في الوقت الذي اختار فيه آلاف التونسيين “الحرقة” نحو دول أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط أو عبر الحدود الصربية الأوروبية، اختار عدد آخر طريقًا أقل خطورة، لكنه مكلف كثيرًا من الناحية المادية، لا يستطيع إلا عدد قليل المضي فيه.
تتمثل هذه الطريقة الجديدة في شراء عقود عمل وهمية في فرنسا، تُمكن الشاب من الوصول إلى هذه الدولة الأوروبية وهناك يتم منحه وثائق إقامة موسمية بين سنة و3 سنوات، تمكنه من التحرك بأريحية نوعًا ما والعمل في السوق السوداء، إلى أن يتمكن من تسوية وضعيته القانونية والحصول على الإقامة الرسمية.
انتشرت هذه الطريقة بكثرة في السنوات الأخيرة، خاصة في مدن الجنوب التونسي التي تزداد فيها نسب البطالة وترتفع فيها نسب الفقر والتهميش، فالدولة هناك شبه غائبة ولا يمثلها إلا الأعلام المنتشرة في بعض المكاتب.
سنحاول في هذا التقرير الجديد لنون بوست، ضمن ملف “الحرقة التونسية” التعرف على تفاصيل هذه الرحلة نحو أوروبا، ومسارها الطويل، فضلًا عن المشرفين عليها في تونس وفرنسا، وفرص نجاحها، دون أن نغفل الإقبال إليها رغم ارتفاع ثمنها.
آلاف العقود سنويًا
ارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين التونسيين القاصدين دول أوروبا، جعل بعض هذه الدول تقرّ إجراءات الهدف منها الحد من هذه الهجرة والمساهمة في مكافحة ارتفاع نسب البطالة والفقر في تونس، حتى لا تصلها أعداد أكبر.
ضمن هذه الإجراءات توقيع اتفاقيات ثنائية في مجال التشغيل، من بينها ذلك الاتفاق المبرم بين تونس وفرنسا والمتعلق بالتصرف التوافقي في مجال الهجرة والتنمية المتضامنة الذي تم توقيعه في شهر أبريل/نيسان 2008.
أقر هذا الاتفاق إسناد تونس حصة سنوية بـ9 آلاف موطن شغل تتوزع على التالي: الشبان المهنيون (1500 في السنة)، بطاقة إقامة “كفاءات ومهارات” (1500 في السنة)، وقائمة المهن (77 مهنة) المطلوبة بسوق الشغل الفرنسية، (3500 في السنة)، فضلًا عن العمل الموسمي (2500 في السنة).
ضبط هذا الاتفاق، شروط وأساليب الهجرة إلى فرنسا ومدة العمل المرخص فيها وظروف الإقامة والعمل والحيطة الاجتماعية، كما ضبط إجراءات دراسة المطالب وإعلام وتوجيه المعنيين وتسليم تأشيرات الدخول والإقامة.
استفاد العديد من الشباب من هذه الآلية، وبفضلها تغيرت حياتهم نحو الأفضل وتحسنت نوعًا ما
للعمال الموسميين الحق في الإقامة والعمل في فرنسا لمدة تصل إلى 6 أشهر كل سنة، ويستفيدون من بطاقة الإقامة التي تتراوح بين سنة وثلاث سنوات قابلة للتجديد، في سنة 2019 غادر 1530 عاملًا موسميًا إلى فرنسا ويعمل جميعهم تقريبًا في القطاع الفلاحي.
بمقتضى اتفاق إطاري بين تونس وفرنسا، يعتبر “عملًا موسميًا” كل عمل يمارس سنويًا خلال نفس الفترة من السنة ويكون خاصة في المجالات التالية: الفلاحة والسياحة والصناعات الغذائية، ويمكن للمشغلين الفرنسيين انتداب يد عاملة تونسية موسمية في إطار العمل الموسمي شريطة عدم توافر الكفاءات المطلوبة في سوق الشغل الفرنسية.
