عرف المصريون الورق منذ أكثر من 7 آلاف عام، فهم من أقدم شعوب الأرض دراية بالقراءة والكتابة، وأول من استخدموا مواد وأدوات للكتابة وكانت عبارة عن نبات يزرع على ضفاف نهر النيل يسمى “البردي” الذي يعتبره المؤرخون أول مرحلة في صناعة الورق عرفتها البشرية.
حتى إن كلمة “paper” في الإنجليزية التي تعني “الورق” مشتقة في الأساس من نبات البردي الذي كان يستخدمه المصريون في الكتابة بعد نزع الطبقة الليفية من جذره ثم وضع الألياف جنبًا إلى جنب وبزوايا محددة يعقبها عملية ترطيب وتجفيف ثم ضغط لتلك الطبقات، حتى تصبح صالحة للاستخدام.
ورغم أسبقية المصريين في اكتشاف البردي كأداة للكتابة، ليسوا أول حضارة في العالم صنعت الورق بطريقة علمية، فقد سبقهم الصينيون عام 105 ق. م، حين قدم الموظف في البلاط الملكي الصيني “تساي لون” تصميمًا للورق بشكل علمي بحت من خلال خليط من المواد منها نبات التوت وألياف اللحم والنفايات، حتى أطلق عليه “مخترع الورق”.
وتعد مصر بتاريخها الممتد لآلاف السنين واحدة من الدول السباقة في صناعة الوراقة بصفة عامة، كما أنها وبحكم تعاقب الحضارات والأمم عليها تحولت إلى مكتبة كبيرة تضم بين جنباتها عشرات آلاف المخطوطات التراثية التي تنتمي لعدة عصور وحقب تاريخية، احتوتها العديد من خزانات المعرفة والمكتبات التي تحظى بمكانة وقيمة كبيرة حتى اليوم.
معرفة المصريين بصناعة الورق
كانت الإرهاصات الأولى لعصر صناعة الورق في مصر في عهد الوالي محمد علي باشا (1805-1848)، لكنها عانت من بعض معاول الهدم التي سرعت من سقوطها مبكرًا، كالاحتكار وسوء الإدارة بجانب تكالب بعض القوى على الوالي، ما كان له أثره على العديد من الصناعات التي هوت في ذلك الوقت ومنها الطباعة التي كانت تحتل منزلة كبيرة في مصر.
عرفت مصر الطباعة مع الحملة الفرنسية (798-1801) حين حمل نابليون بونابرت في أثناء قدومه على رأس الحملة 3 مطابع رئيسية، كان الهدف منها طباعة الأوراق والمستندات التي تحتاجها الحملة والقيادة في فرنسا، بجانب طباعة المنشورات والتعليمات التي تصدرها الحملة للمصريين.
وأنشأ محمد علي أول مطبعة في البلاد عام 1820، وقبل ذلك بخمس سنوات أرسل بعثة كاملة لإيطاليا بقيادة نيقولا الماسبكي لتعلم فنون الطباعة ونقل خبراتهم إلى مصر، وحين عاد شرع في تدشين مطبعة رسمية مصرية خالصة على أيدي البعثة وبدأت إخراج أول مطبوعاتها في ديسمبر/كانون الأول 1822.
ثم جاء عهد إسماعيل باشا (فترة حكمه امتدت من 1863- 1879) الذي أولى اهتمامًا فائقًا بالطباعة وصناعة الورق والتدوين، فأنشأ مطبعة بولاق وألحق بها مصنعًا للورق، لتدخل مصر مرحلة مهمة ومحورية في الوراقة، ما أهلها لأن تكون قبلة للمخطوطات التراثية التي نسخت داخل مكاتبها، قادمة من شتى العواصم العربية والإسلامية بل والأجنبية كذلك.
تعد دار الكتب والوثائق القومية الخزانة الأم في الوقت الراهن التي تضم أمهات الكتب والمخطوطات، فهي ذاكرة الأمة المصرية وأرشيفها الذي يوثق تاريخها
جدير بالإشارة أيضًا؛ أن غالبية مصانع الورق والمكتبات الكبرى كانت مملوكة للأجانب، ما أفقد المصريين الكثير من تراثهم ومؤلفاتهم ومخطوطاتهم فيما بعد، حيث جرى نقلها إلى الخارج فيما تلف الجزء الأكبر نتيجة مخططات الإفساد التي كان يتبعها المحتل مع الدولة المصرية، ورغم ذلك ظلت بعض المكتبات بمثابة خزانات معرفة ثابتة، استطاعت التصدي لمعاول الهدم بشكل كبير حتى اليوم.
