مع بدايات القرن الثامن عشر، تصاعدت حدّة الاستنكار الرافض للعبودية، وانتشرت النزعة التحررية، كما برزت العديد من الشخصيات والحركات الاجتماعية التي نادت بتحرير العبيد، فقد تمرد العبيد على قيود العبودية في كل يوم من حياتهم، وتمثلت وسائل المقاومة لديهم في تخريب المزارع، والتمرد بالغناء، وانتشار الثورات الاحتجاجية، واستمرار ظاهرة الفرار الجماعي، وقتل المواليد والانتحار.
كانت صرخات العبيد في القرن الثامن عشر هي القضية الرئيسية التي خلقت الانقسامات السياسية والأخلاقية في العالم، وكادت أن تمزق الولايات المتحدة، ورغم كون أبراهام لينكولن معروفًا باسم “المحرر العظيم (Great Emancipator)” بسبب الدور الذي قام به في تحرير العبيد، إلا أن هناك العديد من الأساطير والمبالغات التي حيكت حوله، والتي لم تكن أصلًا من اختراعه.
وبالتالي لا بدَّ من إلقاء نظرة فاحصة حول دور لينكولن في إلغاء العبودية في أمريكا، أو على الأقل وضع دوره -وسياساته البراغماتية- في السياق الصحيح، بدلًا من النظرة الملائكية الضيّقة أو تنميط الرجل، فمن المهم عدم وجود صورة أحادية البُعد عن الرجال الأكثر شهرة، وإذا لم تذكر الإخفاقات والتناقضات فما فائدة دراسة التاريخ إذًا؟ كما أنه ليس من المحتّم علينا إيجاد الأعذار وتبرير الفشل الأخلاقي، هذا جزء مهم جدًّا من فهم التاريخ.
ربما يكون لينكولن أحد أهم الرؤساء في تاريخ أمريكا كونه وحّد البلاد من جديد، لكن عملية إلغاء العبودية التي قام بها ارتبطت بتوازنات وتغيرات سياسية واقتصادية، وليست بالضرورة أخلاقية، أو حتى احترامًا لحقوق البشر، كما أن الأمريكيين الأفارقة الذين تمَّ استعبادهم في أمريكا، هم في الحقيقة من أنقذ الاتحاد رغم تجاهل الروايات لذلك، وإننا لنرجو في هذا التقرير المطوّل أن نتحرر من سردية المشهد الأخير، من أجل الوصول إلى كيف ولماذا حدث هذا المشهد؟
الرأسمالية العنصرية وتطورها
عاش لينكولن في وقت شهدت فيه البلاد انقسامًا وتصاعدًا مستمرَّين بين نظامَين اجتماعيَّين واقتصاديَّين مختلفَين، فقد شهد الشمال الأمريكي تطورًا صناعيًّا اعتمد على وجود مجموعة متنوعة من العمال، أما الجنوب فكان يسود فيه حكم الأقلية من ملاك المزارع الضخمة المؤيدين للعبودية، وبالتالي ظلّ الجنوب متمسكًا بالعبودية، نظرًا إلى اعتماد الزراعة بشكل أساسي على العبيد، وأيضًا امتلاك معظم قادة الحزب الديمقراطي للعبيد، فأول 16 رئيسًا لأمريكا كانوا من ملاكي العبيد.
وفي نهاية القرن الثامن عشر، تطورت المجتمعات الحضرية بحيث لم يعد من الضروري الاعتماد على نمط وشكل العبودية اللذين أفرزتهما الرأسمالية العنصرية، والذي ساد من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مع ازدهار اقتصاد المزارع في المستعمرات.
كما تعتبر المؤلفة الإيطالية باتريسيا ديلبيانو في كتابها “العبودية في العصر الحديث”، أن التطورات الصناعية كان لها الدور الأكبر في زعزعة العبودية، حيث ترى أن العبودية أصبحت غير ضرورية بسبب الثورة الصناعية التي نقلت مركز الجاذبية نحو قوى عمل حرّ بأجور زهيدة (صفحة 194).