استفاد العديد من الشباب من هذه الآلية، وبفضلها تغيرت حياتهم نحو الأفضل وتحسنت نوعًا ما، فقد كانت البطالة لا تفارقهم، خاصة مع تردي الوضع الاقتصادي في البلاد خلال السنوات الأخيرة وعدم وجود بوادر حل في الأفق القريب.
وتظهر بيانات إحصائية رسمية نشرها المعهد الوطني التونسي للإحصاء، وهو مؤسسة حكومية، أن نسبة البطالة في تونس بلغت خلال الربع الثاني من العام الحاليّ 15.3%، إلا أن العديد من الجهات غير الرسمية تشكك في هذه الإحصاءات باعتبار النسبة أكبر.
طرق كثيرة للحصول على العقود
هناك طرق كثيرة للحصول على هذه العقود أبرزها متابعة عروض الشغل التي تنشرها المؤسسات الفرنسية غالبًا، وتكون موجهة خصيصًا للتونسيين أو مفتوحة للعموم، وعلى المترشح تقديم طلبه وانتظار النظر فيه.
هناك طريقة أخرى، تتثمل في إرسال عقد عمل مباشرة لصاحبه من صاحب العمل، ويكون ذلك عن طريق واسطة تعرف صاحب عمل، إما صديق وإما أحد يشتغل عنده، ويستفيد المئات من هذه الطريقة التي تعتبر ناجعة.
أما الطريقة الثالثة فتكون عن طريق شراء عقد عمل وهمي، وغالبًا صاحبه لا يشتغل به، وإنما يكون فقط وسيلةً للوصول إلى فرنسا والحصول على بطاقة إقامة موسمية تسهل له عملية البحث عن عمل بطريقة يمكن القول إنها قانونية.
يمر جميع المستفيدين من هذه العقود، عبر “الديوان الفرنسي للهجرة والاندماج” وهي مؤسسة عمومية ذات طابع إداري تابعة لوزارة الداخلية الفرنسية وموضوعة تحت سلطة الإدارة العامة للأجانب بفرنسا، ويطبق الديوان الإجراءات الإدارية والصحية الخاصة بدخول الأجانب إلى التراب الفرنسي.
بداية المحاولة
يحاول حسام الحصول على عقد عمل موسمي في فرنسا منذ أكثر من 3 سنوات، لكنه لم يُفلح، فقد اتصل بالعديد من أقاربه هناك لكن دون فائدة، كما حاول أيضًا عن طريق الاتصال المباشر بالمؤسسات الفرنسية لكن لم يحالفه الحظ وفق قوله.
يقطن حسام إحدى قرى محافظة قبلي جنوب البلاد، يبلغ عمره 31 سنة، وهو حاصل على شهادة جامعية في مراقبة جودة المواد الغذائية، كما حصل أيضًا على شهادة تكوين مهني اختصاص طبخ، مع ذلك أكثر وقته لا يعمل.
الكثير من أبناء قريته توجهوا نحو فرنسا عبر عقود العمل الموسمية، فيهم من تزوج وفيهم من بنى بيتًا أو حسّن بيته القديم، وبعضهم اختار البقاء هناك ولم يرجع للقرية، بعد أن قرّر صاحب العمل عدم تجديد العقد لتراجع المنتج.
حاول سالم الحصول مرتين على عقد عمل وهمي إلا أنه لم يقدر على ذلك وكان ضحية تحايل في إحدى المرات
سمع حسام برجل في بلدته يعمل كوسيط يؤمن عقود عمل وهمية في فرنسا بالمجال الفلاحي، سبق أن أمن خروج بعض شباب المنطقة دون أي إشكالات، حاول أن يجد طريقة للاتصال به، فكان له ذلك، فرقم “القنصل” عند الجميع.
اتصل به مباشرة وحدد موعدًا يلاقيه فيه في مقهى، تم اللقاء السريع واتفقا على أبرز النقاط، أخبره الوسيط أن العقد يكلف 10 آلاف يورو (32 ألف دينار تونسي) تقدم في فرنسا للذي سيؤمن العقد مع إضافة ألفي يورو (6400 دينار تونسي) له أي للوسيط مقابل وساطته، وله أن يقدم كامل المبلغ للوسيط مباشرة.
