يشهد قضاء سنجار اليوم صراعات معقدة، ينبع بعضها من طبيعة الواقع الداخلي في العراق، المتمثل بصراع النفوذ والسيطرة، وبعضها الآخر يرتبط بكونه جزءًا من صراع إقليمي يجد صداه في هذا القضاء، ما يجعل البيئة الأمنية في سنجار معقدة جدًّا، وتشكل تحديًا رئيسيًّا للأمن الوطني العراقي، بحكم الارتدادات والتحديات السلبية التي أفرزتها هذه البيئة، بما تحتويه من تفاعلات سياسية واقتصادية واجتماعية وديموغرافية، والتي ستلعب دورًا مهمًّا في تشكيل مستقبل سنجار بالمرحلة المقبلة.
أولًا: سنجار اليوم
تحظى سنجار بأهمية كبيرة في المعادلة الأمنية العراقية، وذلك نظرًا إلى موقعها الجيوسياسي المهم في ميزان القوى العسكري داخل العراق، حيث تتصارع العديد من القوى المحلية والإقليمية للسيطرة عليها، إلى جانب ميزاتها الاقتصادية كونها إحدى الإطلالات الرئيسية للعراق نحو تركيا وسوريا، فضلًا عن أهميتها الديموغرافية والمجتمعية.
يقع قضاء سنجار في غرب محافظة نينوى شمال العراق على جبل سنجار، ويبعد عن مركز مدينة الموصل 80 كيلومترًا، يبلغ عدد سكّانه أكثر من 84 ألف نسمة بحسب إحصاء عام 2014، يتوزعون على عدة مكونات إثنية ومذهبية وقومية، أبرزها العرب والتركمان والأكراد، والذين ينقسمون بدورهم إلى سنّة وشيعة، إلى جانب الإيزيديين والسريان والكاكائيين، هذا النسيج الاجتماعي الذي شهده القضاء تعرّض بدوره لهزّات سياسية وأمنية عديدة، جعلت بدورها القضاء يعاني من تفكُّك اجتماعي واضح، أسهم بطريقة أو أخرى في انعدام حالة الاستقرار السياسي والأمني فيه.
إذ شهد واقع قضاء سنجار السياسي والاجتماعي والأمني والجغرافي عملية تغيير دينامي مستمرة منذ مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، إذ أدّت حالة الفراغ الأمني الذي عاشه العراق، بفعل حلّ الأجهزة الأمنية والعسكرية، إلى ضعف سيطرة الحكومة الاتحادية على أغلب مناطق العراق، إلى جانب الخلافات الدستورية بين حكومتَي إقليم كردستان العراق والحكومة الاتحادية حول المناطق المتنازع عليها، والتي تمَّ النص عليها في المادة 140 من الدستور العراقي الدائم لعام 2005.
قضاء سنجار بدوره مثّل أحد أبرز الخلافات العالقة بين الإقليم والمركز، بوصفه منطقة متنازعًا عليها، ومن ثم إنَّ تمكُّن حكومة إقليم كردستان العراق من فرض السيطرة على القضاء بعد عام 2003 أنتج أول عملية تغيير ديموغرافي شهدها القضاء، إذ أدّت سياسات الإقليم إلى طرد العديد من العشائر العربية من القضاء، وتحديدًا عشائر شمر والعبيد، مقابل تصاعد ملحوظ في أعداد السكان الكرد.
بعد تمكُّن تنظيم “داعش” من السيطرة على القضاء عام 2014، دخل القضاء في ثاني عمليات التغيير الديموغرافي، وذلك عبر إفراغه من السكان الإيزيديين والكاكائيين، ليعود مرة أخرى ويدخل في عملية تغيير ديموغرافي ثالثة بعد تحريره من سيطرة التنظيم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وذلك عبر إبعاد العديد من العشائر العربية منه بحجّة انتماء أبنائها إلى التنظيم، مقابل تصاعد ملحوظ لسيطرة حزب العمال الكردستاني “بي كي كي” والفصائل الإيزيدية المتحالفة معه.
إذ يشهد القضاء حالة من عدم الاستقرار اليوم، وذلك بفعل التغيرات الشاملة التي طرأت عليه، إلى جانب المخاضات العسيرة التي أفرزتها مرحلة ما بعد “داعش”، إذ ما زالت عمليات الثأر العشائري والصراع السياسي مستمرة في القضاء، كما أن الاندفاعات الإيرانية والتركية لفرض واقع جديد على القضاء أتت بنتائج عكسية على مستوى النسيج الاجتماعي، بحيث أصبحت خطوط الصراع بين مكونات سنجار الإثنية والمذهبية والقومية متعددة المسارات ومتداخلة الأبعاد، ما جعل القضاء إحدى أبرز المشاكل التي يواجهها العراق اليوم.
ثانيًا: الإدارة والقوى الفاعلة في سنجار
تشهد معادلة الإدارة والقوة في سنجار وضعًا معقدًا، وذلك بفعل تعدد الفواعل الموجودة على الأرض، والتي أنتجت خليطًا متداخلًا من العلاقات غير المستقرة بين مكونات القضاء، على أنه من الناحية الإدارية توجد حاليًّا إدارتان محليتان في سنجار، إحداهما عيّنتها الحكومة الاتحادية، والثانية هي الإدارة الذاتية التي تتبع لوحدات ما يُعرَف بـ”مقاومة سنجار (اليابشا)”:
1- قائم مقام قضاء سنجار؛ كان يشغله محما خليل، وهو إيزيدي كردي يعمل عضوًا في الحزب الديمقراطي الكردستاني، بعد أن فاز في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أصبح المنصب شاغرًا، ورغم أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أصدر قرارًا في 27 أبريل/ نيسان 2022 بتعيين محافظ نينوى نجم الجبوري لإدارة مهام قائم مقام قضاء سنجار من موقع أدنى، وذلك لسدّ الفراغ الذي خلّفه محما خليل، إلا أنه سرعان ما ألغى القرار لأسباب غير معلنة.