وبمرور الوقت، نمت الرأسمالية الصناعية، ولم يعد الاقتصاد العالمي في حاجة إلى العبيد بالمعنى والنمط القديمَين، وبالتالي ما حدث بعد ذلك هو إعادة تنظيم وجود العبيد، وترى ديلبيانو أن هذا الأمر كان ضروريًّا لاستمرار نظام العبودية، وضمان وضع متميز لأصحاب المصانع والشركات، وبالفعل نشأت أشكال جديدة من الاستغلال والاستعباد، وجدير بالملاحظة أن المقارنات بين ظروف العمّال والمعيشة وتلك الظروف الخاصة بالعبيد كانت موضعًا للتأمل من قبل العديد من المفكّرين.
معضلة العبودية الأمريكية
عندما نتحدث عن العبودية الأمريكية، فنحن نتحدث عن أكبر وأغنى مجتمع عبودية في تاريخ العالم، ومع ذلك العبودية الأمريكية هي أكثر من مجرد مؤسسة اقتصادية، هي بالأصل جزء لا يتجزأ من قلب الثقافة الأمريكية.
امرأة تطالب بعودة طفليها الصغيرَين اللذين اُنتزعا منها في كارولاينا الجنوبية عام 1862.
<em>بيع بالمزاد لنساء وأطفال أفارقة</em>
وفي حين قام “الآباء المؤسسون (Founding Fathers)” ببناء دولة على أفكار الحرية والعدالة والمساواة، كانوا في الوقت نفسه يستعبدون آلاف الأشخاص من أفريقيا، وحقّقوا من خلالهم ثروات ضخمة، فضلًا عن التعذيب اللاإنساني.
من اللافت أنه في الوقت نفسه الذي كتب فيه توماس جيفرسون إعلان الاستقلال، والذي نصَّ على أن جميع البشر خُلقوا متساوين، ويحق لهم الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، كان أيضًا يمتلك المئات من العبيد، ولذلك علق ويليام غرايمز -أحد العبيد- بالقول: “يمكنهم استخدام جلد جسدي كمخطوطة لكتابة الدستور عليه”.
<a href=”https://en.wikipedia.org/wiki/Gordon_(slave)”>جوردون (عبد)</a>
ومع بدايات القرن التاسع عشر، كانت هناك جدالات وانقسامات عميقة بين القادة الأمريكيين حول التحدي الأخلاقي المتمثل في العبودية، وكيفية مواجهة التناقض بين القيم التأسيسية الأمريكية التي قامت على الحرية والعبودية البشرية.
دعمَ بعض الجمهوريين السياسات المناهضة للعبودية، في حين دافع الديمقراطيون بشراسة عن العبودية، وفي الثقافة الأمريكية هناك فرق كبير بين “مناهضة العبودية (Anti-Slavery)” و”إلغاء العبودية (Abolitionists)”، فالأولى تناهض العبودية لأنها تقوّض العمل الحر، بينما الثانية تدعو لإلغاء العبودية لأنها لا تتفق مع حقوق الإنسان.
كان لينكولن محسوبًا على تيار “مناهضة العبودية” ولديه بعض التحفظات على مؤسسة العبودية، لكنه لم يكن من دعاة إلغاء العبودية تمامًا، ولطالما أعلن طوال حياته أنه لا يناضل من أجل مساواة سياسية واجتماعية بين العرق الأبيض والأسود، كان ضد انتشار العبودية في الشمال، بسبب التهديد الذي مثّلته على أهل المزارع الصغار، وكذا منافسة العمّال البيض الأحرار مع مالكي العبيد الأثرياء.
الأشخاص الذين يملكون العبيد جعلوا البيض الذين لا يملكون عبيدًا فقراء، وخاصة المهاجرين الذين يأتون ويريدون أن يصبحوا قوة عاملة، ثم يرون أنفسهم يتنافسون مع العبيد، وبالتالي تنامى الاستياء السياسي والاقتصادي من العبودية بسبب أنها قوّضت العمل الحر.
