لا تزال أصداء تفجير الشاحنة المفخخة على جسر كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بالأراضي الروسية، الذي وقع فجر السبت 8 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تخيم على أجواء الحرب الأوكرانية التي دخلت شهرها التاسع وسط ضبابية المشهد بشأن سيناريو إنهائها في الوقت القريب في ظل إصرار جميع الأطراف على المضي قدمًا حتى النصر الكامل.
التفجير الذي أودى بحياة 3 مواطنين ودمر الجسر وأصاب حركة المرور بين القرم وروسيا بالشلل التام، يعد نقلة نوعية في مسار الحرب المندلعة منذ فبراير/شباط الثاني، وهو التحول الذي ينقل ساحة المواجهة من الأراضي الأوكرانية التي تتلقى فيها موسكو ضربات موجعة خلال الآونة الأخيرة إلى الداخل الروسي، ما ينذر بسيناريو آخر ربما يعيد تشكيل خريطة الصراع في تلك المنطقة لسنوات طويلة قادمة.
ورغم الغموض الذي يخيم على الحادثة وتباين وجهات النظر بشأن الفاعل وطريقة التنفيذ، وعدم الكشف عن كل التفاصيل حتى كتابة تلك السطور، فمن المرجح من وجهة النظر الروسية تورط كييف في تلك العملية، مع عدم استبعاد ضلوع أجهزة استخبارات دولية داعمة لنظيرتها الأوكرانية في محاولة لنقل المعركة إلى حيث يخشى بوتين وحكومته، بما يزيد من تأزم موقفه الداخلي وهو الذي يعاني من وضعية حرجة بسبب التشققات داخل جدار النخبة.
ويمثل جسر كيرتش المستهدف أهمية إستراتيجية لجنوب روسيا في المقام الأول، فهو القادر على تأمين نقل أكثر من 13 مليون طن من البضائع سنويًا، ويعبره قرابة 14 مليون شخص كل عام، هذا بجانب أنه الأطول في روسيا ويربط بين شبه جزيرة القرم وإقليم كراسنودار.
اللافت للنظر أن هذا الجسر الذي يبلغ طوله 19 كيلومترًا، وشارك في تشييده قرابة 13 ألف شخص، مجهز بأجهزة إنذار وقادر على تحمل الزلازل التي تبلغ درجتها 9.1 بمقياس رختر، كما أنه مجهز بمعدات حماية من الصواعق، وهو ما يجعل استهدافه بتلك الطريقة تطورًا يستوجب الوقوف حياله لما قد يحمله من دلالات تحدد بشكل أو بآخر ملامح المواجهة خلال المرحلة القادمة.
تورط استخباراتي
الحادثة وفق تفسيراتها الأولى وقعت بدقة متناهية ودراسة متأنية مسبقة، وهو ما دفع بسرعة الاتهام بتورط أجهزة استخباراتية ووقوفها خلفها، سواء كان بالدعم المقدم للأجهزة الأوكرانية المتهمة الأولى أم المشاركة بشكل عملي في التفجير، وهي السردية التي يميل إليها الخبراء الروس، بعضهم خبراء عسكريين.
وفق الرواية الروسية فالحادث تم نتيجة انفجار شاحنة على الجسر، أدى إلى اشتعال النيران في حزانات وقود القطار الذي كان يسير عليه قادمًا من روسيا إلى شبه جزيرة القرم، ما أسفر عن انهيار قاع الجسر وسقوط بعض جدرانه، ما يتطلب ترميمات وإصلاحات تبلغ قيمتها 500 مليون روبل (8 ملايين دولار) وفق تقييم أولي لاتحاد شركات التأمين الروسية.
لم تُحسم التحقيقات أمرها بعد تفسيرًا للحادث، ما فتح باب التكهنات أمام العديد من السيناريوهات، لعل أخطرها فرضية استهداف الجسر بالصواريخ، وهي الفرضية التي استبعدها البعض كونه خاضعًا لحماية منظومة الدفاع الجوي التي لا تقل كفاءة عن تلك التي تحيط بالعاصمة موسكو، ما يعني أن تلك الفرضية لو كانت صحيحة فإن العمق الروسي لن يكون بمأمن أمام الاستهداف الأوكراني ومن يدعمه.
بعد النجاح الذي حققته أوكرانيا عسكريًا فوق أراضيها بات استهداف الداخل الروسي ذاته لتشتيت تركيز القيادة العسكرية واستنزاف موارد الدولة وقوتها توجهًا إستراتيجيًا محوريًا في خريطة الصراع، وهو ما يتخوف منه الخبراء العسكريون الروس من أن تكون بلادهم أهدافًا للاستخبارات الأوكرانية
الخبير العسكري الروسي فاسيلي دانيكين، يرى أن هناك صلة بين تفجير الجسر واستهداف خطوط أنابيب السيل الشمالي مؤخرًا “نوردستريم”، ملمحًا أن الفاعل واحد، واصفًا ما حدث بأنه تجاوز لـ”الخطوط الحمراء”، كما اتهم المخابرات الأمريكية والبريطانية بالتورط في الاستهداف، ومطالبًا بتوجيه ضربة انتقامية واسعة النطاق ضد مراكز صنع القرار في كييف، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة”.
