أُعلن في لبنان و”إسرائيل” بالتزامن عن التوصل إلى اتقاق لترسيم الحدود البحرية بينهما؛ في لبنان اعتبرت الرئاسة اللبنانية يوم الثلاثاء أن الصيغة النهائية للعرض النهائي الذي تقدم به الوسيط الأمريكي، آموس هوكشتاين، “مرضية للبنان، لا سيما أنها تلبي المطالب اللبنانية التي كانت محور نقاش طويل خلال الأشهر الماضية، وأن الصيغة النهائية حافظت على حقوق لبنان في ثروته الطبيعية وذلك في توقيت مهمّ بالنسبة إلى اللبنانيين. وتأمل رئاسة الجمهورية أن يتم الإعلان عن الاتفاق حول الترسيم في أقرب وقت ممكن”.
وفي تل أبيب أعلن رئيس وزراء “إسرائيل”، يائي لابيد، أن لبنان و”إسرائيل” توصلا لاتفاق تاريخي بخصوص ترسيم الحدود البحرية، وأن المجلس الوزاري المصغّر سيجتمع الأربعاء للتصديق على اتفاق ترسيم الحدود المائية مع لبنان.
الإشكالية الأساسية أن هذا الاتفاق ما زال مبهمًا وسريًّا أيضًا بين الطرفَين، إذ لم يتحدث نائب رئيس المجلس النيابي اللبناني إلياس بوصعب، المكلّف بمتابعة الملف لبنانيًّا مع الوسيط الأمريكي، عن تفاصيل ما تضمّنه الاتفاق، مع العلم أنه بات في صيغته النهائية، واكتفى بالقول إن المسودة الأمريكية الأخيرة التي وصلت إلى الجهة اللبنانية استجابت لمعظم الملاحظات اللبنانية.
بينما تحدثت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية وأشارت إلى أن لبنان عاد وتخلى عن معظم الملاحظات التي وضعها على المقترح الأمريكي، قبل صياغته بالشكل النهائي الذي تم الحديث عن الموافقة عليه في كل من بيروت وتل أبيب، وبالمقابل لم يكشف أي مسؤول إسرائيلي عن المضمون الحقيقي لما تمَّ الاتفاق عليه بين الجانبَين، واكتفى رئيس الوزراء بالقول إن الاتفاق يؤمّن مصالح “إسرائيل” الاقتصادية والأمنية.
المقترح الأمريكي والملاحظات اللبنانية
في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تسلّمت الرئاسة اللبنانية من السفيرة الأمريكية في بيروت، دورثي شيا، مقترحًا خطيًّا للمرة الأولى لترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل”، غير أن الرئاسة اللبنانية لم تكشف عن طبيعة المقترح ولا ما تضمّنه، بل اكتفت بالقول إنها ستدرسه، ولاحقًا سلّمت الرئاسة اللبنانية ملاحظات عليه إلى الوسيط الأمريكي.
تولّى الجانب الإسرائيلي كشف ما تضمّنه الاقتراح الأمريكي، ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤول إسرائيلي لم تسمِّه، قوله للصحفيين الإسرائيليين يوم الأحد (2 أكتوبر/ تشرين الأول): “يقضي أحد بنود الاتفاق بترسيم الحدود استنادًا إلى خط 23، ما يبقي لدى لبنان غالبية المنطقة موضوع الخلاف”.
وأضاف: “ستحتفظ “إسرائيل” بالسيادة الكاملة على حقل الغاز كاريش، فيما سيكون حقل قانا المقابل تحت سيطرة لبنانية، وستحصل “إسرائيل” من شركة الطاقة الفرنسية توتال على إيرادات من الحقل الواقع داخل حدودها”.