لا يعني هذا أن الشمال كره العبودية لسبب أخلاقي، فحتى مع معارضة بعض البيض الشماليين للعبودية، لم يكونوا يؤمنون بضرورة تمتُّع الأفارقة السود بالمساواة السياسية والاجتماعية، بل كانوا يبغضون السود ويرونهم في منزلة أقل منهم.
لذلك كان لينكولن منخرطًا في الخطاب العنصري الشائع بين سياسيي إلينوي، وكان يعتقد بنقاء العرق الأبيض ودونية العرق الأسود، تقول الدكتورة إدنا غرين ميدفورد: “علينا أولًا أن نتذكر أن لينكولن ابن الجنوب، قد يكون انتقل إلى إنديانا، ثم إلى إلينوي، لكنه ولد في كنتاكي وتربّى على ثقافة البيض الجنوبيين”.
ورغم كون لينكولن معارضًا لسياسة تمدد العبودية إلى الشمال، فقد دافع عن حق الولايات الجنوبية في العبودية، كما تزوّج من عائلة كين-تاكي التي تتاجر وتمتلك الكثير من العبيد.
إن قلق لينكولن من انتشار العبودية في الشمال لم يكن في حقيقة الأمر تحولًا إلى الشعور الأخلاقي بأن العبودية كانت خاطئة، لذلك يقول: “إن ولايات العبيد هي أيضًا أماكن للفقراء من الأشخاص البيض”، كما كان يجادل بأن نموذج التطور الصناعي الموجود في الشمال، والذي اعتمدَ على عمالة رخيصة وأجور زهيدة، أفضل من نظام العبودية في الجنوب، في حين كان الجنوبيون يثنون على مجتمع العبيد ويعتبروه متفوقًا على مجتمع العمل الحر، لذلك يقول لينكولن: “أهل الجنوب يقولون إن عبيدهم أفضل حالًا من العمّال لدينا في الشمال، كم يجهلون ما يتحدثون عنه، العمل الحر يلهم الأمل، أما العبودية فلا أمل فيها”.
ورغم أن الشمال في وقت لينكولن كان أقل اعتمادًا على العبودية من أي وقت مضى، إلا أن ستيفن دوغلاس، سيناتور إلينوي، صاغ عام 1854 مسودة قانون “كانساس – نبراسكا”، والذي سمح بانتشار العبودية شمالًا دون أي قيود.
عارضَ لينكولن هذا القانون، وعندما ترشّح لانتخابات الرئاسة عام 1860 كانت قضية العبودية تستخدَم في المناورات والمناظرات السياسية، أراد الأشخاص الأقوياء في الكونغرس والمحكمة العليا والرؤساء الديمقراطيون، جعل كل الولايات المتحدة منفتحة على العبودية، ومتصالحة مع مصالح مالكي العبيد، في حين أراد لينكولن وبعض الجمهوريين تقييد قوة مالكي العبيد، ووقف تمدد العبودية إلى الشمال، وإبقاءها داخل حدودها في الجنوب، الأمر الذي أثار حفيظة الديمقراطيين وقادة الجنوب الغاضبين، حيث هاجموا لينكولن بشراسة، ووصفوه بالمتطرف والجمهوري الأسود، كما بدأوا يتحدثون بصوت أعلى عن الانفصال، وعدم القبول بلينكولن رئيسًا.
الرصاصة الأولى
شكّلت التحفظات التي أبداها لينكولن حول العبودية عواقب حقيقية أثارت حفيظة أنصار العبودية الغاضبين، لدرجة أن بعض الولايات الجنوبية حذفت اسم لينكولن من بطاقة الاقتراع، وفي سباق رئاسي من 4 مرشحين خرج لينكولن منتصرًا، وكان أول رئيس جمهوري يفوز بالرئاسة، لكن بدا أن هذا النصر الذي حقّقه في الانتخابات هو بداية الأزمة.
