أولت الحضارة الإسلامية القراءة والكتابة أهمية بالغة، قلما كانت في أي حضارة موازية، فاستحق المسلمون عن جدارة لقب “أمة اقرأ”، ففي الوقت الذي طبقت فيه شهرتهم الآفاق في إثراء الحياة العلمية والثقافية كانت شوارع باريس ولندن غارقة في ظلام الجهل ووحل التخلف.
وليس مستغربًا أن يُنظر للمسلمين على أنهم من السابقين الأولين في صناعة الوراقة في التاريخ، وأن لهم في هذا المجال باعًا طويلًا لا ينكره منصف، حتى لو وصل بهم الحال اليوم إلى هذا المستوى المتدني، فلا تزال إسهامات علماء الأمة الأوئل في صناعة الكتب والورق خير شاهد على ما كان عليه المسلمون قديمًا.
مع بدايات القرن الثاني الهجري كان التدوين في العصر الإسلامي قد بلغ أوج قمته، ففي تلك الأثناء كانت فتوحات المسلمين لا سبيل لوقف زحفها
في هذا الملف المعنون له بـ”خزائن المعرفة” يُلقي “نون بوست” الضوء على إسهامات المسلمين والعرب في الحفاظ على مخطوطاتهم وكتبهم التراثية، وأشهر المكتبات التي تضم تلك الدرر حتى اليوم ومدى ما قدمته تلك الخزائن من إشعاعات حضارية كان لها صداها في صناعة النهوض التاريخي لكثير من الأمم والشعوب.
وفي المادة الأولى من هذا الملف، إطلالة سريعة على سوق الوراقة وأبرز الوراقين في التاريخ الإسلامي، مع التعريج على أهم المحطات في هذا الطريق الطويل الممتد قرابة 1400 عام، مرورًا بمرحلة الانحدار التي تخلى فيها المسلمون عن تلك الريادة ففتحوا الطريق أمام المستشرقين لنقل هذا التراث العظيم إلى بلدان الغرب والشرق على حد سواء، وصولًا إلى المحطة الأخيرة والأكثر مأساوية المتعلقة بالنكبات التي تعرض لها هذا الكنز القيم ومحاولات الإنقاذ السريع للإبقاء على جذوة هذا المداد مشتعلة قدر الإمكان.
خلافة أبي بكر.. من هنا كانت البداية
منذ أن وطأ الإسلام ثرى الحياة، رفع شعار العلم والتعلم، القراءة والكتابة، متخذًا من هذا المسار دربًا للنهوض والتنوير، إيمانًا من الرسالة السماوية بأن العلم الخطوة الأولى نحو الإنسانية ورقيها ودفعها دفعًا نحو إرساء دعائم الاستقرار والاستمرار فوق هذه الأرض التي كانت تئن قبل الإسلام من ويلات التخلف والجهل.
البدايات كانت بخطوات ليست سريعة، تشريعات سماوية بأهمية التعلم والحث على القراءة والكتابة، وكان الاعتماد هنا على ذاكرة النبي – عليه الصلاة السلام – المعصومة في النقل والتأويل، بصفته المصدر الوحيد للتشريع الأرضي قادمًا من خزانة السماء، لكن الأمر تغير تمامًا بعد وفاته عليه السلام.
حين تولى الصديق أبو بكر – رضي الله عنه – الخلافة، كان أول ما قام به حفظ القرآن الكريم من النسيان والتحريف من خلال التدوين، عام 13هـ/635م، وكانت تلك الخطوة اللبنة الأولى في بناء حركة التدوين خلال العصر الإسلامي، تلك الحركة التي نقلت الأمة الإسلامية إلى مسارات أخرى وفرضتها كقبلة علم وحضارة يهتدي بها الحائرون.
لم تقتصر مهنة الوراقة على الرجال وحدهم، بل كان للمرأة إسهام ودور لا يقل عنهم مطلقًا، فعملت المرأة إلى جوار الرجل جنبًا إلى جنب في سوق الوراقة والكتابة والنسخ والتدوين
ومع بدايات القرن الثاني الهجري كان التدوين في العصر الإسلامي قد بلغ أوج قمته، ففي تلك الأثناء كانت فتوحات المسلمين لا سبيل لوقف زحفها، ومع كل فتح كان ينهل المسلمون من الدول المنضمة إليهم ما لديهم من علوم ومظاهر تفوق، وتدوينها، فالأمر لم يعد يقتصر على تدوين القرآن ومن بعده السنة فقط، بل تجاوز ذلك إلى تدوين العلوم الدنيوية من طب وفلك ورياضة، وهنا ظهر سوق جديد وهو سوق الترجمة الذي اتسع ليشمل أكثر من 10 لغات أجنبية.