تقدّم هذه الأموال قبل البدء في أي إجراء، فقد سبق أن جهز هذا الوسيط عقد عمل لشاب آخر من نفس بلدة عبد الصمد على أن يقدم له المبلغ عند تسلمه العقد، لكن الشاب تراجع في نهاية الإجراءات، وهو ما دفع الوسيط إلى اشتراط دفع الأموال قبل الانطلاق في الإجراءات.
قبل حسام بهذه الشروط، لكن عليه أن يصبر شهرًا ونصف لبداية الإجراءات، ذلك أن الوسيط لديه أوراق 4 شباب آخرين، ينتهي منهم ثم يركز عمله على إتمام إجراءات حسام، وفي هذه المدة له أن يجمع المبلغ المطلوب، فهو ليس هينًا وليس من السهل جمعه بسرعة.
مر الشهر والنصف، كان الوسيط على كلامه واتصل بحسام يبلغه ببدء الإجراءات المطلوبة حال تسلم المبلغ، سلم حسام الوسيط المبلغ المتفق عليه مع نسخة من جواز سفره ووثيقة الولادة الرسمية الخاصة به.
ضحايا تحايل
يعتبر حسام أكثر حظًا من سالم (اسم مستعار) الذي حاول الحصول مرتين على عقد عمل وهمي إلا أنه لم يقدر على ذلك وكان ضحية تحايل في إحدى المرات، إلا أن ذلك لم يثنه على مواصلة المحاولة عله ينجح ويلتحق بأصدقائه هناك في فرنسا.
يقول سالم لنون بوست إن والده الذي يعمل في إحدى قرى جنوب فرنسا حاول أن يؤمن له عقد عمل عن طريق “مغربي” يمتهن هذه المهنة، لكن وباء كورونا حال دون ذلك، فقد وصله العقد إلى تونس، لكن حينها أغلقت الحدود الجوية بين البلدان بسبب كورونا.
يُذكر أنه في منتصف مارس/آذار 2020 قررت الحكومة التونسية إغلاق الحدود الجوية والبرية للبلاد، في مسعى للحد من تفشّي فيروس كورونا المستجد، وهو ما تسبب في تعطل التحاق العديد من العمال بعملهم في خارج البلاد ومن ذلك فرنسا.
عند فتح الأجواء مجددًا، طلب منه الديوان الفرنسي للهجرة والاندماج أن يرسل صاحب العمل وثيقة يقر فيها أنه ما زال في حاجة له، ويريد منه أن يلتحق بفرنسا للعمل في أقرب وقت، لكن والد سالم لم يتمكن من ذلك، فصاحب العمل المفترض لم يعد يمتهن العمل في المجال الفلاحي.
تم إعادة الأموال إليه، فالشرط كان أن يصل سالم إلى فرنسا، لكنه لم يصل والخطأ من صاحب العمل الذي أمن عقد العمل، لذلك كان إرجاع المال سهلًا على عكس المرة الثانية التي تعرض فيها محدثنا إلى عملية تحايل لم يستطع إيجاد حل لها إلى الآن.
في المرة الثانية، اتصل سالم بأحد الشباب الذي قيل إنه يؤمن عقود وهمية للعمل في فرنسا، التقى به وأخبره أن عليه أن ينتظر أشهر، فهناك العديد ممن طلبوا خدماته قبله، لكن سالم عرض عليه أن يزيده في المبلغ على أن يقدمه عليهم، وبالفعل قبل الوسيط بالأمر مرحبًا.
مرت أكثر من سنة لكن لم يصل العقد إلى سالم، في كل مرة هناك سبب جديد، مرة يُرجع الوسيط المشكلة لتونس ومرة لفرنسا، طالبًا في كل مرة من سالم أن يصبر بعض الوقت، فالفرج قادم وفق قوله، لكن مع الوقت تيقن سالم أنه كان ضحية تحايل.
الحلم يتحقق
بعد شهرين من تسليمه المبلغ المطلوب وبدء الإجراءات، اتصلت موظفة في الديوان الفرنسي للهجرة والاندماج في تونس بحسام تخبره بوصول عقد عمله وتؤكد عليه أن يحضر إلى الديوان في تونس العاصمة لإتمام باقي الإجراءات.
