تسببت الحاجة الماسة للعلاج منذ بداية الصراع السوري وما رافقه من إصابات حرب وانتشار للأمراض والأوبئة، في تحول المنتجات الدوائية في سوريا إلى سلعة تجارية مهمة للغاية تعود بأرباح كبيرة على العاملين في المجالَين الصناعي والتجاري، فتعد الأدوية السورية الأكثر مبيعًا في الأسواق السورية، نتيجة غياب البديل ومحدودية الأنواع الأجنبية.
وتعرضت الأدوية السورية خلال العقد الماضي للانقطاع من الأسواق، نتيجة توقف المعامل والمصانع عن العمل لأسباب أمنية، وتعرُض بعضها للقصف والدمار من نظام الأسد وخروجها عن الخدمة بالكامل، ما تسبب في خلق أزمة دوائية في مختلف الجغرافيا السورية.
تراجع صناعة الأدوية في سوريا
مع اندلاع الثورة السورية ومحاولة نظام الأسد قمع الاحتجاجات السلمية وقصف البنية التحتية للمدن السورية الخارجة عن سيطرته، ومن بينها المنشآت الصناعية والتجارية، انخفض إنتاج الأدوية السورية، ما أدى إلى اختفائها من الأسواق، فضلًا عن بسط سطوتهم على القطاعات الصناعية والتجارية وتفريغ محتوياتها، وتعرض عدد من المعامل والمنشآت العاملة في صناعة الأدوية لقصف جوي، أبرزه في محافظة حلب من الطيران الروسي والنظامي، فخلال عام 2015 قصف النظام أكثر من 4 معامل، ما أدى إلى خروجها عن الخدمة، وتوقف معمل بركات للصناعات الدوائية عن العمل نتيجة وقوعه على خطوط الاشتباك، إلى جانب عدد من المعامل في المنطقة الصناعية في حلب.
ومن أبرز المعامل التي دُمرت، معمل آسيا للصناعات الدوائية الذي واصل عمله لفترة زمنية قصيرة بعد خروجه عن سيطرة النظام رغم تعرضه للاستهداف الجوي ومعمل أوبري بريف حلب الجنوبي ومعمل الوطنية للصناعات الدوائية ومعمل كيمي للصناعات الدوائية.
ساهمت تلك العوامل في خلق أزمة حقيقية في إنتاج الدواء السوري، الذي انخفض خلال عدة سنوات من 91% خلال عام 2010 إلى 30% خلال عام 2014، وفقًا لتقارير وزارة الصحة في حكومة نظام الأسد آنذاك.
وتعد محافظة حلب إحدى أبرز المحافظات السورية التي تنتج الأدوية، وتصل نسبة الإنتاج إلى 40% من الإنتاج الدوائي السوري و93% من الاستهلاك المحلي للصناعات الدوائية المنتجة في حلب، ومع توقف المعامل في حلب لأسباب أمنية واقتصادية رافقها انخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار، خسرَ التجار والصناعيون الذين أوقفوا معاملهم كما حصل في حمص وريف دمشق.
ووصل إنتاج سوريا من الأدوية حد الاكتفاء الذاتي، بسبب اعتماد القطاع الصحي العام والخاص على الأدوية السورية، فتعد سوريا إحدى أبرز الدول المصدرة للأدوية قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتصل إلى أكثر من 44 دولة عربية وأجنبية، حيث بلغ عدد مصانع الأدوية في سوريا 57 مصنعًا يتركزون في 3 محافظات سورية هي حمص وحلب وريف دمشق، وبلغت قيمة إنتاجها الفعلي آنذاك 350 مليون دولار أمريكي.
النظام وإيران يستثمران في قطاع الأدوية
استطاعت قوات النظام والمليشيات الموالية له، بدعم جوي روسي، السيطرة على أجزاء واسعة من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بين عامي 2015 و2018، خلال عمليات عسكرية موسعة وعمليات تسوية برعاية روسية، وعلى خلفية سيطرته بدأ النظام يروج لعودة المنشآت الصناعية إلى عملها في مناطق سيطرته بعد فرضه الأمن والأمان حسب زعمه.