وأمام هذا السوق الكبير من الترجمة انتعش معه بالتوازي سوق التدوين، حتى ظهر في المكتبة الإسلامية نوعان من الكتب: الأول هو النوع المدون كتابة الذي قام به المسلمون لأمهات كتبهم وعلمهم حفظًا له من الضياع، والثاني هو النوع المترجم الذي يضم عشرات الكتب المترجمة من وإلى العربية، ومن هنا ظهر مصطلح “الوراق” أي الذي يعمل بالوراقة والكتابة والتدوين.
نشأة الوراقة
كانت الوراقة ابتداءً تعتمد على الهواية والعمل المجاني، لكن مع مرور الوقت تحولت إلى مهنة وحرفة لها مهارات محددة، ويتقاضى صاحبها أجرًا نظيرها، وهو ما ذكره أبو الفرج محمد بن إسحق البغدادي المعروف بالنديم، في كتابه الماتع “الفهرست” حين أشار إلى ما أسماهم “كتّاب المصاحف” وهم من كانوا يكتبون المصاحف بأجر.
وفي الكتاب ذاته استعرض النديم أشهر من امتهنوا حرفة الوراقة، وعلى رأسهم مولى الخليفة عمرو بن الخطاب، المعروف بـ”عمرو بن نافع” الذي يختلف بشأنه المؤرخون، فالبعض يعتبره أول من تخصص في حرفة الوراقة وآخرون يرجعون الأسبقية إلى خالد بن أبي الهياج الذي كان يعمل وراقًا للخليفة الوليد بن عبد الملك عام 716م، كما أشار المؤرخ الموثوق به محمد بن إسحق.
لقب “عميد الوراقين” شهد هو الآخر جدلًا بين المؤرخين، إلا أن الإجماع ذهب نحو أبو رجاء مطر الخراساني البصري، وكان يطلق عليه “مطر الوراق” لما كان يتمتع به من قدرات ومؤهلات لا يتمتع بها أقرانه، وفي شأنه قال المؤرخ جمال الدين المزي في كتابه “تهذيب الكمال” إنه كان من سكان البصرة ومخضرم في كتابة المصاحف، وينسب له أنه كان يطلق عليه لقب “المصاحفي” لبراعته في كتابتها.
تحولت صناعة الوراقة إلى وجاهة سياسية هذا بجانب توظيفها سياسيًا وجماهيريًا، فكان هناك تنافس محموم بين أنظمة الخلافة الثلاث لامتلاك أكبر قدر من المخطوطات
ومع انتشار الوراقة وحركة التدوين والتراجم والنهضة التي شهدها سوق التأليف والكتابة، اتخذ الخلفاء والعلماء والأئمة وراقين لكتابة وتدوين ما يقولون، أو فيما يطلق عليه في الوقت الراهن “كاتب خاص”، فكان للإمام مالك بن دينار وراق خاص به وهو حبيب بن أبي حبيب المدني، وكان يطلق عليه “كاتب مالك”، كما كان حاتم الرازي وراقًا للإمام البخاري وملازمًا له في حله وترحاله كظله لا يفارقه.
ولم تقتصر مهنة الوراقة على الرجال وحدهم، بل كان للمرأة إسهام ودور لا يقل عنهم مطلقًا، فعملت المرأة إلى جوار الرجل جنبًا إلى جنب في سوق الوراقة والكتابة والنسخ والتدوين، وتعد ورقاء بنت ينتان الأندلسية الأصل من مشاهير الوراقة والنسخ، وذُكر عنها أنها كانت قامة في هذا المجال، وقد ذكر المؤرخ الأندلسي أحمد بن سعيد ابن أبي الفياض أن في شرق قرطبة وحدها عام 1068م كانت هناك 170 امرأة يمتهن الوراقة ويعملن في كتابة المصاحف بالخط الكوفي.
