دخلت الحرب الروسية الأوكرانية الساعات الماضية منعطفًا جديدًا أكثر سخونة في أعقاب نقل الأوكرانيين ساحة المواجهة من الداخل إلى الخارج، حيث استهداف جسر كيرتش الذي يمثل أهمية إستراتيجية ولوجستية لموسكو، فضلًا عما يمثله من رمزية سياسية يهز تفجيره أرجاء الكريملين من الداخل.
ولم يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدًا من الرد الفوري على هذه النقلة النوعية التي تتزامن مع خسائر متتالية يتلقاها الروس داخل أوكرانيا، حيث قصفت قواته، الإثنين 10/10/2022، العاصمة كييف وبعض المدن المجاورة، وهو القصف الأول منذ 4 أشهر، كرد على تفجيرات جسر القرم الذي جرح كبرياء بوتين ووضعه في مأزق في الداخل قبل الخارج.
القصف الروسي الخشن تجاه العاصمة كييف والتصريحات المتبادلة بين قادة البلدين والتغييرات التي أجراها الرئيس الروسي داخل قيادة الجيش الأيام الماضية، وردود الفعل الدولية والإقليمية وما شهدته أروقة الأمم المتحدة خلال جلسة الأمس، كلها تشير إلى أن قواعد اللعبة في المشهد الأوكراني الملتهب ربما تتغير نسبيًا لتتناسب مع تلك المستجدات التي وبلغة المنطق تطيل أمد الحرب وتعرقل نسبيًا من الجهود الدبلوماسية، وإن كان البعض يرى عكس ذلك، فالوصول إلى حافة الهاوية قد يكون خطًا أحمر يدفع الجميع للعودة خطوات للوراء والقبول بالجلوس على مائدة الحوار قبل تجاوز الأوضاع لمسارتها المقبولة.
كييف تأخذ زمام المبادرة
غابت العاصمة كييف عن ساحة المواجهة بين القوات الروسية والأوكرانية منذ يونيو/تموز الماضي حين نقلت موسكو خط المواجهة إلى الشرق والجنوب بعد الضربات التي تلقتها أثناء محاولة السيطرة على العاصمة، وهو ما أعطى القوات الأوكرانية متنفسًا وفسحة لنقل بعض عناصرها لدعم القوات المتمركزة في إقليم الدونباس الذي كانت تحقق فيه القوات الروسية نجاحات متتالية بداية الحرب قبل أن ينجح الأوكرانيون في سحب البساط من تحت أقدامهم شيئًا فشيئًا.
كان وقع تفجير الجسر على الروس كبيرًا للغاية، وهو ما دفع بوتين للانتقام بشكل جنوني، فأراد تحويل المعركة إلى كييف مرة أخرى، كونها العاصمة وتمثل ثقلًا لوجستيًا كبيرًا، فضلًا عن احتضانها لمقار السفارات الغربية في البلاد، فكان القصف بتلك الصورة غير المسبوقة منذ بداية الحرب في فبراير/شباط الماضي.
اتفقت آراء قطاع كبير من الخبراء العسكريين والسياسيين، الروس والأوكرانيين وغيرهم، أن ما يحدث في الساعات الماضية حرب استخبارات من الدرجة الأولى، فالسردية التي قدمتها موسكو لتفجير جسر كيرتش تنطوي على تعاون أجهزة استخباراتية لتنفيذ العملية
وبحسب إحصاءات الجانب الأوكراني فقد أطلقت روسيا 84 صاروخًا، أسقط الدفاع الأوكراني 43 منها، أسفرت عن تضرر 70 منشأة حكومية ومدنية، منها 29 منشأة من البنى التحتية الحيوية و35 مسكنًا، فيما بلغت حصيلة الضحايا 19 قتيلًا و105 جرحى، مع توقعات بزيادة العدد في ظل استمرار القصف حتى كتابة تلك السطور.