لم يقبل الجنوب بنتيجة الانتخابات، وأثناء رحلة لينكولن عبر القطار من سبرينغفيلد إلى العاصمة واشنطن قبل تنصيبه فيها عام 1861، تعرّض للعديد من التهديدات التي وُجّهت إليه، فقد كشف آلان بينكرتون، رئيس وكالة المباحث، عن مؤامرة اغتيال تنتظر لينكولن في محطة بالتيمور، لذلك سافر متخفيًا، وغيّر مسار وتوقيت الرحلة، كما اضطر إلى التسلل ليلًا إلى العاصمة واشنطن (تمَّ تجسيد هذه المؤامرة في فيلم The Tall Target، الذي أخرجه أنتوني مان عام 1951).
وعندما فشلت محاولة الاغتيال، ثار الجنوبيون البيض سريعًا، وشرعوا في بناء دولتهم على أساس الاستعباد وسيادة العرق الأبيض، لأنهم اعتبروا أن تحفظات لينكولن لا تتعلق فقط بوقف تمدد العبودية، بل تدمير النظام الذي يعتمد عليه الكثير من الأمريكيين الجنوبيين في معيشتهم، وبالأخص استمرارهم في جلب المزيد من الأفارقة إلى أمريكا.
لكن اللافت هو ما فعله المثقفون والعلماء، حيث ضاعفوا من النظريات العلمية المفترضة حول دونية العرق الأسود، واعتبروا أن لينكولن سيخلُّ بالتوازن الدقيق بين العبيد والقوميين البيض، مثلما يوضّح الدكتور بول دي إسكوت في كتابه “معضلة لينكولن (Lincoln’s Dilemma)” (صفحة 11).
كما كانت غالبية الجنوب تستند في تبرير استمرار العبودية على الكتاب المقدس، وتعتبر العبودية هي “مشيئة الله”، فمثلًا يقول جيفرسون ديفيس، رئيس الولايات الكونفدرالية الجنوبية: “ندرك أن الزنوج أدنى منزلة منا كما تأمرنا شريعة الرب، إنهم مخلوقون للعبودية، وطابع الدونية الفطرية فيهم عصي على التغيير”.
علاوة على ذلك، كان الكثير يعتقد أن العبودية هي أساس المساواة والديمقراطية للعرق الأبيض، إضافة إلى أن الحماية القانونية للعبودية منصوص عليها بموجب الدستور الذي اعتبر العبيد نوعًا من الممتلكات، ولذلك كان هناك مجموعة من المعترضين على الدستور الأمريكي، اعتقدوا أن الدستور ظالم، تحالفَ مع الموت، وأبرم اتفاقًا مع الجحيم، ولذا لقّبوه بميثاق الشيطان، وخرجوا في مسيرة عام 1854 بقيادة وليام لويد أحرقوا فيها الدستور.
حاول لينكولن أن يطمئنَ الجنوب بأنه لن يقترب من العبودية فيها، وفي خطاب تنصيبه الأول أكّد على أهمية الحفاظ على تماسك البلاد ولو على حساب بقاء العبودية، كما وعد بالتمسك بقانون تعقب العبد الهارب سيّئ السمعة (قانون يسمح بإعادة الأشخاص الذين هربوا من العبودية إلى العبودية).
وحاول استرضاء الجنوب، قائلًا: “يبدو أن هناك مخاوف بين سكان الولايات الجنوبية من أن تولي رئيس جمهوري للحكم سيعرّض ممتلكاتهم وسلامتهم للخطر، ليس لدي أي غرض بشكل مباشر أو غير مباشر في الصدام مع مؤسسة العبودية في الولايات التي توجد فيها، كما أعتقد أنه ليس لدي أي حق قانوني للقيام بذلك”.