ووصل استثمار نظام الأسد إلى قطاع الأدوية من خلال تقديم تسهيلات للتجارة وتوفير المواد الخام في السوق السوداء، وخلال العام 2018 ارتفع عدد معامل الأدوية السورية إلى 96 معملًا ومصنعًا بحسب وزير الصحة السابق في حكومة نظام الأسد نزار يازجي، بينما كانت قبل انطلاق الثورة السورية لا تتعدى الـ70 معملًا، ما يعني أن صناعة الأدوية تشهد استثمارًا حقيقيًا.
وتسعى إيران للسيطرة على سوق صناعة الأدوية في سوريا، رغم منع حكومة نظام الأسد منح تراخيص لإنتاج الأدوية في سوريا، حيث افتتحت عام 2018 معرضًا للصناعات الدوائية في دمشق، ليتم لاحقًا منحها تراخيص لافتتاح معمل متخصص في إنتاج الأدوية السرطانية، إضافة إلى معامل أخرى تنتج الأدوية في محافظتي طرطوس واللاذقية عبر أسماء سورية.
ويدل ارتفاع عدد مصانع الأدوية في سوريا، رغم تعرض البنية التحتية الصناعية للدمار والعقوبات الأجنبية على حكومة النظام، على أنها تشهد استثمارًا من النظام ورجالاته، كونها توفر مردودًا ماليًا جيدًا يساند اقتصاد النظام المنهار أساسًا.
ورغم استثناء قطاع الأدوية من العقوبات، فإنه تأثر بالعقوبات المصرفية، كون استيراد المواد الأولية بات متعذرًا، كما أن أزمة الطاقة الحادة أثرت على الإنتاج، فضلًا عن ارتفاع أسعار المحروقات وانقطاع الكهرباء، وحاليًّا تعد إيران مصدرًا رئيسيًا للمواد الخام الدوائية، بحسب ما أوضح الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر الذي قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يهدف اهتمام النظام بصناعة الأدوية إلى تقليل نزيف العملة الأجنبية، من خلال تقليل عمليات الاستيراد، إضافة إلى كونها موردًا ماليًا مهمًا من الناحية الضريبية، ودورها في تخفيف الضغط على السوريين من ناحية توفير الدواء، لا سيما في ظل الاحتقان الشعبي المتصاعد، بينما تحاول إيران التغلغل في مختلف القطاعات لكي توفر مردودًا ماليًا لمليشياتها الموجودة في سوريا”.
مضيفًا “تقدم حكومة النظام تسهيلات تشريعية ومالية، إلا أنها غير فعالة بما فيه الكفاية، فالاحتكار يسيطر على سوق الأدوية، والتسهيلات الحكومية لم تتمكن من توفير الدواء بسعر مقبول، فارتفعت أسعار الأدوية عدة أضعاف في السنوات القليلة الفائتة”.
دور المليشيات وتجار الحرب في تجارة الأدوية
تحولت الأدوية إلى سلعة استهلاكية في السوق السورية، ما دفع المليشيات والمحسوبين عليهم من التجار إلى العمل بها واستغلالها والتحكم في السوق السورية، لا سيما في تسويق الأدوية المنتَجة في مناطق النظام إلى المناطق الخارجة عن سيطرته، وهي شمال غربي سوريا التي تديرها الحكومة السورية المؤقتة وحكومة الإنقاذ، ومناطق شمال شرقي سوريا التي تديرها الإدارة الذاتية “قسد”.
وتعد هذه المناطق سوق التصريف الأساسية التي تعتمد عليها المصانع، سواء عبر مرورها من المعابر الرسمية أم عبر ممرات التهريب التي تتم فيها عمليات التبادل التجاري بالتنسيق بين أفراد من الجهات المسيطرة على المنطقة، ووفقًا لذلك تحصل الجهات ذاتها على مبالغ مالية لقاء مرورها.
