تحتضن العاصمة الجزائر، على مدى يومين، جلسات الحوار بين الفصائل الفلسطينية مجتمعة وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس، للتوافق على رؤية الجزائر الرامية إلى إنهاء الانقسام الداخلي المستمر منذ سنوات عدة وترتيب البيت الفلسطيني، فهل نشهد مصالحة حقيقية أم أنها مجرد اجتماعات تخدم مصلحة الجزائر للعودة للساحة العربية فقط؟
انطلاق الحوار
تأتي انطلاقة هذا الحوار بعد شهور من الجهود التي بذلتها الجزائر من أجل الوصول إلى رؤية جامعة توافقية يتفق عليها أطراف العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني لتحقيق الوحدة الفلسطينية، وفق سفير فلسطين لدى الجزائر فايز أبو عيطة.
ويشارك في الحوار ممثلو فصائل منظمة التحرير الفلسطينية (12 فصيلًا)، على رأسها حركة فتح، إضافة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بدعوة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي يطمح أن يسجل اختراقًا في ملف الانقسام ويقرّب وجهات النظر بين مختلف الفصائل.
وكان تبون قد أعلن في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، في ندوة صحفية مع نظيره الفلسطيني محمود عباس، الذي زار الجزائر يومها، أن بلاده تعتزم استضافة مؤتمر “جامع” للفصائل الفلسطينية “قريبًا”، وقال تبون حينها إن بلاده تتمسك بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف في “مسار ابتدأته، ولا يزال يمثّل مرجعًا أساسيًا وهدفًا جوهريًا بالنسبة لنا”.
يوجد اختلاف كبير وتباين في وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية، فكل طرف يتبنى طرحًا معينًا
منذ ذلك الحين، تسارعت الجهود الجزائرية لجمع مختلف الفصائل الفلسطينية قبل عقد القمة العربية المقررة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وظهر ذلك في العديد من المحطات، فقد استقبل قصر المرادية وفودًا لمختلف الفصائل التي أكدت تفاعلها مع الخطوة الجزائرية.
أبرز هذه المحطات، يوم 5 يوليو/تموز الماضي حين عقد الرئيس تبون لقاءً جمع نظيره الفلسطيني محمود عباس بوفد من حركة حماس، يقوده رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، بمناسبة احتفالات الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، وشارك في هذه الاجتماعات شخصيات أخرى من حماس وفتح.
تعتبر صورة المصافحة بين هنية وعباس، التي جاءت بعد قطيعة سنوات، مؤشرًا جيدًا على مسار الجهود الجزائرية، صحيح أن المصافحة كان فيها أيضًا تبون، لكن هذا لا يقلل الاختراق الجزائري المهم في هذا الملف.
كما استقبلت الجزائر في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وفدًا عن فتح يضم عضوَي اللجنة المركزية للحركة عزام الأحمد وروحي فتوح، فضلًا عن وفد من حماس يضم أعضاء المكتب السياسي خليل الحية وماهر صلاح وحسام بدران، وممثل حماس في الجزائر محمد عثمان، وذلك للتحضير لجلسات الحوار.
فرص تحقيق المصالحة
انتهت الجولة الأولى من الحوار منتصف ليلة أمس الثلاثاء، وفق بسام الصالحي أمين عام حزب الشعب الفلسطيني، وانطلقت الجولة الثانية صباح اليوم على أمل تحقيق تقدم ملحوظ في جهود المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي دام سنوات.
يأمل المجتمعون والقيادة الجزائرية أن تختتم جولات الحوار اليوم بالاتفاق على “إعلان الجزائر” الذي أعد سابقًا على أن يرفع إلى القمة العربية المزمع عقدها مطلع نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لبلورته والدفع نحو المصالحة النهائية.
تشير تصريحات ممثلي الفصائل الفلسطينية إلى وجود بوادر صلح، فقد أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن أجواء إيجابية سادت الجولة الأولى من الحوار الفلسطيني الشامل المُنعقد في الجزائر لبحث إنجاز المصالحة.
الجبهة الديمقراطية: الجزائر قدمت لنا حلولا جادة لإنهاء الانقسام.#جيش_فلسطين_الالكتروني
— طالب الشهادة (@TAlshhadt) October 11, 2022
أضافت الجبهة في بيان لها “لن نخرج من الجزائر بما تعنيه من موقف عروبي مقاوم للتطبيع إلا وقد اتفقنا على بيان الجزائر لنبدأ الخطوات العملية نحو تحقيق المصالحة على طريق إنهاء الانقسام والتأسيس لمرحلة جديدة من النضال الوطني لتحقيق أهداف الشعب في الحرية والاستقلال ومقاومة الاحتلال”.
بدوره أكد بسام الصالحي، أمين عام حزب الشعب الفلسطيني أن “المزاج العام جيد وإيجابي وبناء، وكل القوى تدرك أهمية التوافق على الرؤية الجزائرية لإنهاء الانقسام”، مشيرًا إلى أن “الجزائر عرضت رؤية شاملة تخص كل جوانب الانقسام الفلسطيني أمام الفصائل ويجري بحثها.. نعتقد أن الأمور تسير في اتجاه صحيح للتوافق على الرؤية الجزائرية”.