لم تمنع تصريحات لينكولن الولايات الجنوبية من الانفصال، وبدت ولاية كارولاينا الجنوبية الأكثر إثارة للقلق، حيث أعلنت الانفصال عن الاتحاد ثم سيطرت على حصن سمتر العسكري، وبسقوطه انفصلت كارولاينا وفرجينيا وأركنساس، وتبعتها الولايات الأخرى، وبعد 9 أشهر من إطلاق أول رصاصة في الحرب الأهلية، تلاشت الآمال في تحقيق الاتحاد.
الموحِّد العظيم
رفضَ لينكولن أن يكون الرئيس الذي يخسر نصف البلاد بمجرد تقلّده السلطة، ولذلك ركّز كل جهده لاستعادة الاتحاد، ولم تكن مسألة تحرير العبيد أولوية سياسية له عندما تولّى منصبه، حيث تقول كيلي جاكسون، أستاذة التاريخ في كلية ويليسلي: “لم يبدأ لينكولن رئاسته ليكون المحرر العظيم، لقد أراد أن يكون الموحّد العظيم، والشخص الذي سيجمع شتات البلاد من جديد”.
يمكن رؤية هذا بوضوح في تصريحات لينكولن طوال فترة رئاسته التي هيمنت عليها الحرب الأهلية، فقد كان يعتقد بأن استعادة الاتحاد أهم من إنهاء العبودية، وشعر بالسوء لأن الحرب تسير على نحو سيّئ، وكل المعطيات توحي بأن الشمال لن ينتصر، خصوصًا بعد مجموعة الهزائم المتتالية التي مُنيَ بها الاتحاد في العديد من المعارك، وفشل جنرالات لينكولن في إحراز أي نصر عسكري.
ولذلك يقول لينكولن في تصريح هام جدًّا عام 1862: “إنقاذ الاتحاد هو هدفي الأساسي من هذا الكفاح، لا إنقاذ العبودية أو القضاء عليها، إن كان بوسعي إنقاذ الاتحاد من دون تحرير أي عبد، فسأفعل ذلك، وإن كان بوسعي إنقاذه بتحرير العبيد كلهم، فسأفعل ذلك، وإن كان بوسعي إنقاذ الاتحاد بتحرير بعض العبيد وترك الآخرين، فسأفعل ذلك أيضًا”.
خاضَ لينكولن الحرب الأهلية ليس من أجل تحرير العبيد لكن من أجل الحفاظ على الاتحاد، كما يظهر هذا بكل وضوح حين أعلن أكثر من مرة السماح للولايات الجنوبية بالحفاظ على العبودية، إذا عادت إلى الاتحاد.
طرد الأمريكيين الأفارقة
عندما سافر لينكولن إلى نيو أورلينز ورأى مخيمات العبيد الهاربين، تحدّث إليهم وأصبح لديه شيء من التعاطف معهم، لكنه لم يدع مشاعره الشخصية تحدد أفعاله السياسية، رغم إدراكه لوحشية العبودية، ولذلك يقول: “مشاعري لن تسمح بأن أُحرر العبيد وأساويهم بنا سياسيًّا واجتماعيًّا، وإن سمحت، فنحن نعرف جيدًا أن مشاعر غالبية العرق الأبيض لن تسمح بذلك”.
وفي السلسلة الوثائقية “معضلة لينكولن”، توضّح أستاذة التاريخ في جامعة هوارد، إدنا غرين ميدفورد: “اعتقد لينكولن أن العبيد من الممكن أن يكونوا أحرارًا، ولكن ليس في الولايات المتحدة، حيث كان يعتقد باستحالة مساواة الأمريكيين الأفارقة مع العرق الأبيض، ولا يرى مستقبًلا بوجود إمكانية أن يصبح الأفارقة مواطنين، ولذلك كانت لديه خطة مقترحة لطرد الأمريكيين الأفارقة الأحرار خارج البلاد في مستعمرات أمريكا الوسطى والجنوبية، وكذلك إلى ليبيريا -نُفّذت أجزاء من هذه الخطة-، كما كان يعتقد بأن السود الهاربين من العبودية أنانيون بسبب عدم مغادرتهم البلاد”.