رغم أن ساحة الاتهام لا تزال مفتوحة ولم تغلق بعد، بشأن المتورط الحقيقي في الواقعة، حيث هناك تبادل اتهامات واضح بين موسكو وكييف، فالأولى تتهم الثانية مقابل تلميح الثانية بضلوع الأولى بدعوى أن القطار المحمل بالمتفجرات كان قادمًا من روسيا، وهو الاتهام الذي يحمل في باطنه إشارة لاختراق الداخل الروسي، فإن تعليق السلطات الأوكرانية ربما يدفع بالكرة نحو كييف كمتهم رئيسي.
وزارة الدفاع الأوكرانية في تعليقها على التفجير قالت إن تدمير الطراد موسكفا وجسر كيرتش هو إسقاط لما وصفته “لرمزين سيئي السمعة للقوة الروسية في القرم”، فيما غرد ميخايلو بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني على حسابه على تويتر قائلًا إن تفجير جسر القرم هو “البداية ويجب تدمير كل شيء غير شرعي”، مضيفًا “كل شيء سرقته روسيا من أوكرانيا يجب استعادته.. ويجب طردها من كل المناطق التي احتلتها”، وهي ردة الفعل التي تصب في صالح الرواية الروسية الخاصة بضلوع كييف، وإن لم تعلن ذلك بشكل رسمي.
الانتقال إلى الداخل الروسي.. تحول نوعي
الأسابيع القليلة الماضية شهدت تحولات دراماتيكية في ميدان الحرب بين القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية، تحولات مفادها تكثيف الدعم الغربي لكييف مقابل تضييق الخناق على موسكو اقتصاديًا ولوجستيًا، هذا بخلاف المأزق الداخلي الذي يحياه بوتين ونخبته الداعمة لاستمرار المواجهة.
فبعد أقل من 24 ساعة من إعلان الرئيس الروسي، ضم 4 مناطق أوكرانية في الإقليم الشرقي، وفق الاستفتاء الذي جرى مؤخرًا، وتعهده بالدفاع عنها بكل الوسائل العسكرية، نجحت القوات الأوكرانية في تحرير منطقة ليمان بمنطقة دونيتسك (شرق) من قبضة الروس، مع الحديث عن تحرير مناطق أخرى واقعة تحت السيطرة الروسية تبلغ مساحتها أكثر من 2500 كيلومتر مربع بحسب الرئيس الأوكراني ووزارة دفاع بلاده.
وبات الحديث عن الخسائر الفادحة التي تتلقاها موسكو في الأراضي الأوكرانية خبرًا معتادًا، لدى الإعلام الأوكراني والروسي على حد سواء، وباعتراف وزارة الدفاع الروسية ذاتها، حيث نجحت القوات الأوكرانية في تفتيت البنية العسكرية الروسية داخل حدودها الجغرافية من خلال قطع خطوط الإمداد وإحداث شروخات بين الفرق والكتائب بما يفصلها عن بعضها البعض لتصبح هدفًا أوكرانيًا سهل اصطياده.
وبعد النجاح الذي حققته أوكرانيا عسكريًا فوق أراضيها بات استهداف الداخل الروسي ذاته لتشتيت تركيز القيادة العسكرية واستنزاف موارد الدولة وقوتها توجهًا إستراتيجيًا محوريًا في خريطة الصراع، وهو ما يتخوف منه الخبراء العسكريون الروس من أن تكون بلادهم أهدافًا للاستخبارات الأوكرانية وداعميها في الغرب.
التعبئة الجزئية التي أعلنها بوتين أحدثت شروخات كبيرة في جدار النخبة الروسية، حيث انتقد عدد من المسؤولين تلك الإجراءات القاسية التي تعكس ضبابية المشهد وغموض المستقبل، معتبرين أنها كانت فوضوية واعتباطية، خاصة بعدما دفعت عشرات آلاف الروس إلى الفرار من البلاد
ووفق السردية النخبوية الروسية فإن تفجير جسر كيرتش عمل استخباراتي في المقام الأول، تقف خلفه استخبارات دول غربية عدة، تدعم وبقوة الاستخبارات الأوكرانية، ومن ثم فإن ما حدث في الجسر قد يتكرر في مناطق أخرى، سواء تلك الواقعة تحت قبضة الروس في إقليم الدونباس أم استهداف مواقع إستراتيجية داخل الأراضي الروسية، وهو التحول الذي سيقلب الطاولة برمتها.
