غادرت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن ظهر أمس الإثنين الجزائر، مشيدة بالشراكة المتجددة والدائمة، وفق وصفها، بين البلدين، ما يعني أن تقدمًا كبيرًا حصل في ملف المصالحة بين فرنسا والجزائر، لكن الملاحظ أن الزيارة الأخيرة لم تتطرق لأبرز الملفات العالقة التي يمكن أن تنفجر في أي وقت وتتسبب في توتر جديد بالعلاقات.
جهود كبيرة
عقب لقائها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الإثنين، قالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، التي تؤدي زيارتها الدولية الأولى منذ توليها منصب رئاسة الوزراء: “أشعر أننا حققنا تقدمًا معًا، وأن اللجنة الحكومية رفيعة المستوى وضعت أسس شراكة متجددة ودائمة ستكون في صالح شبابنا”.
كشف ذلك عن وجود ارتياح فرنسي من نتائج الزيارة الأخيرة، فقد جرى توقيع 12 اتفاقية تضمنت “إعلانات نوايا” بشأن العمالة والتعاون الصناعي والسياحة والأعمال الحرفية والإعاقة، فضلًا عن “اتفاقية شراكة” في المجال الزراعي و”مذكرة اتفاق” حول الشركات الناشئة.
رافق بورن في هذه الزيارة 16 وزيرًا وهو ما يعادل نصف الحكومة وفق ما أوردته وسائل الإعلام الفرنسية، ما يؤكد أهمية هذه الزيارة التي تأتي في وقت تشهد فيه المنطقة متغيرات كبرى من بينها إعادة تشكل بعض التحالفات.
يريد تبون تجاوز قضايا الماضي والخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به الجزائر في العقود الأخيرة
تأتي هذه الزيارة بعد نحو شهر ونصف من زيارة ماكرون لهذا البلد العربي، في تلك الزيارة توصل رئيسا البلدين إلى “إعلان الجزائر” وفيه تم تأكيد قرار البلدين “تدشين حقبة جديدة من العلاقات الشاملة التي تجمعهما، عبر إرساء أسس شراكة متجددة، التي يتم تجسيدها من خلال نهج ملموس وبناء موجه نحو المشاريع المستقبلية وفئة الشباب، بما يسمح بتحرير إمكانات تعاونهما وبما يتماشى مع تطلعات شعبيهما”.
بمقتضى الإعلان تم الاتفاق أيضًا على إنشاء “مجلس أعلى للتعاون” على مستوى الرؤساء، “من أجل تعميق وصياغة الاستجابات الملائمة والمتبادلة للقضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، في روح من الثقة والاحترام المتبادلين”، كما تم التوصل إلى اتفاقات أمنية عُدّت تاريخية.
بقدر أهمية هذه الاتفاقات، فإن الهدف الفرنسي من وراء هذه الزيارات المتتالية ضمان ودّ الجزائر، خاصة بعد توتر العلاقات بين باريس والرباط في الفترة الأخيرة، لذلك تعتبر الجزائر عنصرًا مهمًا للسياسات الفرنسية في إفريقيا.
مصالح ثنائية
من مصلحة البلدين في الوقت الحاليّ وقف التوتر الحاصل، فكلاهما يبحث عن تطوير علاقاته وإحياء نفوذه، ذلك أن فرنسا تلقت في الفترة الأخيرة صفعات كثيرة في مناطق عدة على غرار ليبيا وبوركينافاسو وتشاد والنيجر فضلًا عن مالي.
ترى فرنسا في الجزائر حليفًا محتملًا قويًا في إفريقيا ومنطقة الساحل لما تتمتع به هذه الدولة العربية هناك من نفوذ قوي تمكنت من فرضه نتيجة عمل سنوات، ويمكن أن تكون الجزائر مفتاح فرنسا للسيطرة على الوضع هناك.
هي سابقة في فرنسا…
رئيسة الوزراء الفرنسية في الجزائر رفقة 16 وزير.. pic.twitter.com/Zgeiz7KjsN— elkodadi (@elkodadi18) October 9, 2022
التدخل الروسي في المنطقة أثقل كاهل الفرنسيين وكلفهم خسائر كبرى، لذلك ترى باريس ضرورة أن تتحالف مع الجزائر مجددًا للاستفادة من خدماتها الأمنية والاجتماعية، حتى لا تخسر ما تبقى لها من نفوذ في المنطقة.
حتى من الناحية الاقتصادية، فرنسا في حاجة إلى الجزائر، فالاقتصاد الفرنسي يعرف مشاكل كبرى وليس من مصلحته أن تتواصل المشاكل السياسية مع الجزائر، فقد سبق أن قرر نظام تبون في وقت سابق تضييق الخناق على الشركات الفرنسية العاملة فوق الأراضي الجزائرية.
