والدول العربية تكتل جديد من منتجي النفط في قلب السياسة العالمية. ونتج عن إيقاف منظمة البلدان العربية المصدرة للنفط، بما فيها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إمدادات النفط إلى البلدان الغربية التي دعمت إسرائيل أول صدمة نفطية عالمية.
يوم الأربعاء، الموافق ليوم الغفران المقدس لليهود، تحرّكت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها النفطيون – متمثلين الآن في روسيا ضمن مجموعة أوبك بلس – لقلب نظام الطاقة العالمي مرة أخرى. قد يبدو قرارهم بخفض مليوني برميل في اليوم من أهداف الإنتاج، أو ما يعادل 2 في المئة من العرض العالمي، متواضعًا لكن القيام بذلك بينما يتم تداول خام برنت بسعر 90 دولارًا للبرميل – ما يقارب ضعف سعره التاريخي طويل الأجل – يمثل تهديدًا للاقتصاد العالمي الذي يعصف به التضخم، ويزيد من قلق المستهلكين بشأن أسعار الطاقة ونقصها، ويشكل خرقًا جديدًا وربما خطيرًا بين الدول المنتجة والمستهلكة خاصة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
يأتي توقيت التخفيض في الإنتاج في لحظة هامة بالنسبة للولايات المتحدة بشكل خاص، وتحديدًا بعد شهرين ونصف فقط من لقاء الرئيس جو بايدن مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جدة، وقبل خمسة أسابيع من انتخابات التجديد النصفي لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر. قبل أيام من ذلك، سافر مبعوثون من البيت الأبيض إلى المملكة العربية السعودية لمناشدة المملكة عدم تخفيض إنتاج النفط. وبدلاً من ذلك، حسم الأخ غير الشقيق للأمير محمد، وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، النتيجة لخفض الإمدادات في مقر أوبك في شارع هيلفيرستورفر في فيينا وكان إلى جانبه نائب رئيس وزراء فلاديمير بوتين، ألكسندر نوفاك، بعد أيام فقط من فرض الولايات المتحدة عقوبات عليه.
قال روجر ديون، مراقب أوبك المخضرم في مزود البيانات “إس آند بي غلوبال كوموديتي إنسايت”، في مذكرة له إن التخفيضات تمثل “تسليحًا للنفط” وأن توقيت ومكان الاجتماع كانا إشارة متعمّدة من المنظمة، مضيفًا أن وجود نائب رئيس الوزراء الروسي الخاضع للعقوبات الأمريكية لمناقشة تشديد الامدادت النفطية، مع اقتراب فصل الشتاء وقيام روسيا فعليا بإضفاء الطابع العسكري على صادراتها من الغاز إلى أوروبا، يبعث برسالة واضحة”.
وحسب ديون فإن “المسار العدائي للمملكة العربية السعودية سيزيد من المخاطر التي تنطوي على ارتفاع أسعار النفط”. بالنسبة للمملكة العربية السعودية، التي اعتمدت منذ فترة طويلة على الولايات المتحدة للحصول على الدعم العسكري كجزء من تحالف الطاقة مقابل الأمن خلال حربين في الخليج وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر، فإنها تبرز ثقة جديدة في قدرتها على التحرر من الضغط الأمريكي والتصرف بما يخدم مصالحها التجارية والدبلوماسية.
ومع أن إدارة بايدن كانت مستعدة لتقبّل قرار الخفض، إلا أنها صُدمت من خرق التحالف. وعلى خلفية ذلك، قال الرئيس بايدن إنه يشعر “بخيبة أمل” وسيبحث عن “بدائل” لتعزيز الإمدادات، في حين صرح البيت الأبيض بأن أوبك “متحالفة مع روسيا” بينما تصعد موسكو هجومها ضد أوكرانيا، وقال إنه سيدرس تحرير المزيد من النفط من احتياطي البلاد الاستراتيجي.