ورغم أن البعض أشار له باستحالة إرسال العبيد إلى ليبيريا على المدى القصير، بسبب عدم توفر ما يكفي من السفن والأموال، والاستعدادات لإبقائهم في أفريقيا، إلا أن لينكولن اعتقد بوجود أمل كبير في هذه الفكرة، حيث دعا مجموعة ممّن اُعتبروا قادة للأمريكيين الأفارقة إلى البيت الأبيض، وعاملهم بكل غطرسة، محاولًا إقناعهم بأن يحثّوا السود الآخرين على مغادرة الولايات المتحدة، لأنه يرى أن الأجناس لا يمكن أن تتعايش أبدًا، كما أنه ألقى باللوم على الأفارقة، حيث قال لهم: “لو لم يكن عرقكم بيننا، لما تورّطنا في هذه الحرب”.
ويستكمل لينكولن حديثه للأمريكيين الأفارقة: “أرى أن عرقكم يعاني أكبر ضرر قاساه أي شعب، لكن عندما تنكسر قيود عبوديتكم، ستكونون أبعد ما يمكن عن المساواة مع العرق الأبيض، في هذه القارة الواسعة، لا يساوي رجل واحد من عرقكم رجلًا واحدًا من أمتنا، وسأعجز عن تغيير ذلك إذا أردت، لذلك ينبغي لنا جميعًا أن نفترق”.
وفي عام 1862 اندلعت انتفاضة سيوكس في منطقة مينيسوتا، وهي انتفاضة قام بها بعض السكّان الأصليين ضد الولايات المتحدة بسبب إجبارها لهم على التنازل عن مساحات كبيرة من أراضيهم، حيث تمَّ قمع الانتفاضة بوحشية من قبل الجيش الأمريكي، وصدّق لينكولن بنفسه على أحكام الإعدام الجماعية، ويعلّق المؤرخ الأمريكي، الدكتور ستيفن هان: “انتهت الانتفاضة بأكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأمريكي”.
وبعدها التقى عدد من زعماء القبائل مع لينكولن عام 1863 للتباحُث حول مصير السكان الأصليين، وجاء ردّ لينكولن عليهم قاسيًا، حيث قال لهم: “إن هذه المنطقة الشاسعة التي يملكها ويسكنها أشخاص في الولايات المتحدة، لا يوجد فيها سوى مكان لعائلة وطنية واحدة، وليس لعائلتَين”، ما يعني أنه لا يوجد مكان للأفارقة الأمريكيين، ولا حتى للسكان الأصليين.
مفتاح الفوز في الحرب
“الشعب الأسود هم القوة العظيمة المتاحة، لكنها غير مستغلة لاستعادة الاتحاد”، أبراهام لينكولن.
عندما اقترح بعض الجنرالات السماح للعبيد الهاربين بالخدمة في جيش الاتحاد، رفض لينكولن خوفًا من أن يؤدّي ذلك إلى عزل حلفائه المعتدلين، ولكن بحلول عام 1862 كان جيش الاتحاد في حالة يرثى لها ويفتقر إلى الجنود.
سعى الجنوب لإطالة أمد الحرب، حتى يتخلى الشمال عن دعم لينكولن في الانتخابات القادمة، وبعد فشل جنرالات لينكولن في إحراز أي تقدم عسكري، بدأ لينكولن التفكير في أن إعلان تحرير العبيد قد يكون المفتاح لقمع التمرد، وزرع المزيد من الفوضى في الجنوب.
فالجنوب يعتمد بشكل أساسي على عمل العبيد المتمثل في تجهيزات كافة أعمال الجيش، وإنتاج ونقل المواد الغذائية، وصنع الأسلحة، وحفر الخنادق، وبناء القوارب والتحصينات والطرق، وطهي الطعام، والاعتناء بالعائلات والجنود الجرحى، وبالتالي من دون العبودية لن يتمكن الجنوب من الاستمرار في القتال.