الصناعة المزدهرة
دخلت صناعة الوراقة منعطف الازدهار الأبرز مع القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، حين انتقلت من التدوين والنسخ التقليدي إلى التصحيح والتجليد، وصولًا إلى صناعة الورق والقراطيس وبيعها، ولم يكن هناك ميدان عام ولا ساحة محورية في شتى المدن الإسلامية الكبرى إلا وفيها دكاكين وحوانيت وأسواق خاصة بالوراقين والوراقة، وهو ما ذكره ابن خلدون في مقدمته.
كما بدأ ازدهار بعض الصناعات المرتبطة بالوراقة منها صناعة الورق والجلد والحبر، مع انتشار كتاكيب القراءة والكتابة، وهو ما جعل تلك المهنة في مقدمة أولويات المسلمين وقبلة أبنائهم الأولى خاصة أنها كانت تدر أموالًا طائلةً على ممتهنيها، ناهيك بالمكانة الكبيرة لأصحابها مجتمعيًا.
احتضنت تلك المهنة عشرات آلاف المسلمين من شتى الفئات والطبقات، بعضهم من المشاهير كما هو الحال في زمرة العلماء التي احترفتها وتربحت منها وكانت مصدر رزقها وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل والإمام أبو حامد الغزالي، بل من بين الملوك من امتهنها كما هو حال السلطان الشهيد نور الدين زنكي الذي كان يعمل في النسخ والتغليف.
وقد استهوت تلك المهنة أبناء الأمراء والسلاطين، فها هو الأمير شرف الدولة يحيى بن المعتمد بن عباد اللخمي الأندلسي الذي نسخ الكتب واحترفها، وقد وصفه شهاب الدين المقري في كتابه “نفح الطيب” بأنه نموذج يقتدى به في المثابرة على نسخ الدواويين وكان خطه جميلًا.
وتحولت صناعة الوراقة إلى وجاهة سياسية هذا بجانب توظيفها سياسيًا وجماهيريًا، فكان هناك تنافس محموم بين أنظمة الخلافة الثلاث لامتلاك أكبر قدر من المخطوطات وتقريب الوراقين إليهم بهدف تعزيز شعبيتهم، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال السباق الخلاق بين الأسرة العباسية في بغداد ويمثلها هنا “بيت الحكمة” الذي كان يحتضن الوراقين والمترجمين، والأسرة الفاطمية في مصر ويمثلها “دار العلم”، فضلًا عن الأسرة الأموية في الأندلس التي كان يمثلها “خزانة العلوم والكتب”.
خزانات المعرفة
واستدلالًا على قيمة الوراقة في الحضارة الإسلامية تكتظ عواصم الدول العربية والإسلامية بالعديد من المكتبات التي تحولت إلى خزانات هائلة للمعرفة، تحتضن بين جنباتها مئات الآلاف من المخطوطات التراثية التي نهل منها العالم شرقًا وغربًا منذ مئات السنين وحتى اليوم.
ففي مصر كونها الأكثر احتضانًا للمخطوطات الإسلامية، تمتلك وحدها أكثر من 100 ألف مخطوطة، وفي روايات أخرى أضعاف هذا العدد، ومن أشهر مكاتبها وخزائنها دار الكتب المصرية وجامعة الأزهر وجامعة القاهرة ومكتبة الإسكندرية والمسجد الأحمدي في طنطا، وفي العراق هناك قرابة العدد ذاته من المخطوطات، معظمها في دار المخطوطات الشهيرة في بغداد التي كانت قديمًا في كنف المتحف العراقي.
وفي المملكة العربية السعودية هناك مكتبة الملك عبد العزيز العامة ودار الكتب الوطنية والجمعية العلمية ومكتبة جامعة الملك سعود، فيما تشير بعض التقديرات غير الرسمية أن المملكة تمتلك وحدها 27% من مجموع المخطوطات العربية والإسلامية الأصلية في الدول العربية، وفي المغرب هناك ما يزيد على 50 ألف مخطوطة موزعة على بلدان المغرب العربي ومن أشهر مكتباتها الخزانة العامة والحَسَنية (الملكية) في الرباط، ودار الكتب الوطنية في تونس العاصمة التي تحتوي وحدها على نحو 25 ألف مخطوطة.