كانت أوبك والدول الغربية المستوردة للنفط على وشك التصادم منذ سنوات، حيث دفعت المخاوف بشأن الاحتباس الحراري وأمن الطاقة الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى الحد من استخدام الوقود الأحفوري – وهي ضرورة بيئية اعتبرها العديد من منتجي النفط تهديدا لمصدر دخلهم. وانتخاب بايدن، مع تعهّده خلال حملته الانتخابية بالتحول بعيدًا عن النفط وجعل المملكة العربية السعودية “منبوذة” لتورطها في قتل جمال خاشقجي، لم يؤد إلا إلى تعميق الفجوة. لكن غزو أوكرانيا من قبل روسيا، حليفة المملكة العربية السعودية في أوبك بلس منذ سنة 2016، قضى على جميع الأعراف في عالم الطاقة.
إن معركة السيطرة على سوق النفط – وحتى مستقبل قطاع الطاقة نفسه – بات الآن على مرأى من الجميع. مستهدفين “تكتل المشترين” يقول مسؤولو أوبك إن إدارة بايدن هي من أشعلت الشرارة الأولى للخلاف من خلال تعهدها بـ “الانتقال من النفط” والدخول في عصر جديد للطاقة النظيفة، بينما تعتمد في الوقت نفسه على أوبك للحفاظ على أسعار النفط منخفضة. من وجهة نظر أوبك، بدأت واشنطن أيضًا التدخل في أسواقها. فقد كان قرار إدارة بايدن بالبدء في تحرير النفط الخام من مخزونها النفطي الطارئ السنة الماضية لكبح الأسعار مصدر قلق لأعضاء أوبك الذين اعتقدوا أنهم يلتزمون بالوفاء بخطة محسوبة لاستعادة إمدادات النفط تدريجيًا مع تعافي الاقتصاد العالمي من الوباء.
لكن من المتوقع أن يخلق التحالف النفطي السعودي مع روسيا توترات في أعقاب غزو أوكرانيا. لكن خطة واشنطن لفرض حد أقصى لسعر صادرات النفط الخام الروسية – في محاولة لخفض مداخيل الكرملين من النفط دون منع تدفقه عندما تبدأ عقوبات الاتحاد الأوروبي المشددة في كانون الأول/ ديسمبر – أثارت قلق منتجي أوبك الذين يخشون من إمكانية استخدام الإجراء ضدهم في المستقبل أيضًا، وذلك حسب أشخاص مطلعين على مناقشات المجموعة، مما يؤدي إلى إعادة السيطرة على سوق النفط إلى أيدي المستهلكين الأثرياء.
تقول الولايات المتحدة إن الحد الأقصى للأسعار لن يُستخدم على نطاق واسع، بينما يؤكد شخص مطلع على خطة الإدارة أنها أجرت محادثات “بناءة” مع دول أوبك. وقال محللون من بنك “جي بي مورغان” إن قرار أوبك بلس خفض الإنتاج “يرد على دعوة بأن تحالف المنتجين سيعارض أي محاولات من جانب” تكتل المشترين “لخفض سعر النفط”. سواء كان ذلك بسبب الحد الأقصى للأسعار أم لا، فإن الرغبة في الحفاظ على أسعار النفط مرتفعة كانت حاسمة لاتخاذ هذا القرار. وحسب وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي فإن أوبك تحرّكت لضمان استمرار المنتجين في الاستثمار في إمدادات نفطية جديدة و”إذا لم نقم بذلك، فإن [الإنتاج] سينخفض كثيرًا. نحن نشعر بالقلق إزاء نقص الاستثمارات”، وذلك في تصريح له للصحفيين في فيينا.
من المرجح أن تجد هذه المناقشة القليل من التعاطف في العواصم الغربية التي يَتّهم قادتها الحلفاءَ القدامى في الخليج بأنهم سعداء بالاستفادة من الغزو الروسي لأوكرانيا بينما يحبطون الجهود الرامية إلى حرمان موسكو من الأموال.