كما أن إعلان التحرير سيمكّن لينكولن من استخدام العبيد في الجيش للمساعدة في الحرب، وهو الأمر الذي بات ضرورة سياسية وعسكرية، بل محاولة أخيرة يائسة لإنقاذ الاتحاد، ويرى الدكتور شين ويلنتز أن لينكولن أدرك في نهاية المطاف عدم استطاعته الفوز في الحرب من دون إعلان تحرير العبيد.
وعوضًا عن الجزرة التي لم تفيده مدة عامَين، استخدم لينكولن العصا التي لديه، حيث إن إعلان تحرير العبيد سيقوّض الجنوب داخليًّا، لأنه معتمد في جميع النواحي على العبودية، وجدير بالملاحظة أنه في العام 1862 كان لا يزال في نيران العبودية نحو 4 ملايين شخص أسود، أكثر من 90% منهم يعيشون في الجنوب، كدحهم محرك اقتصاد الجنوب.
وفي سبتمبر/ أيلول عام 1862 وقّع لينكولن على مرسوم أعلن فيه حرية جميع العبيد في مناطق ولايات الجنوب المتمردة، كما وقّع مرسومًا آخر سمح للعبيد بالانضمام إلى جيش الاتحاد بدافع “الضرورة العسكرية”.
وبالتالي لم تكن القضية تتعلق برأفة الرجل، بقدر ما هي مناورة تكتيكية بعيدة عن الإنسانية والأخلاق، ولذلك علق فريديرك دولاغس، وهو كان معاصرًا للينكولن، قائلًا: “إن لينكولن أنهى العبودية في الأمكان التي لا توجد لديه فيها سلطة، وسمح باستمرارها في الأماكن التي لديه فيها سلطة”.
وبمجرد أن فُتح للعبيد باب التجنيد في الجيش، ارتفعت معدلات الهروب من معسكرات جيش الجنوب، وانضمَّ ما يزيد على 200 ألف شاب من الأمريكيين الأفارقة إلى الجيش من أجل أن ينالوا حريتهم، ويقاتلوا من استعبدهم وعرّضهم لظلم وذلّ شديدَين، كما هربت النساء أيضًا وشاركنَ بالتمريض وطهي الطعام.
لقد فرَّ من قيود العبودية آلاف العبيد، وكان لهم الدور الأكبر في قلب موازين القوة العسكرية، إضافة إلى أن كل شخص أسود هرب من عبودية الجنوب، ساهم في هذه المعركة، حيث إن لديهم معرفة بالطبيعة الديموغرافية والتحركات العسكرية أكثر من جيش الاتحاد، وبالتالي يعدّون مصدرًا استخباراتيًّا هامًّا.
الحرية والاتحاد
قاتل الشماليون من أجل استعادة الاتحاد، بينما قاتل الأمريكيون الأفارقة من أجل تدمير مؤسسة العبودية والحرية لأنفسهم ولشعبهم، وبالتالي كان لديهم سبب أكبر للقتال من الشماليين، كما ظهرت شجاعة الجنود السود في القتال تحت تهديد الإعدام إذا وقعوا في الأسر، لأن قوات الجنوب عندما كانت تأسر الأمريكيين الأفارقة في ميدان المعركة كانت تقوم بإعدامهم، بدلًا من معاملتهم كأسرى حرب مثل الجنود البيض.
لقد استبشع الجنوبيون رؤية الأمريكيين الأفارقة وهم يحملون الأسلحة في وجوههم، كان هذا الأمر فظيعًا في أذهانهم، ولذلك جاء ردّهم على الجنود السود مختلفًا عن الجنود البيض، ورغم ذلك كان معظم الشماليون في جيش الاتحاد غير مرتاحين للقتال إلى جانب الجنود السود، ولم يتقاضَ الجندي الأسود أجرًا مساويًا للجندي الأبيض، وحين اعترض الجنود السود على ذلك تمَّ إعدامهم.
