اختلف تقييم تركيا للملف السوري، وتنوعت أدوات ووسائل تعاملها وتفاعلها مع مجريات الأحداث في سوريا، بناءً على تقلبات نظرتها للمسألة السورية التي اعتبرتها بداية قضية بين نظام مستبد وشعب يتطلع إلى حريته وكرامته، وما كان لذلك من تداعيات وتخوفات تركية من تطورات الأوضاع لاحقًا على أمنها القومي.
وصاغ هذا التصور مواقفها التي تبنّتها، من دعوة نظام الأسد للانفتاح وإحداث الإصلاحات اللازمة والنزول لمطالب الشارع السوري، وحرصها الجمع بين مصالحها الاستراتيجية والإيفاء بالوعود والمبادئ والشعارات التي رفعتها، والمتمثلة بدعم خط التغيير المتمثّل حينها بثورات الربيع العربي للحصول على موقع رائد ضمن منظومة المنطقة، وهو ما ترجمه موقفها ضد نظام الأسد والداعم لقوى الثورة والمعارضة سياسيًّا وعسكريًّا وإنسانيًّا، وفقًا لرؤيتها ومقاربتها لمسار التغيير الحاصل في المنطقة والتي تعدّ سوريا جزءًا مهمًّا فيه، مع بقاء موقفها عمومًا منسجمًا ومتناغمًا مع مواقف المنظومة الدولية عامة.
ومن ثم مع تحول الساحة السورية إلى ساحة صراع وفوضى، وتحولها بشكل تدريجي إلى تهديد مباشر لأمن تركيا القومي والمجتمعي، مع تعقّد المعادلة السورية وتشعّبها بين مصالح قوى إقليمية ودولية ومحلية مختلفة، فضلًا عمّا تعرّض له ملف الحل السياسي السوري من عملية تشويه وتمييع وتجييره عمدًا لصالح النظام وحلفائه؛ فقدت تركيا الأمل في إحداث خرق جوهري في الملف السوري من ناحية إسقاط النظام وترجيح كفّة المعارضة.
وهكذا ارتبطت القضية السورية مباشرة بالأمن القومي التركي، وأصبحت مسألة حماية الحدود وإدارة تبعات الأزمة السورية على سلَّم الأولويات التركية، لا سيما مع تمدد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (YPG)، ذراع حزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا، على طول الحدود التركية السورية بدعم سياسي وعسكري غربي/ أمريكي وروسي، وما كان لذلك من تأثير مباشر على توجُّه سياسة تركيا واستراتيجيتها حيال الملف السوري.
تناقش هذه المادة الدوافع التي تقف خلف مواقف تركيا وتطور سياستها تجاه الملف السوري، تحديدًا بعد التدخل العسكري الروسي في أيلول/سبتمبر 2015، وما لذلك من انعكاسات مباشرة على الدور التركي في سوريا.
التدخل العسكري الروسي وانعكاساته على الموقف التركي
بلورت تركيا رؤيتها للملف السوري طبقًا لتطورات الوضع الميداني، ومن ضرورات حماية أمنها القومي والحفاظ على مصالحها في ضوء التغييرات الدولية التي كان لها أثر كبير في تشكيل موقف تركيا من القضية السورية، لا سيما في ظل الفوضى التي رسمت المشهد السوري بعد تدخلات إقليمية ودولية، وفقًا لحسابات هذه الفواعل الخاصة بعيدًا عن المصلحة السورية العليا، والتي أدّت بطبيعة الحال إلى بروز أجندات عابرة للحدود تهدد أمن تركيا واستقرارها، والتي كان من أبرزها تمدد حزب YPG و”داعش” الإرهابيَّين على الحدود التركية السورية.
ويمكن القول إن العوامل الثلاثة التي أثّرت سابقًا في تشكيل موقف تركيا تجاه الملف السوري خلال أعوام الثورة السورية الثلاث الأولى، بقيت هي المحرك الرئيسي للسياسة التركية تجاه سوريا والمؤثر المباشر على تفاعلاتها، والمتمثلة بتطورات المشهد السوري سياسيًّا وميدانيًّا في ظل تدويل الملف السوري، خاصة بعد التدخل العسكري الروسي المباشر، إضافة إلى انعكاسات الوضع الداخلي التركي وتفاعلات الأجندة التركية الداخلية وتقلُّباتها، وتغيّرات المقاربة الدولية العامة تجاه القضية السورية.