وفي رده على هذا القصف أكد وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، على ضرورة الرد الفوري، مناشدًا الغرب بتعزيز الدعم العسكري الموجه لبلاده، قائلًا إن أفضل رد على ما أسماه الإرهاب الصاروخي الروسي هو إمداد أوكرانيا بأنظمة مضادة للطائرات والصواريخ، مضيفًا في تغريدة له على تويتر “حماية السماء فوق أوكرانيا ستحمي الشعب الأوكراني والمدن الأوكرانية، كما ستحمي مستقبل أوروبا”.
المعركة إلى الداخل الروسي
اتفقت آراء قطاع كبير من الخبراء العسكريين والسياسيين، الروس والأوكرانيين وغيرهم، أن ما يحدث في الساعات الماضية حرب استخبارات من الدرجة الأولى، فالسردية التي قدمتها موسكو لتفجير جسر كيرتش تنطوي على تعاون أجهزة استخباراتية لتنفيذ العملية، وهي النتيجة التي توصل إليها الخبير العسكري الروسي فاسيلي دانيكين، الذي اتهم المخابرات الأمريكية والبريطانية بالتورط في الاستهداف، مطالبًا بتوجيه ضربة انتقامية واسعة النطاق ضد مراكز صنع القرار في كييف، كما ربط في تصريحاته لـ”الجزيرة” بين تلك العملية واستهداف خطوط أنابيب السيل الشمالي “نوردستريم”، ملمحًا أن الفاعل واحد.
ويوجد رأي يذهب باتجاه أن تفجير الجسر لن تكون العملية الأولى التي تنفذها الاستخبارات الأوكرانية داخل روسيا، وأن البني التحتية الروسية من المرجح أن تكون أهدافًا مشروعة لأوكرانيا المدعومة بطبيعة الحال من المعسكر الغربي الذي يؤكد بين الحين والآخر على استمرار الدعم العسكري واللوجستي للقوات الأوكرانية في مهمتها أمام الروس.
الخسائر التي تلقتها روسيا في شرق وجنوب أوكرانيا ونجاح القوات الأوكرانية في استعادة ما يقرب من 45 ألف كيلومتر من قبضة القوات الروسية خلال الآونة الأخيرة، كانت محفزًا للأوكرانيين لنقل المعركة خارج حدود بلادهم، من باب أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وعليه كانت عملية الجسر وتوقع عمليات أخرى إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
ومما يساعد على تمرير هذا السيناريو سهولة الاختراق الاستخباراتي للداخل الروسي، إذ يقيم فوق الأراضي الروسية عشرات الآلاف من الأوكرانيين والجنسيات الأخرى التي تتحدث الروسية بطلاقة، ومن ثم ليس من المستبعد توظيفها أو تجنيد بعضها نظير إغراءات مالية في تنفيذ مهام محددة، وهو ما يتخوف منه الكثير من النخبة الروسية.
فرصة
في أبجديات العسكرية وفنون المواجهات المباشرة فإن الغلبة لمن يحقق انتصارات على الأرض وليس لمن ينتصر من السماء، فالحرب الأوكرانية تندرج تحت مسمى “الحروب التقليدية” التي تتطلب فرض الهيمنة على الميدان من خلال الدبابات والقوات البرية والسيطرة على الجهات الحساسة، أما الاستهداف عبر الطائرات والقاذفات الجوية فهي تحقق خسائر مادية لكنها لا تحقق نصرًا.. هكذا يقول الخبراء العسكريون.
ووفق تلك النظرة فإن استهداف كييف بالصواريخ لن يحقق الانتصار لروسيا في تلك المعركة، إذ لا تزال القوات الأوكرانية تفرض هيمنتها على الأرض، ومن ثم فالحديث عن نصر روسي كبير من خلال تلك الضربات هو حديث دعائي يهدف إلى تجميل الصورة وحفظ ماء الوجه بعد الطعنات الدامية التي تلقتها القوات الروسية في ليمان ولوغنسيك ودونيستك وغيرها.