ولاحقًا كشفت صحيفة “الأخبار” اللبنانية في بيروت مضمون الملاحظات التي وضعها لبنان على اقتراح الاتفاق، وتضمّنت أبرز النقاط التالية: شطب عبارة الخط الأزرق في أي موضع وعدم الاعتراف بخط الطفافات والحديث عن الوضع القائم، واستبدال عبارة تسمية حقل قانا الواردة في المسودة الأميركية من “مكمن صيدا الجنوبي المحتمل” إلى “حقل صيدا – قانا”، مع إضافة عبارة “الحقل الذي سيتم تطويره من جانب لبنان ولصالح لبنان” وتعديل عبارة “”إسرائيل” لا تعتزم الاعتراض على أي إجراءات تُتَخذ في حقل قانا من الجهة الخارجة عن الخط 23″، إلى “لا تعترض “إسرائيل” ولن تعترض”.
كما اعترض لبنان على كلمة “تعويض مالي”، وأكّد أن ما سيحصل هو تسوية مالية بين الشركة العاملة و”إسرائيل” ولا علاقة للبنان بها، وطالب بالتزام أميركا بتسهيل عمل الشركات مباشرة وبسرعة فور الانتهاء من اتفاق الترسيم، كما طالب أن لا تكون أية شركة ستعمل في البلوكات اللبنانية خاضعة لأية عقوبات دولية وليست أمريكية.
وخلال الإعلان عن التوصل إلى اتفاق ظلَّ الوضع مبهمًا، إذ أشار المسؤول اللبناني إلياس بوصعب والرئاسة اللبنانية إلى الاستجابة لأغلب الملاحظات، فيما أشارت الصحافة الإسرائيلية إلى أن لبنان عاد وتراجع عن أغلبها.
انقسام لبناني حيال الاتفاق
صيغة الاتفاق المبهمة أرخت بجوّ ثقيل من الشك حوله، وهو بدوره ما أنتج انقسامًا في لبنان حول الاتفاق على خلفية الغموض الذي يكتنفه، بينما انقسم الداخل الإسرائيلي حوله على خلفية الانتخابات المقررة في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
أشاد المقرّبون من الرئاسة اللبنانية بالاتفاق واعتبروه من الإنجازات التي تحسب لرئيس الجمهورية ميشال عون، حيث اعتبر المؤيدون للرئاسة أن لبنان دخل مع الاتفاق نادي الدول النفطية في المنطقة، في حين ذهب حزب الله، الغائب الحاضر في هذا الملف، على لسان أمينه العام حسن نصرالله إلى القول: “ما يعنينا هو الموقف اللبناني ونحن إلى جانب الدولة، وما يهمنا هو ما يقوله المسؤولون اللبنانيون، وهو أن هذا الاتفاق يلبّي المطالب اللبنانية”، بمعنى آخر اعتبر الحزب أن الاتفاق إنجاز للبنان.
في المقلب الآخر، انتقد عدد من النواب التنازل عن النقطة الحدودية في الناقورة وتاليًا عن الخط 29، وتصوير الحصول على بعض التنازلات الإسرائيلية للحصول على الخط 23 كما لو أنه انتصار، ومن بين هؤلاء نواب من يُحسبون على قوى التغيير، ومن بين هؤلاء أيضًا النائب اللواء جميل السيد المقرّب من حزب الله، في حين اكتفت الكثير من القوى السياسية الأساسية بالصمت.
نصر أم وهم؟
تحاول السلطة في لبنان ومن يقف خلفها ومعها تصوير الاتفاق كما لو أنه نصر حقيقي للبنان أنجزه على حساب “إسرائيل”، في حين ترى الأخيرة أن الاتفاق يلبّي حاجياتها الاقتصادية والأمنية، حتى أن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي وصف الاتفاق بالإنجاز التاريخي بحسب ما نقلت وكالة “رويترز”، التي نقلت أيضًا عن مسؤول إسرائيلي لم تسمِّه أن “جميع مطالب “إسرائيل” بشأن مسودة اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان تمّت تلبيتها”.