منذ غزو أوكرانيا، حددت الحكومات الغربية تزايد تكاليف الطاقة كعامل رئيسي وراء ارتفاع معدل التضخم – “ارتفاع أسعار بوتين” على حد تعبير بايدن. رفض الوزراء الخليجيون مرارا وتكرارا الاعتراف بأن الركود الذي كانوا يخشون أن يؤدي إلى انهيار أسعار النفط سببه شريكهم الروسي بعد أن قام بغزو أوكرانيا وقطع إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وقال المزروعي: “تمتلك كل من أوروبا وروسيا قصتهما الخاصة. ولا يمكننا الوقوف إلى جانب هذا البلد أو ذاك”.
مع أنه لم يذكر حرب الطاقة التي تشنها موسكو على أوروبا، إلا أن الأمين العام الكويتي لأوبك، هيثم الغيص، ربط قرار خفض الإنتاج بالمخاوف المتعلقة بإمدادات الطاقة التي تواجه المستهلكين العالميين، قائلا: “لكل شيء ثمن، وأمن الطاقة له ثمن”.
بالعودة إلى واشنطن، اقترح عاموس هوشستين، مستشار الطاقة العالمي لبايدن وأحد المبعوثين الذين شاركوا في شهور من الدبلوماسية المكوكية مع المملكة العربية السعودية، أن أحد ردود الإدارة سيكون السعي لمزيد من إنتاج النفط المحلي. وفي مقابلة تلفزيونية إثر اجتماع أوبك بلس، قال: “سنعمل مع حلفاء الولايات المتحدة لزيادة الإنتاج والتأكد من أن لدينا القدرة على التكرير”. وأضاف: “على مدى الأشهر العديدة الماضية، أجرينا محادثات مع قيادة كل منتج نفط رئيسي في الولايات المتحدة، وبحثنا عن ما يحتاجونه لتحفيز الإنتاج”.
سيكون هذا الأمر صعبا على إدارة بايدن، وتخشى الولايات المتحدة أن تؤدي عدم كفاية إمدادات النفط على المدى القصير إلى نهاية حقبة نمو الإمدادات الرخيصة والسريعة من النفط الصخري في البلاد.
من جهتهم، رفض المستثمرون معاقبة مثل هذا النوع من عمليات التنقيب التي تغذيها الديون والتي شهدت في السنوات السابقة خفض الإمدادات الأمريكية من حصة أوبك في السوق. كما سعت إدارة بايدن في البداية إلى الحد من عمليات التكسير والحفر على الأراضي الفيدرالية. وفي غضون ذلك، تركت عملية تحرير النفط من الاحتياطي الاستراتيجي المخزون عند أدنى مستوى له منذ سنة 1984. وتقول أمريتا سين من شركة “إنرجي أسبكتس”، وهي شركة استشارية للطاقة: “لقد ولت أيام ملايين البراميل اليومية من نمو الإنتاج في الولايات المتحدة. وهذا الأمر يمنح أوبك حرية أكبر بكثير لأنها لن تخشى زيادة مفاجئة في النفط الصخري”.
لم نعد نتلقى أوامر من واشنطن
بالنسبة لبعض المعلقين في الخليج، عززت أزمة الطاقة أهمية المنطقة في الأسواق العالمية.
وفي هذا السياق، يقول أستاذ السياسة الإماراتي عبد الخالق عبد الله: “في هذه اللحظة، يحتاج الجميع إلى نفط الخليج، وإلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ولا يزال البعض في واشنطن لا يدركون وجود خليج جديد. كما أننا لم نعد نتلقى أوامر من واشنطن”.
في الوقت الذي تنضح فيه دول الخليج بثقة جديدة، أصبحت الأنظمة الملكية المطلقة أقل صبرا مع ما تعتبره عدم موثوقية الولايات المتحدة كشريك في المنطقة. وقد اشتكت الرياض بشكل متزايد مما تعتبره سياسة أمريكية لا يمكن التنبؤ بها – بما في ذلك تجاه خصمها الإقليمي اللدود إيران – وأعربت عن مخاوفها من عدم توفير واشنطن المستوى الأمني الذي تريده رغم عقود من مبيعات الأسلحة الأمريكية.
