للعراق باع طويل في صناعة الوراقة، كونه أحد أضلاع حضارات العالم القديم، فعلى شواطئ أنهاره نشأت واحدة من أكثر التجارب الحضارية أهمية في مجالات العلوم المختلفة، إذ ظل هذا البلد العربي لعقود طويلة قبلة الكثير من العلماء من مختلف الجنسيات والخلفيات.
وفي العصر العباسي (766-1258) حين كانت بغداد عاصمة الخلافة ازدهرت حركة التأليف والنشر والترجمة، ووصلت إنجازاتها إلى جميع الدول الإسلامية والأوروبية أيضًا.
ويستطيع المارُّ عبر جولة واحدة في سوق السراي وشارع المتنبي في صوب الرصافة في قلب بغداد، أن يطالع بالصوت والصورة هذا الإرث الكبير للوراقة في هذا البلد العظيم، حيث اكتظاظ المكتبات والمطابع وسوق بيع القرطاسية والأحبار والأوراق وكافة مستلزمات الطباعة، فيما يفوح من بين ثنايا تلك الكيانات التراثية عبق الحضارة وعبيرها الذي يأخذ الروح على جناح السرعة في رحلة عبر أكثر من 1100 عام.
في هذا التقرير من ملف “خزانات المعرفة” نستطلع أقمار العراق التراثية وخزانات مخطوطاتها، بداية من بيت الحكمة الذي كان منبر الحضارات وملتقاها، وصولًا إلى دار المخطوطات الحالية، مرورًا بالنكبات التي تعرضت لها البلاد فدمّرت جزءًا كبيرًا من هذا الكنز وتلك الثروة اللذين لم تعرفهما دولة على وجه الأرض.
العراق وصناعة الورق
يجمع المؤرخون أن العراق من أوائل الدول العربية التي عرفت صناعة الورق، حين اكتشفوه لأول مرة في سمرقند (مدينة في أوزباكستان حاليًّا) حيث كان يصنَع على أيدي صنّاع صينيين، كونهم أول مكتشفي تلك المادة للكتابة عليها، فتمَّ نقله من هناك وبدأ توزيعه في بعض العواصم العربية وكانت من بينها بغداد.
كانت الحواضر الإسلامية في ذلك الوقت تعتمد على ورق البردي المصري، غير أن تعرضه للتلف نتيجة الرطوبة والجفاف فضلًا عن غلاء سعره كان سببًا في البحث عن بدائل أخرى أكثر جودة وأطول صلاحية وأرخص ثمنًا، لذا كان التهافت على الورق القادم من سمرقند.
في تلك الفترة كانت حركة الترجمة والثقافة في باكورة نهضتها، ما دفع هارون الرشيد إلى إنشاء أول معمل للورق في بغداد وكان ذلك عام 790، وما لبث العراق 25 عامًا حتى بلغت معامل الورق به أكثر من 100 معمل، وكان يُصنَع بداية الأمر من الحرير والكتان، لكن لندرة تلك المواد استخدم العراقيون الخرق البالية المصنوعة من الحرير وألياف النخيل والقنّب كمواد لصناعة الورق.
ومع تعاظم شأن بغداد كعاصمة للدولة العباسية ودخولها في منافسات حامية مع الحواضر الإسلامية الأخرى، في المقدمة منها القاهرة والأندلس، أولى الخليفة أهمية فائقة بالثقافة والمعرفة والعلوم، فأجزل العطاء للمترجمين والمفكرين والورّاقين، كما حثَّ على الابتكار في صناعة الورق كونه المادة الأولى للثقافة في ذلك الوقت.
لهذا بدأ استخدام مواد خام رخيصة الثمن ومتوفرة لإنعاش تلك الصناعة التي كانت حينها عنوانًا عريضًا لتقدُّم المدن وتحضُّر الشعوب، فاستخدموا القطن وطرقوه بالمطارق الخشبية والمكابس ثم خلّصوه من المواد المضرّة والشوائب حتى يتحول في النهاية إلى ما يشبه العجينة، ثم تضاف مادة مالئة أو ماسكة له، وهي مادة قلوية، حتى يخرج الورق في صورته النهائية.
