من مزاعم “الخطر الداهم” إلى الوعود بـ”العلو الشاهق” يخيّم الصمت، وبات السواد الأعظم من الناس يتحسّسون طريقًا للظفر بقوتهم اليومي، مع تدهور الوضع الاقتصادي وضبابية الأفق السياسي، أصبح الشباب لقمة سائغة لعدو يتربّصهم بالبحر والبرّ، بعد فقدان الثقة في الوعود الزائفة، حتى تردّى الواقع أكثر فأكثر، أزمة تخفي أخرى، تنتهي بارتفاع قياسي غير مسبوق لنسبة التضخم، سياسة عشوائية وتخبُّط وشعبوية أوصلت الوضع إلى هذه النتائج، وأضاعت مسارًا كان سيكون إصلاحيًّا على كافة المستويات، فهل فقد التونسيون البديل؟ أم هل البقاء على الربوة أصبح ضريبة خشية شعبوية أخرى؟
أزمة تخلق أزمة
“كأن على رؤوسهم الطير”، تعبير عربي دقيق عن حالة تصف الصمت والانتظار والتوجُّس، ربما هو ضريبة من مغبّة السقوط في شعبوية مضادة، التفسير الوحيد للقبول بالرداءة، يسأل الكثير عن الحل ولا مجيب، كأنهم سكارى وما هم كذلك، يبدو أن الصمت لم يعد علامة رضاء، بل هو فقدان لحبل النجاة.
تتعاقب الأزمات وتتكاثر فلا تكاد تحل واحدة حتى تخلفها أخرى، أزمات تتعلق بالقوت اليومي للمواطن، من زيته وخبزه وحتى مائه، ولم تستثنِ مركوبه؛ فطالت قطاع المحروقات بعد تتالي زيادات الأسعار، متلحّفة بالليل على غرار ممارسات النظام البائد، ووصلت أخيرًا إلى شبه انقطاع للوقود ما أصاب وسائل النقل بالشلل.
تلك الوسائل التي تمثّل العمود الفقري للاهثين وراء لقمة العيش بطبعهم، فما بالك أن يرهق كاهلهم هذا العائق الجديد، دون أي مبالاة من السلطة، وكأنها في وادٍ غير وادي الشعب.
الرئيس قاعد يسمع فاش يقول الشعب أمام طوابير البنزين وفي رحلات البحث عن السكر والزيت والحليب؟ يسمع الإذاعات؟ يسمع التقارير الدولية التي ترجح إفلاس الدولة قريبا؟ قاعد يشوف جثث المهاجرين غير النظاميين والغضب في الجنوب؟ بالله يقلنا كان يسمع ولا يسمع تطمينات ناس لا نعرفها #قيس_سعيد
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) October 12, 2022
المؤشر الخطير الآخر هو بلوغ الاحتياطي الاستراتيجي من البترول نهايته، بعد فراغ خزانات الوقود لعجزها عن دفع مستحقات الموردين المالية، بل التخوف الأكبر بات من نفاد هذا الاحتياطي لدى قوى الأمن والجيش الذي يخصَّص للاستعمال في الحالات القصوى.
هذا الخلل الاقتصادي المالي ونقص الضرورات الحياتية الأساسية يحمله مراقبون لسلطة الإجراءات الاستثنائية لـ 25 يوليو/ تموز، ومن لفّ لفها في وسائل الإعلام، بل طالت الانتقادات اللاذعة المعارضة، والأنكى أن تكون من أطراف كانت موالية لتوجُّه قيس سعيّد، لكن بتغير موقفها يظهر صدق رغبة أولئك في التغيير الحقيقي خلال انتخابات 2019 بالقطع مع الفساد والمفسدين، لكن تبين لهم أن الرئيس ذهب في المذهب الخطأ.
كانت الرغبة في الإصلاح تنحو في اتجاه البناء على المنجزات الإيجابية للعشرية الأخيرة، لا القطع معها وإعادة تأسيس جديد، والسقوط في مربعات ومهاترات الشعبوية والانتقائية الأقرب للتشفّي والانتقامية، دون أي مراجعات بنيوية للماضي أو حتى للعامَين الماضيَين، رغم استقالة مستشارين بارزين آخرهم نادية عكاشة.
نزيف يومي
حبل النجاة الوحيد في البحر أصبح نزيفًا يوميًّا يأكل الدينامو الحقيقي للدورة الاقتصادية، استنزاف غير مسبوق للشباب، تزايدت حالات الانتحار حرقًا، أو “حرّاقًا” عرض البحر، هربًا إلى الضفة المقابلة، للنجاة بجلدهم من الضائقة المالية، الشبح المحدق بأرباب العائلات من كل جانب.
في المقابل قامت إيطاليا بترحيل مئات الشبان التونسيين باتفاقيات ظالمة، سارٍ بها العمل إلى اليوم، إلى جانب ترحيل كل الذين فقدوا إقامتهم القانونية، دون إظهار سعيّد أي مساعٍ لوقف ترحیلهم القسري، وفق منظمات حقوقية تونسية.