يقول الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية، ستيفن كوك: “يمكنهم الاستشهاد بعشرين سنة مما يعتبرونه ضعفا أمريكيا، وأن أمريكا ليست مصدرا للأمن والاستقرار في المنطقة. إنهم يعتقدون حقا أنهم مركز الكون في الوقت الحالي ويجب على الجميع أن يذهب إليهم”. وحسب مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية فإنه لطالما كان الشرق الأوسط محور تركيز رئيسي للبيت الأبيض، مسلطا الضوء على جهوده الرامية للحفاظ على الهدنة في اليمن، وقمة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة، فضلا عن الاستثمارات والجهود الأخرى في المنطقة.
بالنسبة للقرار نفسه، يصر المسؤولون السعوديون على أنه لا دخل للسياسة في ذلك. ويرفضون فكرة أن قرار أوبك بلس المعلن عنه هذا الأسبوع ينطوي على أي عدوان تجاه الولايات المتحدة أو المستهلكين الآخرين، قائلين إنه لم يكن دفاعا عن روسيا. وهو ما أكده الأمير عبد العزيز بعد اللقاء، بقوله: “أرني، أين العداء؟ أين النية السيئة في ذلك؟”.
يقول كبار المسؤولين السعوديين إنهم يسعون وراء مصالحهم الخاصة ومصالح المجموعة، ولا يتصرفون بناء على طلب روسيا. وقد كان الحفاظ على الأسعار أولوية بالنسبة للرياض، حيث يمضي الأمير محمد قدما في خطة طموحة لتحديث المملكة من المتوقع أن تكلف مئات المليارات من الدولارات. ويؤكد مسؤول سعودي بارز: “نحن ندعم المملكة العربية السعودية، وندعم أوبك بلس، وأنفسنا. وكل ما تحصل عليه روسيا من منفعة يعود إلى الانتماء. نحن لسنا جمعية خيرية”.
أوضح مسؤول رفيع المستوى أنهم يأملون أن يكون رد الفعل العنيف في واشنطن قصير الأمد: “نأمل أن تمر هذه الفترة الحرجة بعد الانتخابات النصفية وأن يسود الهدوء. ومع أن هذه العلاقة الاستراتيجية التي دامت ثمانية عقود قد واجهت بعض التحديات، إلا أن الأسس كانت قوية في النهاية”.
مع ذلك، يقول منتقدو المملكة إنها بالغت في استخدام وتقدير سلطتها، ويعتقد بول ستيفنز، الأستاذ الفخري للطاقة والبيئة والمجتمع في جامعة دندي أنه “من الصعب عدم استنتاج أنهم سعداء بدعم روسيا على الولايات المتحدة، مع أنهم ينكرون ذلك”.
ومن جهتها، توضح إيمي مايرز جاف، أستاذة في مختبر سياسة المناخ في مدرسة فليتشر بجامعة تافتس، أن قرار السعي للحصول على أسعار أعلى والتحالف مع روسيا في مثل هذا الوقت الذي يتصاعد فيه القلق بشأن أمن الطاقة يُعد قرارا مصيريا. وتضيف مايرز جافي: “في دعمها لطلب روسيا المتعلق بتخفيضات الإنتاج، تضع أوبك نفسها في موضع يهدد مكانتها”، مشيرة إلى أن القرار المصمم لاستعادة السيطرة على سوق النفط يمكن أن يسرع انتقال الطاقة بعيدا عن الوقود الأحفوري. وأي شخص يستطيع الابتعاد عن النفط سيفعل ذلك – الحكومات الوطنية والشركات والمدن والمستهلكين. لا تعد تصرفات أوبك سوى مجرد مسمار في نعش تم بناؤه بالفعل”.
المصدر: فاينانشال تايمز