“كيف طلبوني فرحت برشا برشا، من وقت اللي عطيت فيه الفلوس للوسيط وأنا خايف، خفت كان يتحيل عليا، خاصة إنه فم برشا من أولاد البلاد تحيلوا عليهم وما رجعولهمش فلوسهم، صحيح مش نفس الشخص، أما كلها تخوف الحق”، هكذا حدثنا سالم.
مضيفًا “حضرت ساكي ومشيت لتونس، في بالي بش نمشي من غادي لغادي، لكن كي وصلت قالولي أنه لازم نمشي نقدم فيزا وإنها تبطى شوي، كان تروح خيرلك وكي تحضر فيزا تو نطلبك ديركت ما تخافش”.
في حال فشل سالم في تأمين وثائق إقامة طويلة الأمد سيبقى في فرنسا دون وثائق قانونية وسيكون بموجب القانون الفرنسي مهاجرًا غير نظامي يمكن ترحيله في كل لحظة
بعد نحو 10 أيام من تقديمه طلب التأشيرة، جرى الاتصال بحسام للالتحاق بديوان الهجرة والقيام بالفحص الطبي قبل سفره إلى فرنسا، حمل سالم حقائبه وتوجه إلى تونس العاصمة أين أكمل باقي الإجراءات وحجز في أول طائرة وجدها.
هل انتهت المعاناة؟
طبقًا لاتفاقية سابقة بين فرنسا وتونس “تُسند شهادة إقامة تحمل عبارة عامل موسمي لمدة 3 سنوات وتسمح بالعمل بفرنسا لمدة ستة أشهر كل سنة لفائدة التونسيين المتحصلين على عقد عمل موسمي لمدة لا تقل عن 3 أشهر والذين يلتزمون بمواصلة إقامتهم خارج فرنسا، ويعفى العمال الموسميون الحاملون لبطاقة الإقامة من إجراء التوقيع على عقد الاستقبال والاندماج”.
حصل سالم على هذه البطاقة إلا أنه قرّر ألا يعود إلى تونس ويبقى هناك حتى يستطيع الحصول على أوراق إقامة طويلة الأمد، ورغم أن هذا الأمر غير قانوني ويمكن أن يتسبب في إعادته إلى تونس فإقامته مخالفة للقانون، فإنه اختار البقاء.
صحيح أن عقد العمل في مجال الفلاحة، إلا أنه وهمي، ما اضطر سالم إلى العمل في البناء، ففيه أموال أكثر وسهل مقارنة بالعمل الفلاحي، خلال 9 أشهر تمكن محدثنا من تعويض الأموال التي قدمها للوسيط وبدأ في جمع أموال يمكن أن يستخدمها في تأمين أوراق الإقامة طويلة الأمد، فكل شيء بالنقود ودونه لا يمكن له أن يفعل شيئًا.
أمام سالم بعض الطرق المحدودة للحصول على أوراق إقامة طويلة الأمد سيحاول تأمين أحدها، منها إيجاد عقد عمل غير محدد بوقت، بعد العمل فيه لمدة 18 شهرًا له أن يطالب بالحصول على وثائق الإقامة، وفقًا للقانون الفرنسي.
الطريقة الثانية، هي الزواج بفرنسية أو أي أجنبية تحمل وثائق إقامة أو جنسية فرنسية، هذه الطريقة تمكنه من الحصول على ما يريد وغالبًا ما يلجأ إليها الشباب المهاجر ويضطرون لدفع أموال كثيرة للزوجة الوهمية، ويمكن أن يصل المبلغ إلى نحو 20 ألف يورو (64 ألف دينار تونسي)، وسعيد الحظ من يجد زوجة دون أن يقدم لها هذا المبلغ.
في حال فشل سالم في تأمين إحدى هذه الآليات سيبقى في فرنسا دون وثائق قانونية وسيكون بموجب القانون الفرنسي مهاجرًا غير نظامي يمكن ترحيله في كل لحظة، مع ذلك يصرّ على البقاء حارقًا في هذا البلد الأوروبي أفضل من العودة إلى تونس.