مجهولو العدد بعمر الشباب، يتمركزون في مناطق الاشتباك، يطلقون نيرانهم من أسلحة وفروها بشقّ الأنفس صوب قوات الاحتلال، قد لا تصيبه أحيانًا، لكنها تقلقه دائمًا، وباتت تعرَف باسم “عرين الأسود”.
مجموعة “عرين الأسود” التي أُعلن عنها مطلع سبتمبر/ أيلول 2022، خلال حفل تأبين المقاومَين الشهيدَين عبود صبح ومحمد العزيزي في نابلس اللذين اغتالهما الاحتلال، وارتقيا مشتبكَين ببارودتَيهما، هذه المجموعة التي جاءت كامتداد لكتيبة نابلس، كتيبة الشهيد إبراهيم النابلسي، وكتيبة جنين، كتيبة الشهيد جميل العموري، هي امتداد للثورة الفلسطينية، وقد علم تاريخ الثورة من جماعات المقاومة الوطنية غير السياسية أسماء طويلة ومتجددة، لن تنتهي ما دام الاحتلال.
“عرين الأسود” في نابلس ضد الاحتلال الإسرائيلي، و”الكف الأسود” في حيفا ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، لا يقتصر التشابه بينهما على رسم المقطع الثاني من اسمهما “الأسود”، أو على موقعهما الجغرافي في فلسطين المحتلة، بل أيضًا على الفعل المقاوم، وكما يستنسخ المحتل أدواته من الاستعمار، فإن جماعات المقاومة تستنسخ فعلها وممارستها، فضلًا عن ابتكارها أدوات جديدة تناسب ظرفها وسياقها، ولأن التاريخ يعيد نفسه نسلط الضوء في “نون بوست” على مجموعة “الكف الأسود”، التي ظهرت قبيل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وامتدّت بفعلها بعده.
لأن الكف تلاطم المخرز
إن المصادر المتوفرة حول مجموعة “الكف الأسود” شحيحة في أصلها، ولما كان التاريخ الفلسطيني شاهدًا على ظهور جماعات مختلفة حملت اسم “الكف الأسود”، الراية السوداء في بعض المصادر، على فترات مختلفة، فإن اغلب المصادر المتوفرة تشير إلى أن الحضور الأول لهذه المجموعة كان عام 1930، على يد الشيخ المجاهد عز الدين القسام، حين أسّس جماعة عسكرية ضد قوات الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، حملت اسم “الكف الأسود”، ووصل عددُ أعضائها بين 200 و800 عضو مدرَّب عام 1935.
وكما تنشط “عرين الأسود” بشكل خاص في شمال الضفة الغربية، فإن مجموعة “الكف الأسود” حضر نشاطها في شمال فلسطين المحتلة، واستهدفت بعملياتها القوات الإنجليزية واليهود الداعمين للمشروع الصهيوني، وقد نقل الشهيد باسل الأعرج، المثقف المشتبك، في دراسته “الكف الأسود” عن الشيخ عبد الفتاح المزرعاوي -أحد أعضاء الجمعية-، أن مجموعة “الكف الأسود” شكّلها رفاق الشيخ عز الدين القسام، وهدفها تصفية العملاء والجواسيس، وتحركت الثورة وتشكّلت من مجموعات، كل 4 يعرفون بعضهم ولا يعرفهم الباقون.
ومن الجدير بالذكر أنه في فترة مقاربة لتشكيل “الكف الأسود” في فلسطين على يد عز الدين القسام، ظهر في سوريا على يد الشيخ محمد المكي الكتني جمعية بالاسم نفسه عام 1922، ودرّبت 40 شابًّا بهدف محاربة الاستعمار في فلسطين والمغرب وليبيا.
ويشير الأعرج في دراسته عن المجموعة، والتي جاءت ضمن كتاب “وجدتُ أجوبتي” الذي جمع أعماله بجهود رفاقه من بعده، إلى أن النساء شاركن في “الكف الأسود”، لا سيما في منطقة القدس، وبعثت النساء الناشطات فيها رسائل تهديد للشرطة، وبعض من عضواتها اعتقلن وتمّت محاكمتهن محاكمة عسكرية وسجنهن مثل منيرة الخالدي التي اُعتقلت عام 1937، ولما لم تكن النساء يفتّشن حينها، كان الثائر يقوم بتصفية العميل أو تنفيذ عمليته من خلال مسدس مزوّد بكاتم الصوت، ثم يعطيه لزوجته التي تلبس رداءً أسود يغطي كامل جسدها وتخبئه، ويعودا إلى منزلهما بسلام.
ضد المستعمر وأعوانه
نفّذت مجموعة “الكف الأسود” هجمات ضدّ أهداف صهيونية وبريطانية فترة 1930-1935، أسفرت فيها عن مقتل 8 صهاينة على الأقل، قُتل 3 صهاينة في كيبوتس ياجور عام 1931، وقُتل صهيونيان في مستعمرة نحلال 1932، ومارست عملها ضد أعوان المستعمر، فلاحقت الجواسيس وأعدمتهم، مثل أحمد نايف الذي أعدمته المجموعة عام 1936، وقد عُرف عنه أنه كان يعمل ضابطًا سرّيًّا عميلًا لدى الإنجليز في حيفا، ورفض أبناء المدينة الصلاة عليه ودفنه في المقبرة.
