مع دخول الاحتجاجات في إيران أسبوعها الرابع، والتي انطلقت على خلفية مقتل المواطنة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الآداب الإيرانية، ورغم اتّساع رقعة هذه الاحتجاجات، ما زالت العديد من التساؤلات تُطرح حول سبب تأخر النظام في دفع الحرس الثوري للنزول للشارع وقمع الاحتجاجات، كما حصل في الاحتجاجات التي سبق أن شهدتها إيران منذ عام 1999.
كان الحرس الثوري، وبناءً على مهمته الدستورية التي أقرّها النظام في دستور 1979، والذي أوكلَ إليه مهمة حماية النظام ومكتسبات الثورة من أعداء الداخل والخارج، هو اللحظة الفاصلة في جميع الحالات الاحتجاجية، بل كان نزوله إلى الشارع نقطة تحول مهمة في إيقاف عجلة الاحتجاجات عن مواصلة ضغطها على النظام لتحقيق مطالبها.
فالنظام في إيران قائم على أيديولوجية جامدة، وعادةً ما ينظر إلى المطالب الاحتجاجية ككُلّ متكامل، ومن ثم إنه باللحظة التي يجد فيها النظام أن الاحتجاجات بدأت تشكّل خطرًا وجوديًّا عليه، فإنه يلجأ عادة للحل الأخير كما يطلق عليه المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وهو الحرس الثوري.
وحتى الآن أحجم الحرس الثوري نسبيًّا عن التدخل في الاحتجاجات الأخيرة، لكن يمكن حشده بسرعة في حال أرادت السلطات سحق الاحتجاجات
إن تاريخ تعامل الحرس الثوري مع الاحتجاجات في إيران كان دمويًا في الغالب، ففي احتجاجات 1999 دخلت دبابات الحرس الثوري إلى جامعة طهران، وارتكبت مجازر كبيرة بحقّ الطلبة الذين رفعوا شعارات منددة بالنظام، وتمَّ إيقافها بعد تدخل الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي.
وكذلك الحال مع احتجاجات 2009، على خلفية انتخاب الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، فبعد أن اجتاحت الاحتجاجات جميع مدن البلاد، تدخل الحرس الثوري وقطع إيران عن التواصل مع العالم الخارجي، ومارس سلوكًا عنيفًا حيال المحتجين، كما أنه فرض إقامة جبرية على قيادات التيار الإصلاحي، والذين كان في مقدمتهم مهدي كروبي ومير حسين موسوي، وهي ذات الحالة التي تكررت مع احتجاجات 2017 و2018 و2019.
لماذا لم يتدخل الحرس في الاحتجاجات الأخيرة؟
على مدى عقود، تستعين المؤسسة الدينية الحاكمة بالحرس الثوري المخلص لها لسحق انتفاضات عرقية بعنف، وكذلك أي اضطرابات يقوم بها الطلبة أو احتجاجات على المشكلات الاقتصادية، وحتى الآن أحجم الحرس الثوري نسبيًّا عن التدخل في الاحتجاجات الأخيرة، لكن يمكن حشده بسرعة في حال أرادت السلطات سحق الاحتجاجات، ويمكن القول إن الاحتجاجات إذا استمرت فستلجأ الجمهورية الإسلامية إلى الحل المعتاد: “العنف بلا أي قيود في التعامل مع مدنيين غير مسلحين لسحق الاحتجاجات”.
إن الاحتجاجات الحالية يمكن وصفها بأنها أكبر ظاهرة احتجاجية واجهها النظام بعد ثورة 1979، من حيث ديمومتها واستمرارها، وهي شبيهة بالأجواء الثورية التي شهدتها إيران إبّان ثورة الخميني، من حيث إنها أظهرت فجوة كبيرة بين النظام والشعب، والأكثر من ذلك أنها بدأت تطرح نفسها ضمن مطالب تغيير النظام وليس إصلاحه.
ولعلّ تأنّي النظام في دفع الحرس الثوري للشارع، مردّه إلى محاولة النظام اللعب على عامل الوقت من أجل استيعاب زخم هذه الاحتجاجات دون استفزازها أكثر، فخامنئي على ما يبدو لا يريد أن يكرر أخطاء نظام الشاه، عندما زجَّ بقوات الجيش والسافاك بالشوارع، فكان أن أدّى ذلك إلى مزيد من التمرد الشعبي الذي أسقط نظامه بالنهاية.