ووفق إحصاءات محلية، هاجر هذه السنة نحو 12 ألف شاب فقط من محافظة تطاوين بأقصى الجنوب، بعد يأسهم من تشغيلهم رغم اتفاقيات سابقة تضمن لهم ذلك، ورغم وعود التنمية والحكم النابع من إرادة الشعب والجمهورية الجديدة وفق مفسّري حملة قيس سعيّد الانتخابية، الموغلة في الطوباوية، لكن يبدو أن ذلك الاهتمام اقتصرَ على أعضاء تنسيقياته وحوارييه، على حد قول مناوئيه.
ما كان وراء موجات الهجرة الجماعية عبر البحر، لعائلات بأكملها، حالف الحظ كثيرين، لكن لم يسعف المئات، ولا يزال بعضهم مفقودًا في جرجيس بالجنوب الشرقي، بعد كارثة المهدية التي حدثت مؤخرًا إثر غرق 37 شخصًا، وسط صمت رسمي مطبق.
ناهيك عن المخاطرة بالهجرة عبر صربيا التي راح ضحيتها كثيرون لم يظفروا بحلم الوصول، ما وضع علامات استفهام وحيرة، لكأن جهات مسؤولة متورّطة في عمليات التسفير الممنهَج، أو تعليمات بغضّ الطرف عن تسفير أولئك.
أما من لم يستطع تدبير أمر الأموال الكافية للرحيل، فلا يزال على مضض يتحيّن الفرصة المناسبة ليلقي بها في مهاوي الردى، وقد تترجمَ ذلك في خروج مسيرات في مناطق بالعاصمة في حالة غضب على ما آلت إليه الأوضاع، في تطور نسبي للمظاهرات العفوية غير المنظمة منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية.
يعني رئيسكم سامع بجرجيس ؟ و شنوة صاير فيها و في ناسها ؟
جثث تدفنت في مقبرة الغرباء من غير حتى تحليل ADNو العايلات ليوم تعرف على أربعة 4 جثث تعود لأبناء جرجيس المفقودين طفلة و3 ولاد.#تونس
— Adel Azouni (@adelazouni) October 11, 2022
وسط هذا المشهد، تخلّت الأحزاب والمنظمات والشخصيات والمنابر الإعلامية والنقابات عن دورها السابق الذي يبني من الحبّة قبّة، فاتحاد الشغل نأى بنفسه عن تحمل المسؤوليات حسب منتقديه، وترك قواعده في مواقف يلفها الغموض، فيما دفعت النقابات الأمنية ببعض قياداتها في السجن، ووعدت بمواصلة النضال، لكن دون أفق واضح أيضًا.
رئيس انقلبَ على نفسه
ربما بهذا التمشي، يكون قيس سعيّد قد كشف عن برنامجه الذي جاء لأجله، وهو الذي وعد في أحد حملاته الانتخابية بعدم التسويق للأوهام، وضرب الفاسدين، وتفريج كربة المكروبين المطحونين من الطبقة الدنيا.
لكنه فيما بعد فاجأ الجميع بمنعرجاته الكبرى الحاسمة، رغم الإقبال الضعيف على استشارته الإلكترونية على نظام حكمه، وما أحاط بالدستور من تشكيك في لجنته وفي نصّه، جعله يقرّ بما سمّاه “تسرب أخطاء” لغوية في مشروع الدستور.
فضلًا عن طعون وشكايات في نتائج الاستفتاء الدستوري، وأخيرًا وليس آخرًا فيما يخص قانون الانتخابات المرتقبة، الذي صاغه سعيّد وتدخل بنفسه لتعديل أخطائه، دون استشارة أحد، إمعانًا في تكريس النزعة الانفرادية بالحكم، حسب المختصين.
هذه الأخطاء المتسرّبة كما يصفها دائمًا، أقامت الدليل على عدم قدرة شخص بمفرده على الإلمام بكل الأدبيات القانونية واللغوية، ما يفسّر تهافت سردية الدعم الشعبي، والمخلّص من الفوضى، ويسفّه مقولة الاستغناء عن جمعيات الرقابة الحقوقية والانتخابية وحتى الأحزاب.
جعل ذلك بعض الحزيبات المساندة للرئيس ترفض المشاركة في الانتخابات البرلمانية المنتظرة، بعد إقصاء سعيّد للشخصيات المتحزبة من الترشح للتشريعية.
وانضم إليهم أخيرًا ائتلاف صمود، وعلى رأسه أمين محفوظ أستاذ القانون الدستوري الذي كان مواليًّا لـ”الجمهورية الجديدة” التي بشّر بها قيس سعيّد، احتجاجًا على التوجه الأحادي للرئيس، وتركيزه نظام “رئاسوي هجين” كما سمّاه.
انقلب على الموعودين بالعمل والترسيم في قانون للبرلمان المنحل كان قد أمضى عليه الرئيس بنفسه، لكنه ألغاه وأغلق معه ملف التوظيف العمومي.
صحيح أنه تمَّ إثقال موازنة الدولة بالوظائف ما أرهق كتلة الأجور، لكن عملية طباعة العملة التي اعتمدها المصرف المركزي زمن قيس سعيّد، من دون سندات مالية، أرهقت أكثر الوضع المالي، انتهت بصعود غير مسبوق لنسبة التضخم، لتصل 9.1% وفق معهد الإحصاء.