ويذكر الشهيد الأعرج أن أغلب عمليات التصفية كانت تنفَّذ في مدينة حيفا، وهاجمت مجموعة “الكف الأسود” برئاسة أحمد عبد المعطي مستعمرة اشلوتا ومستعمرة الشلاله وقُتل بعض أفرادهما الصهاينة، كما اُغتيل حاكم منطقة الجليل لويس أندروز في سبتمبر/ أيلول 1937، بالإضافة إلى عمليات تفجير سكك القطار واغتيال سماسرة الأرض وتهريب أعضاء الشرطة العرب، واغتيال ضباط كبار ومهاجمة المستعمرات، وإصدار بيانات مقاطعة البضائع الصهيونية، وتهديد التجار العرب المتعاطين معها.
وانتقمت “الكف الأسود” للدماء الفلسطينية التي أراقها الانتداب البريطاني والصهاينة، ففي ردّها على جريمة عصابة الهاغاناه بتفجير حديقة للأطفال في حيفا ومقتل 10 فلسطينيين نساءً وأطفالًا، اقتحمت “الكف الأسود” معسكر وادي النسناس في حيفا وقتلت عددًا من العصابات الصهيونية والجنود البريطانيين، وعملية تحرير شارع فيرجن بمدينة حيفا، وهي هجوم نفّذته المجموعة ضد الهاغاناه، حيث ارتقى 15 فلسطينيًّا على يد العصابة الصهيونية، وانتقامًا لذلك وقعت اشتباكات عنيفة بين “الكف الأسود” والهاغاناه أدّت إلى مقتل 20 وجرح 50 من رجال العصابات الصهيونية.
ولما كان الانتداب البريطاني يشدد من إعداماته بحقّ الثوار الفلسطينيين، كان بين الذين أعدمهم الإنجليز في سجن عكا المركزي المجاهد أحمد قاسم محمد عبد الرحيم الملقّب بالتركي، وهو من قرية إجزم من آل ماضي يُعرَف باسم زعل، كان عضوًا في “الكف الأسود” بقيادة المجاهد أحمد عبد المعطي، واتهم مع 3 آخرين بقتل اثنين من رجال مخابرات الشرطة الإنجليزية في السوق بحيفا يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1939.
ومن الموثق في سجلّات التاريخ ما ذكره المؤرخ مصطفى كبها في “دفاتر النكبة”، عن كمين مستوطنة متوسكين على مشارف مدينة حيفا الشمالية، قبل شهرَين من النكبة الفلسطينية عام 1948، حيث جهّزت العصابات الصهيونية كمينًا لمجاهدين من سوريا ولبنان وفلسطين قرب المستوطنة، كانوا قد علموا أنهم على متن قافلة محمّلة بالعدّة والسلاح والذخيرة لمنع سقوط حيفا في يد العصابات الصهيونية.
كان في قيادة القافلة القائد الأردني محمد الحنيطي، و31 ثائرًا منهم الشهيد سرور برهم الذي كان مسؤولًا عن تزويد فصائل الثورة بالمؤن والذخيرة وتزعُّم “الكف الأسود”، ويذكر كبها في “دفاتر النكبة” أن بعد مرور القافلة في مفرق قريات موتسكين اعترضتها سيارات صهيونية أدّت إلى توقفها ووقوعها هدفًا لكمين محكم التدبير أمطر القافلة بالرصاص وأدّى إلى استشهاد 15 من مرافقيها، بمن فيهم القائد محمد الحنيطي وسرور برهم، وانفجرت إحدى الشاحنتَين الكبيرتَين بما فيها من ذخيرة وأحدث انفجارها دويًّا هائلًا، في حين أفلتت الثانية وسيارة خصوصية أخرى وعادتا إلى عكا.
ورغم ذلك، وكمحاولة لتشويه الصورة، ظهرت خلال الثورة الفلسطينية جماعات حملت اسم “الكف الأسود”، ومارست التهديد والابتزاز المالي والقتل، وعمدت إلى الإساءة للاسم المقاوم الذي حملته، من جهة أخرى تكرر ظهور الاسم مرة أخرى خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ونُفّذت عمليات وقّعت باسم “الكف الأسود” مجهولة الهوية والعدد.
واليوم، وبعد ما يقارب قرنًا من الزمن على ظهور “الكف الأسود” وعملياتها ضد الاستعمار، أعاد التاريخ نفسه وتشكّلت كتيبة جنين، وكتيبة نابلس وعرين الأسود، مجموعات من شباب لا هرمية القيادة، كما عُلم حتى اللحظة، هدفها الأوحد هو أن تلاطم مخرز الاحتلال، وتزأر بأسودها مرة أخرى.