لقد تخلّى لبنان بموجب هذا الاتفاق عن الخط 29 الذي يبدأ من نقطة البرّ في رأس الناقورة ويمتدّ نحو البحر قاطعًا حقل كاريش، وبهذا التنازل صارت السيادة كاملة لـ”إسرائيل” على حقل كاريش، وارتضى لبنان الخط 23 مع بعض التحفظ أو الشروط، وهذا الخط يمرّ في حقل قانا، ما يجعل لـ”إسرائيل” حقوقًا مكتسبة في هذا الحقل تمَّ التعبير عنها وتقاسمها من خلال خديعة التزام شركة توتال بإعطاء “إسرائيل” بعضًا من حصتها المستخرَجة من الجزء الواقع جنوب الخط 23، أي ضمن الأراضي الذي بات لبنان معترفًا بسيادة “إسرائيل” عليها، ناهيك عن الضمانات الأمنية البحرية التي لم يتحدث عنها أحد والتي تعدّ وتعتبر جزءًا لا يتجزأ من الاتفاق.
الحقيقة أن لبنان الذي يعيش أزمة اقتصادية حادة، وانسدادًا في أفق الحلول السياسية، واستحقاقًا انتخابيًّا رئاسيًّا قادمًا بعد أسابيع، أراد رئيس الجمهورية فيه أن يختم عهده بما اعتبره إنجازًا من خلال ترسيم الحدود البحرية، وفتح الطريق أمام الانضمام إلى نادي الدول النفطية.
يصبح الحديث عن نصرٍ نوعًا من الخديعة التي لم تعد تنطلي على أحد، لكن اللبنانيين باتوا بحاجة إلى حلّ لأزمتهم الاقتصادية التي حوّلت معظمهم إلى حالة الفقر.
فيما أرادت قوى سياسية تعيش أزمة حادة لناحية الحصار والضغط العربي والدولي أن تفك جزءًا من هذا الضغط عنها، من خلال تسهيل عملية الترسيم وتاليًا الاستفادة من استخراج النفط والغاز، علّ ذلك يساعد في حلّ وفكفكة الأزمة الاقتصادية والتخفيف من وطأتها، فضلًا عن الهروب من أية مواجهة عسكرية محتملة مع “إسرائيل” في لحظة بدت فيها الأخيرة مستعدّة ومهيئة بشكل كامل، ناهيك عن أن الظروف السياسية في صالحها لولا الانتخابات التشريعية المقررة في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
يضاف إلى كل ذلك أن لبنان لا يمكنه أن يبدأ استخراج النفط والغاز إلا بعد سنوات من الآن على اعتبار أن العمليات اللوجستية تتطلب هذا الوقت، في حين أن عملية الضخ الإسرائيلية من حقل كاريش بدأت فعليًّا قبل يومَين من خلال التجربة الناجحة التي أجرتها السلطات الإسرائيلية.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن ضمان حصول لبنان على نفطه وغازه بعد سنوات في حال تغيّرت الموازين في المنطقة، في حين أن “إسرائيل” بعد هذه السنوات تكون قد انتهت من عمليات استخراج الغاز من تلك الحقول، والحديث عن الضمانات الأمريكية هو بمثابة سراب في ظل التغيرات التي يمكن أن تحدث، سواء داخل أمريكا من خلال الانتخابات أو في العالم من خلال نتائج الحرب الروسية الأوكرانية.
وبناء على هذا، يصبح الحديث عن نصرٍ نوعًا من الخديعة التي لم تعد تنطلي على أحد، لكن اللبنانيين باتوا بحاجة إلى حلّ لأزمتهم الاقتصادية التي حوّلت معظمهم إلى حالة الفقر، ولذلك لم يعد يعنيهم كثيرًا الحديث عن نصر أو إقرار أو تراجع أو ضريبة، بقدر ما بات يعنيهم الحل الذي يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية عليهم.
ومن هنا يمكن القول إن الاتفاق المتوقع توقيعه خلال الأيام المقبلة هو أقرب إلى الإقرار بالوضع الراهن، كما ورد في الملاحظات على المسودة الأمريكية، منه إلى النصر الحقيقي.