آخرين يرون أن خطوة الضم ليست إلا مناورة من بوتين لتعزيز موقفه عند الجلوس على مائدة المفاوضات، والتقليل من حجم التنازلات التي ستطلب منه وقتها
وبعيدًا عن تقييم معايير الانتصار والهزيمة، فإن الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي وجد في تلك الأجواء الفرصة السانحة للضغط على الغرب لتعزيز قوات بلاده عسكريًا، وفتح الباب أمام قادة جيشه ومسؤولي حكومته بالتحدث بشكل مباشر لطلب التعزيز الدفاعي الغربي بأحدث أنظمة الدفاعات الجوية، وهو ما بدأ يجني حصاده، حيث تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن لنظيره الأوكراني بأن تزود الولايات المتحدة أوكرانيا بأنظمة جوية متقدمة، فيما شدد البيت الأبيض على استمرار فرض العقوبات على روسيا.
الموقف ذاته تبنته بعض الدول الأوروبية لا سيما تلك التي تعرضت مقار قنصليتها في كييف للقصف كما هو حال ألمانيا التي تعهدت بتزويد الجيش الأوكراني بأسلحة متطورة لمواجهة الاعتداءات الروسية، فيما أعلن الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية بتقديم كل سبل الدعم للأوكرانيين في معركتهم ضد الروس.
هل الوقت ملائم للجهود الدبلوماسية؟
التصعيد الأخير والتغير الواضح في قواعد اللعبة الذي نجم عنه التوسع الأفقي في حلبة المواجهة والانتقال من الداخل للخارج والنشاط الاستخباراتي الواضح في مقابل الدعم الغربي عسكريًا لأوكرانيا، وسخونة الخطاب السياسي بين موسكو وكييف، يشي بأن الحديث عن جهود دبلوماسية لتقريب وجهات النظر بعيد المنال نسبيًا، وفق ما يرى مراقبون.
فالوضع ازداد تعقيدًا مع ضم موسكو للمناطق الأربعة، شرق أوكرانيا، التي أجرت استفتاءات مؤخرًا بشأن ضمها لروسيا، فإن كان الأمر معقدًا بداية الأمر مع التدخل العسكري وفقط، فاليوم ازداد تأزمًا بعد ضم تلك المناطق، مع التلويح بضم أخرى خلال المرحلة المقبلة رغم عدم الاعتراف بتلك الإجراءات من المجتمع الدولي.
غير أن آخرين يرون أن خطوة الضم ليست إلا مناورة من بوتين لتعزيز موقفه عند الجلوس على مائدة المفاوضات، والتقليل من حجم التنازلات التي ستطلب منه وقتها، ويميل أنصار هذا الرأي إلى أن الوقت الآن أكثر ملاءمة لتعزيز دبلوماسية الحوار التي تتبناها تركيا وقطر، ومؤخرًا الإمارات التي يزور رئيسها اليوم موسكو للقاء بوتين من أجل التوسط لإنهاء الحرب وفق التصريحات الرسمية الإماراتية.
البيانات الصادرة عن الكريملن تشير إلى رغبة موسكو في الحوار والتفاوض وإن كان مشروطًا وهو الموقف الأوكراني ذاته، ومع التلويح بورقة الردع النووي كآخر أوراق بوتين، فإن اللجوء إلى طاولة المفاوضات ربما يكون الحل الوحيد قبل الولوج في مستنقع الاستخدام النووي، وهو الخيار الذي يتجنبه الجميع، بما فيهم روسيا ذاتها التي تتشدق به بين الحين والآخر.
الأجواء في مجملها تذهب نحو إطالة أمد الحرب، لكن وفق معادلة مختلفة نسبيًا، لا تمنح الروس التفوق الكامل، وتجعلهم دومًا تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، وصولًا إلى مرحلة الاستنزاف الذاتي، وهو ما يراهن عليه الغرب الذي يعاني هو الآخر من تداعيات تلك الحرب التي ربما تصيبه بـ”التجمد” هذا الشتاء، ويتوقف الأمر على قدرته على التعايش مع تلك المرحلة دون تشققات في بنيته الداخلية التي بدأت تتقرح نسبيًا جراء تبعات تلك الأزمة.