ومع الدولة الفاطمية (909 – 1171م) ازدهرت الوراقة في مصر بشكل غير مسبوق، فنافست الأسرة العباسية في بغداد والتي كانت تولي تلك الصناعة اهتمامًا كبيرًا ويمثلها في هذا السياق “بيت الحكمة” الذي كان قلعة المخطوطات في العالم الإسلامي في ذلك الوقت، كذلك نافست الأسرة الأموية في الأندلس وخزانة العلوم بها.
وقد أسس الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 1004م “دار الحكمة” أو كما كان يطلق عليها “دار العلم”، وقيل إنها احتوت على 1.6 مليون مجلد – بينها 6500 مخطوطة في الرياضيات و18000 في الفلسفة والترجمة – وعين لها 40 خزانة، كل واحدة تسع 18 ألف كتاب، وكانت مفتوحة أمام جميع الزوار في أبهى حليها، مجدولة فهرسيًا بشكل منهجي لسهولة الاضطلاع والاستعارة والوصول إلى العناوين المطلوبة.
دار الكتب والوثائق القومية
تعد دار الكتب والوثائق القومية الخزانة الأم في الوقت الراهن التي تحتوي على أمهات الكتب والمخطوطات، فهي ذاكرة الأمة المصرية وأرشيفها الذي يوثق تاريخها، لذا تتمتع بمكانة وقيمة كبيرة لدى المواطن المصري بصفة عامة والباحثين والمؤرخين والمهتمين بالإرث التراثي على وجه الخصوص.
تضم الدار التي أنشئت عام 1870م بمبادرة من ناظر المعارف في عصر الخديوي إسماعيل، علي باشا مبارك، تحت اسم “خانة الخديوية المصرية” أو الكتبخانة” أكثر من 57 ألف مخطوطة حاليًّا، وكان تدشينها أولًا في درب الجماميز بوسط القاهرة القديمة (تضم منطقة الحسين والأزهر والغورية)، بهدف سهولة جمع المخطوطات النادرة التي يحتفظ بها الأمراء والسلاطين والمؤلفون في المساجد والأضرحة المنتشرة في تلك البقعة.
جاءت فكرة نشأة الدار من خلال مقترح قدمه علي باشا مبارك الملقب بـ”أبو التعليم” في مصر إلى الخديوي إسماعيل بشأن إنشاء دار كتب وخزانة معرفة على شاكلة المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس التي عاينها وانبهر بها خلال رحلته التعليمية إلى فرنسا، ولم يأخذ الخديوي وقتًا طويلًا للتفكير، فوافق فورًا على الفكرة وأصدر قراره في 23 مارس/آذار 1870 بجمع كل المخطوطات النفيسة التي بحوزة العلماء والسلاطين ووضعها في مكان واحد أطلق عليه “الكتبخانة الخديوية”.
من أبرز النوادر التي تضمها دار الكتب والوثائق القومية المصرية: مجموعة المصاحف المملوكية، التي تمتاز بخطها (المُحَقَّقِ)
ومع اكتظاظ الدار بالمخطوطات والمؤلفات وضيق المكان، تم نقلها إلى المبنى الجديد بميدان باب الخلق عام 1903، ثم أعيد نقلها مرة أخرى إلى مبناها الحاليّ على كورنيش النيل برملة بولاق عام 1973 بعدما تم تدشين بناء كامل خاص بها وافتتاحه عام 1977.
ارتفع رصيد الدار من المخطوطات من 19 ألف مخطوطة عام 1916 إلى 3 أضعاف هذا الرقم عام 1929، وذلك بعدما أضيف لها رصيد مخطوطات المكتبة التيمورية لصاحبها أحمد تيمور باشا، ثم المكتبة الزكية لصاحبها أحمد زكي باشا، ومكتبة مصطفى فاضل باشا، شقيق الخديوي إسماعيل، ومكتبة خليل أغا، والشيخ عمر مكرم، حتى وصل عدد المخطوطات التي تحتضنها الدار إلى 57 ألفًا تضم 59321 مجلدًا و88164 عنوانًا.
