يعد تاريخ القرامطة من التواريخ المحفورة في الذاكرة الإسلامية من قسوة ما بلغ من إجرامهم الذي شمل كثيرا من مدن العراق والشام والجزيرة العربية واليمن، فكانوا إذا اقتحموا المدينة استباحوا أهلها وأموالها ونساءها، ولما تصدت لهم جيوش الخلافة العباسية بدأوا في مهاجمة قوافل الحجيج واستباحتها، حتى بلغ من إجرامهم اقتحام مكة المكرمة وقتل الحجاج ونزع الحجر الأسود من مكانه، وهتف قائلهم “أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟”، واستمر إجرامهم نحو مائة عام.
وقصة القرامطة من القصص البليغة في أن الغلو يودي إلى الكفر، كما أن الكفر يتستر بالغلو، وفي تاريخنا القديم والحديث والمعاصر قصص كثيرة تثبت أن الغلاة كانوا مطايا ومدخلا وغطاء لمؤامرات الكافرين والمُفسدين.
كان أول أمر القرامطة هو الغلو في آل البيت، وهذا الغلو كان مدخلهم في دعوتهم، لكن مسيرتهم انتهت إلى أن صار كل قادتهم ليسوا من آل البيت، بل حاربوهم، وكانوا إذا دخلوا مدينة بدأوا بانتهاك حرمة الهاشميات، ثم استحلوا قواعد الإسلام جميعا، حتى حازوا جريمة اقتحام الحرم التي لم تكن لأحد قبلهم!
ومن بين قصص كثيرة –بامتداد مائة عام، وبمساحة أرض الجزيرة واليمن والعراق والشام- حفظ لنا التاريخ قصة هذه المرأة البائسة التي قتلها ابنها القرمطي.
روى الطبري عن طبيب في بغداد يُدعى أبا الحسن أنه جاءته امرأة تريد أن تعالج جرحا في كتفها، ولكنه كان طبيب عيون، فأجلسها تنتظر حتى جاءت طبيبة النساء والجراحة، ولما رأى بؤسها وبكاءها ألح عليها أن تروي ما بها لعله يساعدها، فقالت المرأة:
“كان لي ابن غاب عني وطالت غيبته، وخَلَفَ عليّ أخوات له فضقت واحتجت واشتقت إليه، وكان شَخَصَ إلى ناحية الرقة، فخرجت إلى الموصل وإلى بلد (اسم مدينة) وإلى الرقة كل ذلك أطلبه وأسأل عنه فلم أُدَلَّ عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه فوقعت في عسكر القرمطي، فجعلت أطوف وأطلبه، فبينا أنا كذلك إذ رأيته فتعلقت به، فقلت: ابني، فقال: أمي؟ فقلت: نعم. قال: ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق فمضى بي إلى منزله وجلس بين يدي وجعل يسائلني عن أخبارنا فخَبَّرتُه، ثم قال: دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بني أما تعرفني؟ فقال: وكيف لا أعرفك؟ فقلت: ولم تسألني عن ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني؟ فقال: كل ما كنا فيه باطل والدين ما نحن فيه الآن. فأعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآني كذلك خرج وتركني ثم وجه إلي بخبز ولحم وما يصلحني وقال اطبخيه فتركته ولم أمسه، ثم عاد فطبخه وأصلح أمر منزله.
فدق الباب داقٌ فخرج إليه، فإذا رجل يسأله ويقول له: هذه القادمة عليك تحسن أن تصلح من أمر النساء شيئا؟ فسألني، فقلت: نعم، فقال: امضي معي فمضيتُ فأدخلني دارا، وإذا امرأة تطلق (تَلِد) فقعدت بين يديها وجعلت أكلمها فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذي جاء بي إليها: ما عليك من كلامها، أصلحي أمر هذه ودعي كلامها، فأقمتُ حتى ولدت غلاما وأصلحتُ من شأنه وجعلت أكلمها وأتلطف بها، وأقول: لها يا هذه لا تحتشميني (لا تخجلي مني) فقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبي، فقالت: تسألينني عن أبيه لتطالبيه بشيء يهبه لك؟ فقلتُ: لا، ولكن أحب أن أعلم خبرك.