التوغل الاستخباراتي الأوكراني داخل روسيا ليس أمرًا صعبًا في ضوء توافر حزمة من العوامل المساعدة التي تجعل من ذلك ممكنًا وربما سهلًا في الوقت ذاته، على رأسها الانتشار الكثيف للأوكرانيين داخل روسيا، وقدرتهم على الدخول والخروج والتعامل بأريحية كونهم يتحدثون الروسية بطلاقة ومن الصعب التفرقة بينهم وبين سكان الدولة الأصليين، وفي ظل فتح البلاد أبوابها لكل الراغبين في دخولها من الأوكرانيين وغيرهم من البلدان المجاورة، فإن باب الاختراق هنا قد يكون مفتوحًا على مصراعيه.
استهداف البنية التحتية الداخلية الروسية وتأليب الشارع ضد نظام بوتين عبر الترهيب والتخويف ربما يصبح مستقبلًا إستراتيجية جديدة للأوكرانيين وقوى الغرب الداعمة لهم، في محاولة لتشديد الخناق على الرئيس الروسي بالتوازي مع العقوبات المفروضة اقتصاديًا ومحاولة تجريد موسكو من أظافرها الاقتصادية عبر حرمانها من عوائد الغاز والنفط التي تمثل الضلع الأكبر في الاقتصاد الروسي وأداته السياسية الوحيدة لتعزيز نفوذه أوروبيًا.
الدب الجريح في مأزق
الهزائم التي تلقاها بوتين في روسيا وضعته في مرمى انتقاد واستهجان حلفائه، فقد شن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف ومؤسس مجموعة فاغنر شبه العسكرية القريبة من الكرملين يِفغيني بريغوجين، هجومًا لاذعًا على القيادة العسكرية الروسية للحرب، بل إن قديروف طالب بإقالة قائد المنطقة العسكرية الروسية المشرف على منطقة ليمان، الجنرال ألكسندر لابين، قائلًا في تغريدة له على تليغرام: “ليت بإمكاني أن أخفض رتبة لابين إلى جندي، وأجرده من ميدالياته، وأرسله إلى خط المواجهة ببندقية هجومية لغسل العار بالدم”.
كما أن التعبئة الجزئية التي أعلنها بوتين أحدثت شروخات كبيرة في جدار النخبة الروسية، حيث انتقد عدد من المسؤولين تلك الإجراءات القاسية التي تعكس ضبابية المشهد وغموض المستقبل، معتبرين أنها كانت فوضوية واعتباطية، خاصة بعدما دفعت عشرات آلاف الروس إلى الفرار من البلاد.
وبدأت بعض الأصوات داخل روسيا تتعالى بشأن التحذير من اقتراب سقوط بوتين ونظامه، في ظل إصراره على المضي قدمًا في طريق الجحيم بحسب وصف باحثين وخبراء ممن اعتبروا أن أوكرانيا لا تطرح مشكلة وجودية لروسيا وأن ما يحدث بحث عن مجد شخصي للرئيس الحالم باستعادة إرثه التوسعي مرة أخرى.
غير أن تلك الرواية ربما تكون مستبعدة لدى آخرين، فالقبضة الحديدية التي يمسك بها بوتين الدولة قد تجعل من هذا السيناريو أمرًا مستبعدًا، على الأقل في الوقت الراهن، في ضوء سيطرة النظرة القومية على العقلية الروسية في المقام الأول، غير أن ذلك لا يحول دون خسارة بوتين الكثير من نفوذه وتعاظم دوائر المعارضة التي قدم لها الرئيس فرصة على طبق من ذهب.
المؤشرات تذهب نحو خسارة بوتين للحرب التقليدية التي شنها، لكن ذلك لا يعني خسارته المواجهة في المجمل، إذ لا يزال يراهن على ما لديه من أسلحة غير تقليدية، في إشارة إلى سلاح الردع النووي، فالدب الجريح لن يرفع الراية بسهولة، كما أنه لن يتخلى عن موقعه بيسر كما يظن البعض، ومن ثم فهو دائم الترديد بين الحين والآخر باللجوء إلى الأبواب الخلفية للحفاظ على توازن المعادلة قدر الإمكان.
بالطبع لن يسمح الغرب لبوتين باستخدام السلاح النووي، ولو كان ذلك عبر تنازلات ربما يتم تقديمها أو تفاهمات للخروج من الموقف، كما أن الرئيس الروسي ذاته سيفكر ألف مرة قبل التفكير في تنفيذ تهديداته باستخدام مثل تلك الأسلحة التي تنذر بحرب عالمية هو وبلاده في غنى عنها في الوقت الحاليّ.
ومن ثم فالجميع، طرفا الحرب والداعمون لهما شرقًا وغربًا، لا يريدون الولوج في هذا المستنقع أكثر من ذلك، والكل يبحث عن مخرج للخروج من هذا المأزق، خروج يحفظ ماء الوجه لمختلف الأطراف، غير أن الوضعية في تطوراتها تلك ستجعل التخارج من الأزمة في حد ذاته أزمة أشد خطورة، وهو ما يزيد من تأزم المشهد.