التصريحات جيدة، لكن المتأمل لسير جهود المصالحة الجزائرية أو التي سبقتها يرى أنها مجرد تصريحات للتسويق الإعلامي فقط، الهدف منها إثبات وجود نية للمصالحة، فكل طرف لا يريد أن يظهر أنه المتسبب في الانقسام.
ليست هذه المرة الأولى التي تقود فيها دولة عربية جهود المصالحة الفلسطينية وقد سبقت الجزائر كل من قطر ومصر، كما سبق أن سعت تركيا لتقريب وجهات النظر بين مختلف الفصائل الفلسطينية لإنهاء الانقسام الداخلي الذي أضر كثيرًا بالقضية، لكن كل الجهود فشلت، فالاتفاقيات التي تم التوصل إليها تفشل عند عملية التطبيق.
يوجد اختلاف كبير وتباين في وجهات النظر، فكل طرف يتبنى طرحًا معينًا، حيث ترى فتح مثلًا ضرورة تشكيل حكومة وحدة تحل الملفات العالقة من ناحية إدارية وسياسية وأمنية وشرطية وكذلك المعابر والحدود، أما حماس فتستند رؤيتها على إصلاح النظام السياسي بدءًا من منظمة التحرير عبر الانتخابات ثم الانتقال إلى باقي حلقات النظام.
منذ وصوله إلى كرسي الرئاسة في ديسمبر/كانون الأول 2019، يحاول تبون إعادة بوصلة دبلوماسية بلاده إلى مكانها المعهود
بالنسبة للجبهة الديمقراطية فترى ضرورة اتخاذ إجراءات مستعجلة لتوفير أجواء للمصالحة ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية وإعادة بناء المجلس المركزي بالتزامن، فيما يرى الجهاد الإسلامي ضرورة الانفكاك من كل الشروط الدولية التي تمثّل عقبة أمام المصالحة مع ضرورة التوافق على إستراتيجية تستند للمقاومة.
إلى جانب اختلاف وجهات النظر، توجد بعض الدول العربية التي ليس من مصلحتها أن تحرز الجزائر أي تقدم في مسألة المصالحة الفلسطينية ونعني بذلك مصر، التي تعرف علاقاتها مع الجزائر في الفترة الأخيرة توترًا ملحوظًا.
ليس هذا فحسب ما يجعل المصالحة صعبة المنال في هذا الوقت بالذات، فالانقسام الداخلي الذي تعرفه العديد من الفصائل له أن يساهم في تأجيل المصالحة أيضًا، فأغلب الفصائل على رأسها فتح تعرف انقسامًا كبيرًا بسبب اختلاف الرؤى والمصالح بين أعضائها.
مصالح جزائرية؟
يمكن أن تنتهي جلسات الحوار دون تحقيق أي تقدم ملحوظ في جهود المصالحة، وأن تكون النتيجة الوحيدة بعض الصور بين الوفود المشاركة ويمكن أن يتم الاتفاق على إعلان مشترك يُرفع إلى القمة العربية القادمة.
لكن المؤكد أن الرابح الأبرز من هذه الجولة، دون شك هو النظام الجزائري الذي يبحث عن مكانة إقليمية تنسيه سنوات العزلة والانطواء التي عانت منها الجزائر في الفترة الماضية، خاصة في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة.
يريد نظام تبون الاستفادة من رعايته جهود المصالحة الفلسطينية قدر الإمكان وذلك للعودة إلى الساحة العربية وإثبات أنه رقم صعب يُحسب له ألف حساب في المسائل العربية، خاصة أن العديد من الدول سارعت إلى التطبيع وتوجد دول أخرى في الانتظار.
من جلسات المصالحة الوطنية في الجزائر#فلسطين #الجزائر pic.twitter.com/5yjr7T4w1i
— محمد الجعبري (@NzjZe) October 12, 2022
يهدف تبون وجماعته من خلال هذه المبادرة التي يعلمون فشلها منذ البداية إلى تأكيد وقوفهم بجانب القضية الفلسطينية على عكس الدول التي قدّمت مصالح أنظمتها وطبعت علاقاتها مع دولة الاحتلال على حساب نصرة القضية الفلسطينية.
في الوقت الذي تستقبل فيه الجارة الغربية المغرب الوفود الإسرائيلية، تستقبل العاصمة الجزائر الوفود الفلسطينية وهي رسالة مضمونة الوصول للقيادة المغربية مفادها أن دعم فلسطين ليس مجرد خطب تقال في المنابر وإنما أفعال وتحركات جدية.
تخدم رعاية جلسات المصالحة الطموح الجزائري لدعم مكانتها العربية والإقليمية، خاصة أنها ستحتضن بعد أسابيع قليلة القمة العربية التي يُنتظر أن تخرج بقرارات مهمة في خصوص المصالحة العربية وحل بعض الأزمات.
منذ وصوله إلى كرسي الرئاسة في ديسمبر/كانون الأول 2019، يحاول تبون إعادة بوصلة دبلوماسية بلاده إلى مكانها المعهود، والخروج من الانطواء والعزلة، فرمت الدبلوماسية الجزائرية بثقلها في العديد من الملفات، وانتقلت من خيار “الصمت” إلى خيار “الفعل” هذه المرة.