ومن أبرز النوادر التي تضمها دار الكتب والوثائق القومية المصرية: مجموعة المصاحف المملوكية، التي تمتاز بخطها (المُحَقَّقِ) ومصاحف مكتبة أحمد طلعت بك التي يوجد بها مصاحف عثمانية وغير عثمانية تَسُرُّ الناظرين والجامع في الأدوية المفردة لابن البيطار والجامع في الحديث لعبد الله بن وهب المصري، ت 197هـ، وهو الكتاب الوحيد في العالم المكتوب كاملًا على البردي وديوان الحادرة (قطبة بن أوس المازني) ومجموع في أمراض العين ومداواتها ونزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي وتفسير أبي الليث السمرقندي.
مكتبة الإسكندرية.. الخزانة المليونية
تعد مكتبة الإسكندرية من خزائن المعرفة التاريخية الأشهر، ليس في مصر فقط بل في العالم أجمع وعلى مدار التاريخ بأكمله، إذ تعد أعظم مكتبات العالم في القرون الأولى وأول مركز دراسات في التاريخ القديم، تأسست عام 300 قبل الميلاد على أيدي بطليموس الأول، وإن نسبت فيما بعد إلى القائد المقدوني الإسكندر الأكبر الذي أمر بإنشائها، لتحيا أوج ازدهارها خلال عصر بطليموس الثاني (309 – 246 قبل الميلاد).
كانت المكتبة تضم ملايين الكتب والمخطوطات، لكنها تعرضت لواحدة من أقبح جرائم الإبادة المعرفية في التاريخ، حين أحُرقت بالكامل على أيدي إمبراطور الرومان يولويوس قيصر عام 48م، ما تسبب في حرق وتدمير أكثر من مليون كتاب ومخطوطة، بينهم أعمال الشاعر الأسطوري الإغريقي هوميروس ومكتبة الفيلسوف اليوناني المعروف أرسطو.
وبعد عقود طويلة حملت الدولة المصرية على عاتقها تطوير تلك المكتبة وإعادة إحياء دورها مرة أخرى بعد سنوات طويلة من الإهمال، وقد تم افتتاحها بشكلها العصري في أكتوبر/تشرين الأول 2002 بحضور عالمي شارك فيه نخبة من كبار مثقفي العالم.
ويقدر المتخصصون حجم ما تحتويه المكتبة اليوم بنحو مليوني كتاب، مكتوبة بعدة لغات أشهرها العربية والألمانية والإيطالية والإسبانية، بجانب لغات أخرى نادرة مثل الكريبولية ولغة هايتي وزولو، وقد قدمت فرنسا للمكتبة نصف مليون كتاب باللغة الفرنسية في مختلف المجالات لتصبح مكتبة اللإسكندرية المكتبة الفرانكفونية الثانية في العالم بعد مكتبة نيويورك، كما تتفوق على مكتبات أخرى عالمية مثل مكتبة جامعة مونتريال في كندا التي تحتوي على 534 ألف كتاب ومكتبة الكونغرس التي تحتوي على 343 ألف كتاب.
تضم مكتبة الإسكندرية العديد من المتاحف الأثرية التي تحتوي هي الأخرى على العديد من المخطوطات النادرة، على رأسها متحف الآثار الذي يضم مخطوطات تعود إلى عصور مختلفة للحضارة المصرية
وتقسم المكتبة من الداخل إلى 5 مكتبات فرعية، أولًا: مكتبة المواد السمعية والبصرية، وتشتمل مكتبة الوسائط المتعددة على أنواع مختلفة من الوسائل السمعية والبصرية، ثانيًا: مكتبة المكفوفين (مكتبة طه حسين)، وتقدم مفهومًا جديدًا لفتح آفاق جديدة للمكفوفين، بما يسمح لهم دخول المكتبة والتعرف على محتوياتها، ثالثًا: مكتبة الأطفال وهي التي تستهدف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6-12 عامًا، وتهدف إلى تشجيع الأطفال على القراءة، رابعًا: مكتبة النشء، التي تستهدف الفئة العمرية بين 12 – 16 عامًا، وتهدف إلى تأهيل النشء وتدريبه على القراءة والبحث، خامسًا: مكتبة المواد الميكروفيلمية، التي تمنح الباحثين فرصة للاطلاع على عدد من المخطوطات والوثائق المختلفة، سادسًا: مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة، التي تضم المخطوطات النادرة التي تمتلكها مكتبة الإسكندرية وهي مخطوطات ذات لغات مختلفة فمنها العربية والتركية والفارسية، وسابعًا وأخيرًا: مكتبة الخرائط، التي تضم أكثر من سبعة آلاف خريطة تغطي جميع أنحاء العالم، كما تتضمن أكثر من 500 أطلس وعدد من الكرات الأرضية.