يمكن وصف الاحتجاجات الحالية بأنها أكبر ظاهرة احتجاجية واجهها النظام بعد ثورة 1979، من حيث ديمومتها واستمرارها، وهي شبيهة بالأجواء الثورية التي شهدتها إيران إبّان ثورة الخميني
ومن الأسباب الأخرى أيضًا هي أن بنية القوات المسلحة الإيرانية لم تعد متوائمة مع حاجات النظام، فقد تمَّ استنزافها داخليًّا وخارجيًّا، ولعلّ هذا ما جعل النظام يركّز أكثر على قوات الشرطة والباسيج في مواجهة هذه الاحتجاجات، كما أن دخول طلبة المدارس والنساء على خط الاحتجاجات قد يكلف النظام خسارات فادحة أمام المجتمع الدولي، فيما لو تمَّ زجّ الحرس الثوري ووقعت إصابات ووفيات في صفوف الأطفال والنساء، عندها قد لا يلتقط النظام أي فرصة للعودة إلى الساحة الدولية عبر بوابة الاتفاق النووي، بل قد يتحول إلى نظام مارق ومعزول دوليًّا.
ويضاف إلى ما تقدم، أن دخول الشعوب غير الفارسية على خط الاحتجاجات الأخيرة، وتحديدًا الأهواز والبلوش والأكراد والأذريين، دفع النظام إلى تأخير الحل الأمني الشامل، إذ أصبح النظام يعاني مؤخرًا من صعوبة التعامل مع جنود الحرس الثوري من أبناء هذه الشعوب، سواءً على مستوى التلقين العقائدي أو حتى الإيمان بمبادئ الثورة، ومن ثم إن ممارسة عنف مسلح ضد هذه الشعوب عبر الحرس الثوري، قد يدفع بالعديد من أبنائهم للوقوف بوجه النظام، وهو ما يخشى منه خامنئي حاليًّا.
هل سيسقط النظام؟
رغم أن النظام ما زال حتى الآن قادرًا على مواجهة هذه الاحتجاجات، إلا أن إمكانية سقوطه في أي لحظة أصبحت ورادة جدًّا، فالفجوة تزداد يومًا بعد آخر، كما أن محاولة خامنئي الظهور مرارًا على شاشات التلفاز، رغم وضعه الصحي الحرج، بمظهر رجل الدولة القوي، يعطي مؤشرًا واضحًا بأنه يريد إرسال رسالة واضحة للمحتجين، بأن النظام ما زال قادرًا على البقاء، فهو لا يريد أن يظهر بمظهر الضعيف كما فعل الشاه عندما خرج على المحتجين عليه إبّان الثورة، قائلًا: “بصفتي شاه إيران، سمعت صوت ثورتكم، لا يمكنني إلا أن أسلم بثورتكم”، وكانت كلماته هذه بداية نهاية حكمه.
إن إصرار النظام على تقديم نفسه كنظام متكامل، وأن النموذج السياسي الذي يقدمه يجب أن يستمر، وأن نجاحاته يُراد لها أن تتوقف من قبل أعدائه، هي صورة يحاول خامنئي أن يرسّخها في أذهان الإيرانيين، عندما ظهر يوم الاثنين الماضي معتبرًا الاحتجاجات الحالية من تدبير الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وهي الصورة ذاتها التي يحاول من خلالها أن يوفر أساس مشروع لقمع الاحتجاجات، فيما لو تجاوزت الخطوط الحمراء المرسومة لها من قبل خامنئي.
رغم أن النظام ما زال حتى الآن قادرًا على مواجهة هذه الاحتجاجات، إلا أن إمكانية سقوطه في أي لحظة أصبحت ورادة جدًّا
إجمالًا، إن موجة الاحتجاجات التي أعقبت مقتل أميني تتّسم بميزات فريدة مقارنة بالنماذج السابقة، فهي تمثل تنوعًا جغرافيًّا وإثنيًّا واقتصاديًّا يطال كافة قطاعات المجتمع الإيراني، وتبرز النساء اللواتي يتجاوز عددهن الـ 40 مليون في إيران، إلى جانب الشريحة الشبابية في البلاد، في الصفوف الأمامية لهذه الاحتجاجات التي تدعم شبكة واسعة من الجماعات الشعبية والتجمعات السياسية داخل إيران وخارجها.
كذلك، تمثل هذه الاحتجاجات نقطة تحول بفضل طبيعة المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعلو شعاراتها، على غرار “امرأة. حياة. حرية”، “لا نريد الجمهورية الإسلامية”، “الموت للديكتاتور، الشاه أو آية الله”؛ كل هذه الميزات تجعل خامنئي ونظامه أمام موجات احتجاجية جديدة، فيما لو تمَّ تجاوز الاحتجاجات الحالية، فالتمرد على النظام الحالي، وضرب شرعيته السياسية، يشيران بما لا يقبل الشك إلى أن الشعب الإيراني قد اتخذ قراره بالتغيير.