عمومًا، امتلكت تركيا القدرة على التأثير في المعادلة السورية وإفشال أية حلول أو تفاهمات لا تأخذ مصالحها العليا في الحسبان، بما تملكه من أوراق قوة بحكم علاقاتها المتينة ونفوذها لدى شريحة واسعة من قوى الثورة والمعارضة السياسية والعسكرية السورية، فضلًا عن حضورها الإقليمي المؤثر والمجاور لسوريا، إضافة إلى رسمها شبكة من التحالفات بين مختلف اللاعبين في المنطقة، ما جعل من الصعوبة بمكان استبعادها أو تجاهل مصالحها وحساباتها في سوريا.
اضطرت تركيا إلى خفض سقف مطالبها تجاه الحل في سوريا، والذي عبّر عنه قبولها الضمني بمخرجات مسار جنيف حول الفترة الانتقالية وبقاء الأسد في السلطة خلال فترة انتقالية.
ورغم ذلك، تراجعت الحظوظ التركية في إحداث خرق مهم على صعيد الملف السوري، لا سيما بعد التدخل العسكري المباشر الروسي في سوريا إلى جانب نظام الأسد عام 2015، بعد أن وفّرت له روسيا حماية سياسية في المحافل الدولية، وهو ما كان له أثر مهم وحاسم على دور تركيا في المشهد السوري.
إذ نجحت روسيا عبر هذا التدخل في تحقيق انتصارات عسكرية لصالح النظام، وتمكّنت من زيادة مساحة سيطرته على طول الجغرافيا السورية، على حساب قوى الثورة والمعارضة السورية التي تراجعت وانحسرت ميدانيًّا، وفقدت السيطرة على مناطق استراتيجية واسعة لصالح النظام و”داعش”، بتغاضٍ ضمني غربي وتعاطٍ أمريكي متساهل مع تحركات روسيا وبالتنسيق مع إيران، للحيلولة دون سقوط النظام بعد الانهيارات العسكرية المتسارعة التي عصفت بقواته في مناطق استراتيجية في سوريا.
وأضعفت خطوات روسيا الميدانية التي أعقبت تدخلها العسكري نسبيًّا الدور التركي في سوريا وحدّت من فاعليته، لا سيما بعد مدِّ روسيا شبكتها الصاروخية إس-400 في المنطقة، وسيطرتها على الأجواء السورية بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 بعد اختراقها الأجواء التركية، والتي كان لها أثر بالغ في توتر العلاقات التركية الروسية حينها، وانعكست سلبًا على الطرفَين في ضوء سعيهما الحثيث لتطبيع علاقاتهما.
كما قامت روسيا بإنشاء قواعد عسكرية عزّزت بها تواجدها وتموضعها الاستراتيجي في سوريا وشرق المتوسط، بالتزامن مع تكثيف الغارات الجوية على مناطق سيطرة قوى الثورة والمعارضة السورية، فضلًا عن فرض ضغوط سياسية واقتصادية على تركيا، وتحديدًا عبر افتعال أزمة اللاجئين السوريين على الحدود مع تركيا، عبر قصفها العنيف والمتعمّد مختلف المناطق السورية لا سيما الحدودية مع تركيا.
هذا بالإضافة إلى تنسيق جهودها مع حزب الاتحاد الديمقراطي (YPG)، ودعمه سياسيًّا وعسكريًّا نكايةً بتركيا، والتعاون مع بعض خصوم تركيا في المنطقة كاليونان، إذ أبدت روسيا على سبيل المثال موقفًا معاديًا لتركيا إزاء الأزمة مع قبرص الجنوبية واليونان.
التقارب التركي الروسي وتطبيع العلاقات بين الطرفَين، بعد مسار من التوتر والتجاذب، قد انعكس فعليًّا على الموقف التركي من القضية السورية
في السياق ذاته، تمكّنت روسيا في السنوات التي أعقبت تدخلها العسكري في سوريا من جعل ملف الحل السياسي السوري محكومًا بشكل كبير بقراءتها ومقاربتها الخاصة، بعد حرفها الملف السياسي عن مساره الأساسي الذي ابتدأ مع بيان جنيف 1 عام 2012، ليمرَّ بمراحل متعددة بدّلت وطوّرت بنود الحل السياسي، مرورًا بفكرة المجموعات الأربع وبيانات فيينا 1+2 وأستانا وسوتشي (المسار الموازي لجنيف المفروض من قبل روسيا)، انتهاءً باختصار العملية السياسية باللجنة الدستورية التي تشكّلت عام 2019 بحيث أصبحت روسيا صاحبة الكلمة العليا في سوريا، مع ما أصاب المعارضة السورية من حالة تشرذم وتشتُّت، والتي تتحمل الدول الداعمة مسؤولية كبيرة باعتبار أنها ساهمت في حالة التشظي، ومجاراة بعض الوجوه المعارضة الرؤية الروسية للحل السياسي.