تحدث موقع “نون بوست” إلى أحد التجار العاملين في استيراد الأدوية من مناطق النظام إلى مناطق المعارضة، ويملك مستودعات في المنطقتين، وقال شريطة عدم كشف اسمه: “تتركز صناعة الأدوية في مدينة حلب على وجه التحديد، ويتم تصريفها إلى شمال سوريا بالتعاون مع الفرقة الرابعة التابعة للنظام، التي تحصل على مبالغ تصل إلى 500 دولار لكل متر مربع من السيارة التي تحمل الأدوية”.
وأضاف “تحصل الفصائل على مبالغ مالية تتراوح بين ألفين و5 آلاف دولار أمريكي لقاء مرور الشاحنة إلى المنطقة، وبذلك تحصل سواء المليشيات التابعة للنظام أم الفصائل في المناطق المحررة على مردود مالي من التبادل التجاري، لا سيما الأدوية”.
ولا يقتصر تصريف الأدوية السورية على مناطق الوطني و”قسد”، بل تصل إلى العراق ولبنان واليمن، وذلك بوساطة التجار المحسوبين على المليشيات الإيرانية، ما يؤكد ضلوع إيران في صناعة الأدوية السورية، حيث تقوم بتوريد المواد الخام إلى السوق السوداء عبر مليشياتها، ومن ثم تزويد المصانع لصناعة الأدوية وتصديرها في الأسواق التي توجد بها قواتها.
وعن الموضوع، يرى الباحث يحيى السيد عمر أن “صناعة الأدوية توفر دخلًا لتجار الحرب، فهذا الأمر يظهر من جانبين: الجانب الأول احتكار استيراد المواد الأولية، فرغم كون المواد الأولية الداخلة في صناعة الأدوية معفاة من الرسوم الجمركية، فإن الجهات المستوردة تفرض رسومًا عليها، وهو ما يعود لتجار الحرب بشكل رئيسي، إضافة إلى العلاقات غير المباشرة التي ترتبط بعمليات التصدير إلى مناطق الاستهلاك والإتاوات”.
من جهته، قال الصيدلاني فادي حافظ الذي يقيم في ريف حلب الشمالي، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لم تعد الأدوية السورية كما كانت في السابق بفعاليتها كونها مغشوشة، إلى جانب تحويلها إلى سلعة تجارية من المليشيات التابعة للنظام وإيران، وهي بالوقت ذاته توفر مردودًا ماليًا إستراتيجيًا تتغذى عليه المليشيات وتجار الحرب الذين يحصلون على نسبة من الأرباح لقاء تمريرها إلى خارج مناطق النظام، حيث تباع بأسعار مرتفعة عن الأسعار في سوق مناطق النظام”.
وأضاف “الأدوية سلعة تجارية مهمة كونها تدخل السوق بعد خروجها من مراكز التصنيع ثم إلى مستودعات الأدوية والموزعين ولاحقًا الصيادلة، وتصل إلى المستهلك بأسعار مرتفعة تختلف من جهة إلى أخرى، هذا في مناطق النظام، بينما عندما تخرج إلى المناطق المحررة أو مناطق “قسد” فإنها ترتفع بشكل مضاعف”.
يأتي ذلك وسط استغلال وتلاعب شركات ومعامل الأدوية والصيادلة بأسعار الدواء، بحجة أن تمويل استيراد المواد الأولية يسعر بسعر صرف الدولار بالسوق السوداء وليس بسعر البنك المركزي التابع لنظام الأسد، إضافة إلى حصول تجار الحرب ومن خلفهم المليشيات على حصتهم، كونها تعتبر من الموارد الاقتصادية المهمة، حيث لا يمكن للمستهلك الاستغناء عن العلاج مهما بلغت معاناته.