كما كان يتم حرمانهم من الترقيات وغيرها من أشكال التمييز، في حقيقة الأمر لم تظهر شجاعة الأمريكيين الأفارقة في المعارك العسكرية التي خاضوها فقط، بل كذلك في محاربة التصورات العنصرية الموجودة عند البيض الشماليين، يقول المؤرخ الأمريكي تيد ويدمير: “من العدل أن نقول إن الرجال والنساء الأمريكيين الأفارقة في الحرب الأهلية كانوا شجعان، لقد جعلوا لكلمات إعلان الاستقلال معنى حقيقيًّا”.
إرث العبودية
أدرك الأمريكيون الأفارقة أن عدم انتصار جيش الاتحاد في هذه الحرب يعني أن العبودية ستستمر، ولذلك قاتلوا بشراسة، إلى أن استسلم روبرت لي، جنرال الجنوب، لجيش الاتحاد في 9 أبريل/ نيسان 1865، لتعلَن بذلك نهاية الحرب الأهلية.
ولم يقُم لينكولن بإعلان إلغاء العبودية إلا بعد فوزه في إعادة انتخابه عام 1864، ففي 31 يناير/ كانون الثاني 1865 أقرَّ الكونغرس التعديل الثالث عشر للدستور، وبذلك أعلن إلغاء العبودية في جميع أنحاء البلاد، وهو إعلان لم يؤمّن لجميع الأشخاص المستعبدين سابقًا جميع الحقوق التي يتمتع بها الأمريكيون البيض.
فبمجرد أنك حرّ لا يعني أنك مواطن، وجدير بالملاحظة أن إعلان التحرير لم ينهِ العبودية تمامًا في كل أمريكا، بل أنهى العبودية في بعض الولايات المتمردة فقط، وفي الواقع كافأ لينكولن الولايات الحدودية على ولائها (ميزوري وكنتاكي وماريلاند وديلاوير)، وسمح لها بمواصلة استعباد السود حتى عام 1900.
هذا بالإضافة إلى أن الجنوب الأمريكي استخدام أشكالًا أخرى من العبودية، مثل العمل القسري المؤقت الذي تمَّ تطبيقه على الأمريكيين الأفارقة فقط، وهو ما يعرَف بـ”قوانين العبيد (Slave codes)”.
وبعد الحرب الأهلية الأمريكية، شعر معظم أهل الجنوب البيض بأنهم لم يخسروا الحرب فقط، بل خسروا أسلوب حياتهم، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتعرّضوا للأهانة، وبالتالي عاش الأمريكيون الأفارقة حياة مليئة بالبؤس والاضطهاد، بسبب فرض أمة البيض نظام مجتمعي عرقي صارم، كأحد أشكال الفصل العنصري.
رغم أنهم أراقوا من دمائهم في ساحات المعارك، لم يحظَ الأمريكيون الأفارقة بالحقوق نفسها التي يتمتع بها البيض، ولذلك استمر النضال من أجل تحقيق التحرر الكامل والمساواة في الجوانب المادية من المعاملة، والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم.
ورغم أن أحداث الحرب أصابت مؤسسة العبودية بجروح خطيرة، إلا أنها لم تمُت، حيث من السهل إعلان إلغاء العبودية، لكن إن لم يتم التعامل مع روح العبودية فسوف تبقى دائمًا موجودة، لقد انتصر الاتحاد عسكريًّا لكن فاز الجنوب أيديولوجيًّا.
ولذلك تقول المؤرخة إدنا غرين ميدفورد: “الكثير من الأدبيات، والمواد التاريخية، والكتب المدرسية، وكل ما تعلمناه وفهمناه عن الحرب الأهلية، ومؤسسة العبودية، تمّ كتابته من خلال منظور المستعبد، ومن خلال عدسة تفوُّق العرق الأبيض على الأسود… لا يوجد نصب تذكاري، ولا صورة، ولا رمز، ولا أي شيء يشير إلى 400 سنة من العبودية، ولا حتى الإشارة إلى موت الأشخاص السود الذين فقدوا حياتهم خلال الحرب الأهلية، وهذه معركة ما زلنا نكافح فيها”.