في المقابل لم يتمّ وضع مخطط بديل يحتضن العاطلين المتخرجين من الجامعات والعاطلين لسنوات، فحتى المشروع الرئاسي للشركات الأهلية لا يزال حبرًا على ورق، غير واضح المعالم، ويبدو برنامجًا انتخابيًّا جديدًا، أقرب منه إلى مخرج واقعي للتشغيل.
حملة سياسية للإلهاء والتغطية وتعويم القضايا، لمحاولة إغلاق قوس العشرية الانتقالية السابقة، وسرعة تمرير هذه الفترة الانتقالية الحسّاسة في مشروعه قبل الانتخابات المرتقبة لإكمال أسُس جمهوريته، والانقضاض على إرث الثورة نهائيًّا.
إلى أين؟
ذلك الإرث الذي كان وليد جيل جديد، نما وترعرع زمن النظام النوفمبري ثم انفجر في وجهه، وهو الجيل نفسه الذي عاش العشرية الانتقالية بحرّية تامة لحق التظاهر والتعبير، ليجد نفسه في وضع أشبه بالأمس، وسط مزاج عام يسوده الصمت والحيرة والارتباك، وغير مطمئن غالبًا إلى ما تسير إليه الأوضاع.
لكن هذا المزاج العام المطبق والذي يلفّ المدن صيفًا وشتاءً وفي كل فصل، لم يكن مألوفًا وكأن الوضع مزدهر والأمر جيد ومستساغ، لكأن وراء الكواليس من يتحكم ويدير أهواء الشارع والناس، رغم حالات الاستياء التي ازدادت وتيرتها مؤخرًا بشكل ملحوظ.
يبدو أن الخيارات ضئيلة أمام الجمهور، بعد القصف الكبير لآلة الدعاية القديمة لعقول الشباب، واكتسب فضاءات كانت محسوبة على القوى الثورية بل كانت وراء الثورة، حتى أسكتتها وأجهزت على وجوه كانت تحرك الشارع.
في المقابل، لم يصنع الإعلام بديلًا للسائد حتى داخل الأحياء الشعبية المتعاطفة، لذلك ظلت ثقافة الابتذال مهيمنة وتحلُّ محل البديل، ودمغجت العقول وبثّت اليأس من مكتسبات الثورة.
مرورًا بشيطنة المعارضة وضربها ببعضها، عبر ثورجيين وضعوا الأزمات الحالية في كفة موازية لبعبع رموز “العشرية السوداء”، وساهم في إذكاء ذلك فشل المعارضة في إعادة التشكُّل لخلق بديل مقبول، غير المراهنة على تآكل الانقلاب من الداخل، رغم التقائها جميعًا على رفض توجهات قيس سعيّد.
لا تغيير يبدو دون استبعاد الوجوه المستهلكة وإعادة تكريرها وتسويقها، وهذا كافٍ لتبرير الريبة والصمت خشية الهروب من شعبوية إلى شعبوية مضادة، وهما وجهان لعملة واحدة، يغيّبان عقل الدولة.
وصولًا إلى التنظير بأن “المستبد الوطني أفضل من الديمقراطي العميل”، والحال أن المستبد لا يمكن أن يكون وطنيًّا، ولا الديمقراطي يمكن أن يكون عميلًا، طالما أنه مُزكّى من أغلبية.
وعليه فإن التعويل على الأزمات لفشل أو إفشال مشروع الرئيس يبدو خيارًا غير مجدٍ، دون عودة إرادة شعبية تقلب الموازين وتسمع الحائرين على الربوة، فالإرادة الشعبية وحدها، وهي شعار قيس سعيّد الذي أوصله إلى الحكم، العامل الوحيد الذي يسحب البساط أو يمدّه، والعكس يعني القبول بالوضع الراهن والتمديد.
وبالتالي إن الاستياء والتذمر لن يغيرا الواقع، فهذا بتنا نشهده حتى من الموالين للرئيس رغم تفسيراتهم التبريرية لأسباب التردي، ورغم الإقرار بوجود عوامل موضوعية تستدعي الإصلاح، لكن يبدو أن صنّاع القرار متوغّلون ومتغوّلون في مفاصل ومعاقل المنظومة، فضربوها وأثخنوا الشارع المرهق بطبعه.
كل ذلك يؤكد حقيقة لا مناص منها، وهي أن تونس بحاجة إلى سياسة توافقية على أسُس جدّية جديدة تستفيد ممّا قبل الانقلاب الدستوري وممّا بعده، وهي رسم توافق آخر ثابت ومستقر، اقتصاديًّا قبل السياسي حتى، بعد أن تبيّن أنه لا استقرار سياسي دون استقرار اقتصادي.
تمامًا كما لا تغيير يبدو دون استبعاد الوجوه المستهلَكة وإعادة تكريرها وتسويقها، وهذا كافٍ لتبرير الريبة والصمت خشية الهروب من شعبوية إلى شعبوية مضادة، وهما وجهان لعملة واحدة، يغيّبان عقل الدولة.