وكل ذلك في ظل غياب ردّ غربي حاسم على التحركات الروسية وتفرُّدها في الساحة السورية، فضلًا عن تراجع الاهتمام الأمريكي بالملف السوري، وتسليمها بالدور الروسي في سوريا، وتنسيق الجهود الدبلوماسية معها عبر الأمم المتحدة، وإيجاد قواسم ومصالح مشتركة مع روسيا من ناحية منع انهيار نظام الأسد ووصول تيارات إسلامية إلى الحكم في سوريا.
إلى جانب التراخي الدولي عن فكرة تغيير النظام وتحقيق الانتقال السياسي وفقًا لمقاربة جنيف 1، التي طغت على مسار الحل السياسي في سوريا على مدى 3 أعوام (2012-2015)، بعد تحصيل تنازل من قوى المعارضة السورية بعدم المطالبة برحيل الأسد مقابل الاكتفاء بفرض عقوبات اقتصادية على النظام، والتركيز على البُعد الإنساني والأمني من القضية السورية، المتمثل بمحاربة “الإرهاب” الذي جسّده تنظيم “داعش” فقط وفق المقاربة الغربية-الأمريكية، واتخاذ “قسد” شريكًا أساسيًّا في الحرب ضد “داعش”، وبالتالي دعمها في إقامة كيان سياسي لها في الشمال السوري، والذي يعدّ خطًّا أحمر بالنسبة إلى أمن تركيا القومي.
كل ما سبق شكّل عامل ضغط على السياسة التركية في سوريا، من ناحية اضطرار تركيا إلى خفض سقف مطالبها تجاه الحل في سوريا، والذي عبّر عنه قبولها الضمني بمخرجات مسار جنيف حول الفترة الانتقالية وبقاء الأسد في السلطة خلال فترة انتقالية، مع تمسّكها بمقاربتها بأن الحل السياسي يكمن في رحيل الأسد بعد فترة انتقالية، والتأكيد على أنه لا مكان له في سوريا المستقبل، والذي يُعتبر ضمن أحد أهم الخلافات الجوهرية مع الجانب الروسي الذي يميل إلى فرض حل سياسي شكلي/ تجميلي، عن طريق اختزال العملية السياسية بمجرّد “إصلاح دستوري” شكلي، وإجراء انتخابات في ظل بقاء الأسد، وإجراء ربما تغييرات ثانوية وسطحية بعيدًا عن النواة العميقة للنظام، المتمثلة ببنيته الأمنية والعسكرية الطائفية.
إعادة ترتيب الأولويات
يمكن القول إن الموقف التركي بعد عام 2015 بدأ بالتراجع عن فكرة إسقاط نظام الأسد لصالح إدارة التبعات التي خلّفتها الأزمة السورية، لا سيما تلك المتعلقة بمخاطر توسُّع سيطرة “قسد”، وذلك بعد متغيرات دولية طرأت على القضية السورية، والذي يمثّل التدخل الروسي أبرز هذه المتغيرات، إضافة إلى الموقف الغربي-الأمريكي المتماهي نسبيًّا مع الرؤية الروسية للحل في سوريا.
هذا إلى جانب أن التقارب التركي الروسي وتطبيع العلاقات بين الطرفَين، بعد مسار من التوتر والتجاذب، قد انعكس فعليًّا على الموقف التركي من القضية السورية، خاصة مع محاولة تركيا العودة إلى سياسة خارجية متعددة المحاور، ورغبتها حقيقةً في تطوير علاقاتها مع الجانب الروسي ورفعها إلى مستوى التعاون الاستراتيجي لموازنة علاقاتها مع الغرب، في ضوء توتر العلاقات الغربية مع تركيا وتدهورها إلى أدنى المستويات، بسبب الخلافات حول عدد من قضايا المنطقة، والتي تعدّ سوريا محورًا مهمًّا في هذا الخلاف، تحديدًا بعد دعم الغرب والولايات المتحدة “قسد”، وما أعقب ذلك من موقف غربي-أمريكي باهت تجاه المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016.
وفقدت تركيا جرّاء ذلك الثقة بـ”حلفائها التقليديين”، وهو الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على دور تركيا ضمن المعادلة السورية، من حيث تبدُّل الأولوية التركية إلى منع تشكُّل كيان سياسي كردي بقيادة “قسد”، والذي أصبح الهدف الناظم لمختلف السياسات والقرارات التركية المتعلقة بسوريا وذلك بالتعاون والتفاهم مع روسيا، بالتوازي مع مسار علاقتها مع حلفائها في المعارضة السورية، وما تبع ذلك من تدخل عسكري تركي مباشر في سوريا عبر عمليتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” بتنسيق مع روسيا، وانخراط تركي فاعل في الملف السوري عبر مسار أستانا بالتنسيق مع روسيا وإيران.