من مصلحة الجزائر أيضًا توطيد العلاقات مع باريس والاستفادة من الأزمة بين فرنسا والمغرب لتقوية نفوذها في المنطقة، فذلك يخدم الجانب الجزائري الذي يركز كل عمله على استقطاب حلفاء جدد في إطار سياسته الدبلوماسية الجديدة التي دشنها تبون في انطلاق عهدته الرئاسية.
وتشهد العلاقات الفرنسية المغربية توترًا ملحوظًا في الفترة الأخيرة، تكشفها مؤشرات عدة على غرار استثناء المملكة من قرار إعادة إصدار التأشيرات بالنسبة لدول المغرب العربي، كما استثنى حكام الإليزيه الرباط من الزيارات الدبلوماسية في الوقت الذي كثّفوا فيه زياراتهم إلى كل من تونس والجزائر.
يعتبر ملف الذاكرة أحد أبرز الملفات العالقة بين البلدين ولا يُنتظر أن يعرف حلًا في القريب العاجل
تريد الجزائر استغلال هذا الأمر، وفرض وجهات نظرها على فرنسا، فدعم باريس للجزائر بالنسبة لقضية الصحراء أو حتى البقاء على الحياد يخدم مصالحها ويقوي موقفها الذي ضعف كثيرًا بعد قرار ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية.
يريد تبون تجاوز قضايا الماضي والخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به الجزائر في العقود الأخيرة، فقد اختارت الجزائر خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة الانكفاء على الذات والانعزال عن العالم الخارجي لأسباب عدة.
فضلًا عن استعادة ثقلها الدبلوماسي الإقليمي، تسعى الجزائر أيضًا إلى تنويع اقتصادها الذي ينطلق في أحد محاوره من مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الموقع 2002، الذي ترى فيه الجزائر أنه لم يخدم مصالحها بتاتًا.
توتر في أي لحظة
صحيح أن الطرفين يؤكدان انتهاء التوتر بين البلدين، وأن المصالحة تخدم الطرفين، لكن العلاقة بين الجزائر وفرنسا دائمًا ما تشهد فترات انتعاش وفترات توتّر بصفة مستمرة، وفق الناشط السياسي عبد الله كامل، ويؤكد كامل لنون بوست أن “الأجواء لا تنفكّ تهدأ لتعود المشاكل والتوترات إلى السطح مرة أخرى”.
يرجع سبب ذلك وفق محدثنا إلى “بقاء قضية المهاجرين (الحراقة) الذين تريد فرنسا إعادتهم إلى بلادهم، بالإضافة إلى ملفّ الذاكرة التاريخية المرتبطة بفترة الاستعمار على حالها دون أن تقدم يذكر، إذ لم يتم التطرق إليها”.
يضيف كامل “قد تؤدي الزيارة الوزارية الأخيرة لانتعاش العلاقات بصفة مؤقتة، لكن من المرتقب أن تتوتر العلاقات مجددًا وقد شهدنا من قبل توتّرات بسبب تصريحات الرئيس ماكرون في حق التاريخ الجزائري أو عن النظام السياسي لتعود العلاقات مجددا إلى خانة التوتر”.
سبب آخر ذكره الناشط السياسي الجزائري، وهو “المناورات السياسية الفرنسية، إذ تلعب باريس على وتر الخلافات بين الرباط والجزائر ودائمًا ما تسعى إلى إشعال النار بين البلدين العربيين الشقيقين، خدمة لمصالحها في المنطقة”.
عندما يكون عنوان الزيارة الأبرز.. “إعلانات نوايا”.. يعني أن جبل جليد الخلافات لايزال ضخماً! #فرنسا #الجزائر ??
— ﮼سامي ﮼قاسمي sami kasmi (@SamyKasmiSKY) October 10, 2022
يعد ملف الذاكرة أحد أبرز الملفات العالقة بين البلدين ولا يُنتظر أن يعرف حلًا في المدى المنظور، فكلا الطرفين متمسك برأيه وليس هناك أي تراجع أو تنازل رغم مرور سنوات عديدة على بدء الحديث عن هذا الملف.
وغالبًا ما يشكل هذا الملف عاملًا أساسيًا في تحديد طبيعة العلاقات بين فرنسا والجزائر، وتطالب الجزائر بالخصوص بفتح الأرشيف واسترجاع جماجم رموز المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما تماطل فيه فرنسا.
أما ملف الهجرة فقد صعد في الفترة الأخيرة، مع إصرار باريس على إرجاع المهاجرين الجزائريين غير النظاميين، الأمر الذي ترفضه السلطات الجزائرية بشدة وترفض إلى الآن منح تراخيص دبلوماسية لتسهيل عودة المهاجرين.