وتحتضن مكتبة الأسد الوطنية في دمشق أكثر من 14 ألف مخطوطة، مقارنة بقرابة 20 ألف مخطوطة في صنعاء والروضة وتعز، وفي موريتانيا يتجاوز عدد المخطوطات 40 ألف مخطوطة موزعين في قرابة 300 مكتبة في العاصمة نواكشوط، الوضع كذلك في السودان والإمارات وقطر والصومال.
رغم كل تلك الجرائم المرتكبة بحق التراث الإسلامي، فإن عشرات المكتبات التي لا تزال قائمة حتى اليوم تزخر بآلاف المخطوطات والكنوز التراثية
وعلى المستوى الإسلامي تتصدر تركيا قائمة الدول الأكثر احتضانًا للمخطوطات، فبها وحدها قرابة نصف مليون مخطوطة، فيما تضم دار المخطوطات بإسطنبول وحدها 300 ألف مخطوطة تمثل نحو 10% من إجمالي مخطوطات العالم البالغ عددها 3 ملايين مخطوطة بحسب بعض التقديرات، وإن كان هناك آخرون يشيرون إلى أن العدد أضعاف ذلك بكثير.
ولا تقل إيران عن تركيا زخمًا في خزائنها المعرفية التراثية، ففي العاصمة طهران هناك أكثر من 30 مكتبة تضم قرابة 200 ألف مخطوطة، أبرزها دار المخطوطات الكبرى، وفي الهند هناك أكثر من 20 مكتبة تحتوي على 41 ألف مخطوطة، الوضع ذاته في كازاخستان وأذربيجان والبوسنة.
وكانت هناك آداب صارمة للحفاظ على المكتبات والمخطوطات، فكان يتم وقف المكتبات الشخصية لإثراء المكتبات العامة بعد وفاة أصحابها، هذا بخلاف إفتاء العلماء بحرمة سرقة الكتب وضرورة الحفاظ عليها، هذا بجانب تعيين حراس عليها لحمايتها وكان يطلق عليه “الخازن”، فضلًا عن آداب الاستعارة وطرق التصفح والقراءة وغير ذلك من الضوابط التي كانت متبعة للحفاظ على المخطوطات من التلف.
نكبات ضارية
يشير الباحث التاريخي محمد عبد الحليم بيشي، إلى أن مكتبة المخطوطات الإسلامية التي تعد واحدةً من أكبر خزائن المعرفة في التاريخ، التي يتجاوز عدد مخطوطاتها وفق بعض التقديرات 3 ملايين مخطوطة، تعرضت لموجة من النكبات والعثرات التي قزمتها وأفقدتها الكثير من مضامينها، بعض تلك النكبات بفعل الصراع الداخلي بين الحكومات الإسلامية والآخر متعلق بفعل الخارج ومخططات أعداء الإسلام.
على رأس تلك النكبات تأتي الحروب الضارية التي شهدها المسلمون خاصة الحروب الصليبية التي حرقت وطمست مكتبات مدن بيت المقدس وطرابلس وعكا، كذلك حروب المغول التي دمرت مكتبات هراة وبلخ ونيسابور ومرو والري، وأخيرًا إحراق تراث العراق، ويشير الباحث إلى أن مجمل ما حرقه المغول من مخطوطات وكتب ورموه في نهر دجلة يزيد على مليون مخطوطة.
ثم تأتي الحرائق الأخرى التي شهدتها المكتبات الشهيرة وبعض المخطوطات النادرة، اللافت هنا أن بعض تلك الحرائق جاء بأيدي كتاب وملاك تلك المخطوطات بدعوى التنقية والتطهر من بعض ما جاء فيها، وهو ما وثقته العديد من المراجع، هذا بخلاف الحرائق التي قام بها الاستعمار والمستشرقون، فالبعض دمر المكتبات والآخر سرقها ونقلها إلى بلدان أوروبا للاستفادة منها، حيث تكتظ مكتبات الغرب والشرق على حد سواء بأمهات المخطوطات التراثية العربية والإسلامية.
في ضوء تلك السردية.. فإنه رغم كل تلك الجرائم المرتكبة بحق التراث الإسلامي، فإن عشرات المكتبات التي لا تزال قائمة حتى اليوم تزخر بآلاف المخطوطات والكنوز التراثية، وهي الشاهد الوحيد على ما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية، وما أدلت به في ماعون التقدم والنمو والازدهار، وهو ما سنلقي الضوء عليه تباعًا في تقارير ملفنا “خزائن المعرفة”.