بيت الحكمة.. ملتقى حوار الحضارات
على نهر دجلة في جانب الرصافة بالعاصمة بغداد، يطلّ كيان ذو طراز معماري خاص في العمارة الإسلامية، مزدان سقفه بنقوش أنيقة، ويعدّه المؤرخون أحد المعالم التراثية الخالدة، يعود بناؤه إلى الدولة العباسية لكن بشموخه وصموده أمام معاول الهدم على مرّ مئات السنين ظلّ منارة يهتدي بها الحائرون، ليستحق بحق مسمّاه “بيت الحكمة”.
كان الخلفاء العباسيون يتبارون فيما بينهم لإثراء الحضارة الإسلامية ثقافيًّا، وكانت حركة الترجمة في ذلك الوقت تحيا أوج عصورها، فكان التفكير في بناء خزانة تحوي بين جنباتها أمّهات الكتب والمخطوطات وتنقل المؤلفات الأجنبية بعد ترجمتها بحيث تصبح منارة ثقافية تُحسب للعباسيين، وتكون جسرًا بينهم وبين الحضارات الأخرى من جانب وبينهم وبين المسلمين والعرب من جانب آخر، فاستقرَّ الأمر في ولاية هارون الرشيد (766-809) على وضع النواة الأولى لما سُمّي بـ”خزانة الحكمة” في بغداد وكان ذلك عام 809، وكانت تزخر رفوفها في البداية بكتب الفلسفة اليونانية التي حصل عليها الرشيد في إحدى حملاته على مدن آسيا الصغرى.
وقد أولى الخليفة أهمية كبرى بترجمة الكتب من اليونانية إلى العربية، ووكّل هذا الأمر إلى العالم يحيى بن ماسويه، هذا بجانب النقل عن كتب التراث الفارسي وأوكل تلك المهمة إلى الفضل بن نوبخت، هذا بجانب تشديده على أهمية النسخ والتدوين وجمع المخطوطات من العلماء ومكتبات المساجد والباحات الكبرى، بهدف تحويل بيت الحكمة إلى مركز ثقافي عالمي وملتقى حضارات الأمم والشعوب.
وفي عهد الخليفة أبو العباس المأمون (786-833) بلغ بيت الحكمة ذروة نشاطة، إيمانًا منه بأهمية العلم والثقافة في رفعة الأمم ونهضة الشعوب، عاقدًا العزم على إكمال حلم والده، حيث استعان بعلماء بغداد واستمع إلى كل متخصّص من أجل النهوض بالدار التي حمل على عاتقه أن تكون واحة يستظل بها الجميع، لا فرق بين عربي ومسلم وأعجمي، الكل في محراب العلم سواسية.
بذل العراق جهودًا كبيرة لإحياء بيت الحكمة في العصور الحديثة، حيث تحول إلى مؤسسة مستقلة ماديًّا وإداريًّا وإن كانت تتبع مجلس الوزراء، وهي معنية بالدراسات والبحوث وتستهدف إرساء منهج الحوار بين الثقافات والأديان.
وانطلاقًا من تلك الرؤية، فتح المأمون بيت الحكمة على مصراعَيه أمام الترجمة إلى العربية، فاحتضنت المكتبة ولأول مرة مؤلفات عن العلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات، وقاد بنفسه مهمة جمع مخطوطات الحضارات الأخرى من داخل العالم العربي والإسلامي ومن خارجه ووضعها في الدار.
وكان من أوائل من وُضع فيها مخطوطات التراث اليونانية التي حصل عليها من حاكم قبرص البيزنطي، والذي أرسل إليه يطلبها منه شخصيًّا، وأخرى حصل عليها من عاصمة الدولة البيزنطية، القسطنطينية، بعد اتصالات ومراسلات عدة بينه وبين الإمبراطور البيزنطي.
وقد كلّف الخليفة عددًا من كبار علماء بغداد في ذلك الوقت للسفر إلى عواصم الحضارات للحصول على نسخ من المخطوطات المتواجدة هناك، لجمعها في الكنز العراقي الجديد “بيت الحكمة”، وكان على رأس تلك البعثة الثقافية الدبلوماسية يحيى بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويحيى بن البطريق، وللعلم كانوا جميعهم من المسيحيين، لكن نظرًا إلى براعتهم في اليونانية وقع عليهم الاختيار.