فقالت لي: إني امرأة هاشمية ورفعت رأسها فرأيت أحسن الناس وجها، وإن هؤلاء القوم أتونا فذبحوا أبي وأمي وإخوتي وأهلي جميعا، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام ثم أخرجني، فدفعني إلى أصحابه فقال: طهروها، فأرادوا قتلي، فبكيتُ، وكان بين يديه رجل من قواده فقال: هبها لي، فقال: خذها. فأخذني وكان بحضرته ثلاثة أنفس قيام من أصحابه فسلوا سيوفهم وقالوا: لا نسلمها إليك إما أن تدفعها إلينا وإلا قتلناها، وأرادوا قتلي، وضجوا (تنازعوا وعلت أصواتهم)، فدعاهم رئيسهم القرمطي وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم أربعتكم، فأخذوني فأنا مقيمة معهم أربعتهم، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم.
قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنيه، فهنأته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضة وجاء آخر وآخر أهنئ كل واحد منهم فيعطيني سبيكة فضة، فلما كان في السَّحَر جاء جماعة مع رجل وبين يديه شمع وعليه ثياب خز تفوح منه رائحة المسك، فقالت لي: هنيه، فقمتُ إليه فقلتُ بيض الله وجهك والحمد لله الذي رزقك هذا الابن ودعوت له فأعطاني سبيكة فيها ألف درهم، وبات الرجل في بيت وبِتُّ مع المرأة في بيت.
فلما أصبحتُ قلتُ للمرأة: يا هذه قد وجب عليك حقي، فالله الله فيَّ، خلصيني. قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابني وقلت لها: إني جئت راغبة إليه وإنه قال لي كيت كيت وليس في يدي منه شيء ولي بنات ضعاف خلفتهن بأسوأ حال فخلصيني من هاهنا لأصل إلى بناتي. فقالت: عليكِ بالرجل الذي جاء آخر القوم فسليه ذلك فإنه يخلصك، فأقمتُ يومي إلى أن أمسيتُ، فلما جاء تقدمتُ إليه وقبلت يده ورجله وقلتُ: يا سيدي قد وجب حقي عليك وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني ولي بنات ضعاف فقراء، فإن أذنت لي أن أمضي فأجيئك ببناتي حتى يخدمنك ويكن بين يديك. فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم. فدعا قوما من غلمانه فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا ثم اتركوها وارجعوا، فحملوني على دابة ومضوا بي.
قالت: فبينما نحن نسير وإذا أنا بابني يركض، وقد كنا سرنا عشرة فراسخ فيما خبرني به القوم الذين معي، فلحقني وقال: يا فاعلة، زعمتِ أنك تمضين وتجيئين ببناتك؟ وسلَّ سيفه ليضربني، فمنعه القوم فلحقني طرف السيف فوقع في كتفي، وسَلَّ القوم سيوفهم فأرادوه، فتنحى عني وساروا بي حتى بلغا بي الموضع الذي سماه لهم صاحبهم فتركوني ومضوا، فتقدمت إلى هاهنا وقد طفت لعلاج جُرْحِي فوُصِف لي هذا الموضع فجئت إلى هاهنا.
قالت: ولما قدم أمير المؤمنين (المكتفي بالله) بالقرمطي وبالأسارى من أصحابه خرجت لأنظر إليها، فرأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس وهو يبكي، وهو فتى شاب فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك”(1). أهـ ولما جاءت طبيبة النساء أعطتها علاجا لكن توصيفها أن الجرح خطير وأغلب الظن أنها لا تبرأ منه.
فانظر إلى قصة الشاب اليتيم ذي الأم والأخوات الضعاف، دخل في الأمر يحسب أنه الهدى ورد الحق لآل البيت، فإذا به يستبيح نساء آل البيت، ويراهم ويرى الناس معهم كافرين، ولا يحجزه عن قتل أمه إلا العجز!!
(1) الطبري: تاريخ الطبري 5/646، 647. ط دار الكتب العلمية.