تضم مكتبة الإسكندرية العديد من المتاحف الأثرية التي تحتوي هي الأخرى على العديد من المخطوطات النادرة، على رأسها متحف الآثار الذي يضم مخطوطات تعود إلى عصور مختلفة للحضارة المصرية بدءًا من العصر الفرعوني حتى العصر الإسلامي مرورًا بالحضارة اليونانية التي جاءت إلى مصر مع غزو الإسكندر.
كذلك متحف المخطوطات، الذي يعد أحد المراكز الأكاديمية الملحقة بالمكتبة، وينقسم إلى: قسم الأوعية النادرة وقسم الميكروفيلم (به قرابة 30 ألف مخطوطة و50 ألف وثيقة) وقسم العرض المتحفي، وفي الأخير يأتي متحف تاريخ العلوم، الذي يوثق بالوثائق والمخطوطات تطور العلوم في مصر على مدى ثلاث فترات تاريخية متعاقبة تتكون منها الأقسام الرئيسية للمتحف وهي: القسم الفرعوني والقسم اليوناني وقسم العلوم العربية والإسلامية.
مكتبة الأزهر.. مهمة حفظ التراث العظيم
تعد مكتبة الأزهر التابعة لمؤسسة الأزهر الشريف واحدة من كبريات خزانة المعرفة في مصر والعالم الإسلامي، إذ تحتضن أكثر من 116 ألف كتاب ومخطوطة في مختلف العلوم والفنون بجانب قرابة نصف مليون مجلد، فضلًا عن مئات المخطوطات النادرة التي حولت تلك المكتبة إلى قبلة للباحثين من مختلف دول العالم.
كانت النواة الأولى لتلك المكتبة التي أنشأها الشيخ محمد عبده عام 1897م نحو 7703 كتب منها 6617 كتابًا مهدى و1086 عن طريق الشراء، وكان هدفها الرئيسي الذي من أجله أنشئت هو حفظ التراث العظيم من الضياع والتلف، فيما كانت المكتبة هي الخزانة الأكثر موثوقية لمكتبات المساجد الكبرى التي تعرضت لعمليات كبيرة من السلب والحرائق.
ومن أشهر المخطوطات النادرة بالمكتبة المصاحف المنسوخة بالخط الكوفي والثلث والفارسي والنسخ، والمحلاة بالزخارف والنقوش، ومنها قطعتان من مصحفين كتبا عام 465هـ، ومصحف مخطوط كتب عام 741هـ، ومصحف مخطوط عام 528هـ.
شهدت المكتبة تطويرًا خلال السنوات الأخيرة حيث زاد عدد طوابقها إلى 14 طابقًا و21 غرفة مجهزة بأحدث النظم المكتبية، كما تتبنى نظامًا لتيسير القراءة والبحث والاضطلاع على الباحثين والطلاب، هذا بخلاف وجود قاعدة بيانات بيلوغرافية تمهيدًا لتحويلها إلى مكتبة إلكترونية، في محاولة لاستعادة المكتبة تاريخها ورنقها القديم.
وهكذا تحتضن مصر العديد من دور الخزانة التاريخية التي كان لها دورها الرائد في حفظ هذا التراث الهائل والاستناد عليه كأحد أعمدة التراث العربي والإسلامي، وسط مناشدات مستمرة لتطوير تلك الخزانات والاستفادة منها قدر الإمكان والحفاظ عليها كونها ثروة قومية لا تقدر بثمن.