وتشير الروايات إلى أن عدد المخطوطات والمؤلفات التي حوتها الدار في عهد المأمون تجاوز المليون المخطوطة، كانت المرجعية الأكبر لكبار العلماء، إذ تؤكد بعض المصادر إلى أن عالم الرياضيات الشهير الخوارزمي حقق معظم اكتشافاته الرياضية اعتمادًا على العناوين الموجودة في بيت الحكمة، التي كانت كنزًا ينهل منه الجميع.
وظلت هذه الدار ملتقى حضارات العالم، العربية الإسلامية واليونانية والفارسية والسريانية والهندية، حتى سقطت بسقوط الخلافة العباسية بعد أن اكتسح المغول بغداد عام 1258 في المرة الأولى، ثم الاكتساح الثاني على يد تيمورلنك (1336-1405) حيث أُبيدت معالم العراق التراثية مرتين، الأولى عام 1392 والأخرى عام 1400، حيث محوا كل شيء، بيوت ومكتبات وخزائن، فيما تمَّ ترحيل علماء المدينة ووجهائها إلى سمرقند.
وما تبقى من الدار بعد تجديدها تمَّ تدميره لاحقًا أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث تعرّض بيت الحكمة وسائر المكتبات الملحقة به لعملية تدمير وحرق وحشية، أُحرقت خلالها معظم الكتب والمخطوطات، وما تبقّى منه تمّت سرقته وترحيله خارج البلاد في واحدة من أكثر الجرائم الوحشية ضد العلم والتراث في التاريخ.
بذلَ العراق جهودًا كبيرة لإحياء بيت الحكمة في العصور الحديثة، فقد تحوّل إلى مؤسسة مستقلة ماديًّا وإداريًّا وإن كانت تتبع مجلس الوزراء، وهي معنية بالدراسات والبحوث وتستهدف إرساء منهج الحوار بين الثقافات والأديان، كما تقول رئيسة القسم الاجتماعي في الدار، الدكتورة خديجة حسن جاسم، التي أوضحت أنه يتألّف اليوم من 8 أقسام علمية، هي: قسم الدراسات الاجتماعية، وقسم الدراسات القانونية، وقسم الدراسات السياسية والاستراتيجية، وقسم دراسات الأديان، وقسم الدراسات الاقتصادية، وقسم الدراسات التاريخية، وقسم الدراسات اللغوية والترجمية، وقسم الدراسات الفلسفية.
دار المخطوطات.. مخزن نفائس العلوم
إيمانًا من العراقيين بأهمية المخطوطات وضرورة حفظ التراث بعد التجارب المريرة التي مرّت بها البلاد وأفقدتها الكثير من مخزونها العلمي المتوارث، شرعت دائرة التراث والآثار التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في وضع اللبنة الأولى نحو تدشين دار جديدة تكون مهمتها حفظ المخطوطات وجمعها تحت مظلة واحدة، كان ذلك عام 1940.
وبدأ بالفعل جمع الكنوز التراثية من شتى المكتبات لجمعها في هذا الخزان الجديد الذي حمل اسم “دار المخطوطات”، وكان كتاب “معجم البلدان” لياقوت الحموي المتوفي عام 1229 هو أول مؤلف تمَّ تسجيله في الدار، ومع بدايات عام 1961 تمَّ تدشين قسم خاص للمخطوطات ونقلت إليه مخطوطات المتحف العراقي الذي كان المكتبة الأكبر للمخطوطات في البلاد في ذلك الوقت، ليصل عدد المخطوطات هذا العام قرابة 2250 مخطوطة، أُهديت للدار من خزائن مخطوطات شهيرة وقتها، منها خزانة الآباء الكرمليين وخزانة الملا صابر الكركوكلي ببغداد.
وفي مطلع السبعينيات تبنّت الحكومة العراقية مشروعًا ثقافيًّا لحماية التراث والمخطوطات، حيث كلّفت مؤسسة الآثار بجمع المخطوطات وحمايتها وتنظيم حيازتها وكيفية التصرف بها، كما خصّصت ميزانية كبيرة لهذا الهدف باعتبار أن المخطوطات ثروة وطنية يجب صيانتها، وكان نتاجًا لهذا المشروع وتلك الرؤية أن ارتفع عدد المخطوطات من 2250 مخطوطة بداية الستينيات إلى 36 ألفًا و500 مخطوطة منتصف السبعينيات.
هذا التطور الكبير في محتوى الدار كان دافعًا لتطويرها معماريًّا، حيث تمَّ تدشين مبنى جديد لها في قلب بغداد مكوّن من 3 دُور كاملة، وتجاوز عدد المخطوطات التي يمتلكها 53 ألف مخطوطة في شتى المجالات، مع وضع نظام إداري وفنّي لحماية تلك المخطوطات وسهولة الحصول عليها ومتابعتها من قبل الباحثين والمهتمين.
ومع الهيكلة الجديدة للدار تعزّزت مهامها لتشمل جمع المخطوطات والحفاظ عليها، تسهيل مهمة الانتقاع بها عن طريق تقديمها للباحثين والدارسين من داخل العراق وخارجه، صيانة المخطوطات وترميمها، تصوير المخطوطات وتقديمها للجمهور بدلًا من النسخ الأصلية حفاظًا عليها، فهرستها ودراستها وتبويبها بشكل ييسّر على القرّاء والمتابعين، إقامة الندوات التراثية والمشاركة فيها، وأخيرًا السعي إلى تعزيز علاقات التعاون مع دوائر التراث الأخرى داخل العراق وخارجه، وتنقسم الدار إلى عدة أقسام، منها: قسم الفهرسة، قسم الحيازة، قسم المخازن، القسم الفني، شعبة الحاسوب وقسم المايكروفيلم.
ومن حسن حظ الدار أنه قد تمّ نقل كل محتوياتها قبل 5 أيام فقط من بدء الغزو الأمريكي للعراق، تحديدًا يوم 15 مارس/ آذار 2003، إلى مكتبة الأوقاف التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، رغم ما تعرّضت له معظم مكتبات البلاد من تدمير وحرق وإتلاف لعشرات الآلاف من المخطوطات التراثية النادرة.
الأرشفة الرقمية.. التعلُّم من دروس الماضي
منذ سقوط الخلافة العباسية وطمس هوية بغداد الحضارية والتراثية بأقدام المغول في القرن الرابع عشر، وصولًا إلى الاحتلال الأمريكي عام 2003، تعرّضت مئات الآلاف من المخطوطات للحرق والتدمير والتلف، فيما نُقل بعضها خارج البلاد عن طريق جماعات متخصصة في سرقة التراث، لذا كان لا بدَّ من البحث عن آلية عصرية لحفظ المخطوطات من التعرض للمصائر الكارثية ذاتها.
ومن ثم كانت الدعوة لرقمنة المخطوطات وتحويل هذا الكنز الورقي الكبير إلى صورة إلكترونية رقمية مؤرشفة تسهّل عملية استعادته والاستفادة منه مهما كانت عوامل التعرية، وبالفعل كان مشروع رقمنة المخطوطات الذي أعلنت عنه دار المخطوطات العراقية العام الماضي، والذي يُعنى بتصوير 47 ألف مخطوطة وحفظها رقميًّا.
وبدأ بالفعل الإعداد لدخول المشروع حيز التنفيذ، حيث تجهيز آلات التصوير الحديثة والفنيين المتخصصين إلى جانب المستلزمات الأخرى التقنية والفنية، مع توفير نظام إداري خاص لتلك المهمة الوطنية بحسب مدير عام دار المخطوطات كريم العلياوي، الذي أشار إلى أن هناك مخطوطات غير مصوّرة من قبل، وهو ما يدفع إلى الإسراع لتنفيذ هذا المشروع قبل تعرضها لأي طارئ.
يذكر أن الدار العراقية تضمّ بين جنباتها بعض المخطوطات النفيسة والنادرة، أبرزها مصحف بخطّ الوزير ابن مقلّة يعود إلى بدايات القرن الرابع الهجري، ومخطوطات أخرى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى للهجرة، بجانب احتضانها لنسخة أصلية من “شرح نهج البلاغة” لابن أبي الحديد المكتوب عام سنة 1161 وكذلك ديوانه، ونسخة من ديوان “الحماسة الكبرى” لأبي تمام المكتوب عام 1110.