2- الإدارة الذاتية؛ أواخر عام 2018 تشكّل مجلس مؤقت في سنجار من قبل عدة أطراف سياسية، وجرى اختيار فهد حامد قائم مقام لقضاء سنجار دون أن تعترف به الحكومة الاتحادية، وشُكّل مجلس الإدارة الذاتية في سنجار من قبل عدة جهات إيزيدية وعربية ومن مكونات سنجار الأخرى، ويعد مقرّبًا من “بي كي كي”، وتابعًا لـ”اليابشا”، يتولى المجلس حاليًّا إدارة جزء من القضاء والنواحي التابعة له بصورة ذاتية.
من يحكم سنجار؟
هناك تداخل كبير تعيشه سنجار بعد تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش”، فقبل سيطرة التنظيم كان القضاء يشهد تواجدًا للبيشمركة الكردية، مع انتشار بسيط لسيطرة الشرطة العراقية، إلا أنه بعد التحرير تغيّر الوضع الأمني في القضاء، وبدأت قوى جديدة تؤسّس لوجود عسكري في القضاء، يمكن تحديدها على النحو الآتي:
1- حزب العمال الكردستاني “بي كي كي”: شكّلت عملية تمركز “بي كي كي” في شمال العراق، وتحديدًا في سنجار، أحد أبرز التعقيدات الأمنية في مسار العلاقات العراقية التركية قبل عام 2003، ورغم توقيع عدة اتفاقيات أمنية بين الجانبَين لوضع حدّ للتوغُّلات العسكرية التي يقوم بها عناصر الحزب على طرفَي الحدود، إلا أنها لم تتمكن من وضع حدّ لنشاطات وتحركات الحزب، وذلك بسبب الدور الإيراني الذي دخل على الخط، وقدم الدعم اللوجستي والاستخباراتي للحزب، بالضد من تركيا والعراق.
وفي مرحلة ما بعد تحرير سنجار من سيطرة تنظيم “داعش”، نجح الحزب بافتتاح العديد من القواعد العسكرية للحزب في جبال قنديل وغارا وباسيان وأفشين، كما تمكّن من إنشاء تواجُد جغرافي على طول الحدود العراقية السورية، والقيام إلى جانب دوره العسكري بعمليات تهريب وتجارة غير شرعية عابرة للحدود.
يمتلك “بي كي كي” إلى جانب انتشاره العسكري في شمال وغرب سنجار، أنفاقًا عسكرية تقدَّر بحدود 120 نفقًا، بعضها يستخدَم لتخزين السلاح والمعدّات العسكرية، والبعض الآخر يستخدَم لعبور المقاتلين وتجارة المخدرات، إذ تقدِّر التقارير الاستخباراتية أن مجموع عناصر الحزب في سنجار ومخمور والكوير يترواح بحدود 5000 مقاتل ومقاتلة من جنسيات متعددة، أبرزها تركية وأرمينية ويونانية وسورية.
2- وحدات مقاومة سنجار “اليابشا”: تأسّست “اليابشا” في نهايات عام 2007 كفرع تابع لـ”بي كي كي”، وكقوات تعبئة شعبية أكثر من كونها تنظيمًا مسلحًا له هرمية قيادية واضحة، أُطلق عليها في بداية التأسيس مسمّى وحدات حماية سنجار، نادت الوحدات بالأهداف ذاتها التي ينادي بها “بي كي كي”، المتمثلة بتأسيس دولة مستقلة معتمدة على الماركسية اللينينية بحدود المنطقة المسماة كردستان، وهي أهداف حدّدها زعيم الحزب عبد الله أوجلان الذي اعتقلته الاستخبارات التركية في كينيا عام 1999، والتي يطلق عليها أيضًا تعاليم (APO) أي تعاليم الأب الروحي.
لعبت إيران، وبعد توصية من العميد أزدائي، دورًا مهمًّا في ضمّ “اليابشا” إلى هيئة الحشد الشعبي بعد صدور قانون رقم 40 لسنة 2016، وذلك لتسهيل عملية السيطرة على سنجار عبر الدفع بقوات حليفة لإيران، وقطع الطريق على مسألة عودة الجيش العراقي أو البيشمركة الكردية إلى سنجار مرة أخرى، وهو ما تحقّق؛ إذ أصبحت “اليابشا” متمثلة بالفوج 80 حشد شعبي، أُوكلت إليه مهمة الانتشار وضبط الأوضاع في سنجار بعد تحريرها.
بعد انضمامها إلى هيئة الحشد الشعبي، أصبحت “اليابشا” قوة قتالية معترف بها من قبل الحكومة العراقية، كما أصبحت لها قيادة ميدانية واضحة، ويقود “اليابشا” مظلوم شنكالي.
تمتلك “اليابشا” قدرات وإمكانات عديدة جعلت منها قوة فاعلة على الخارطة السنجارية، إذ أصبحت تمتلك قدرات عسكرية وتسليحية وأذرعًا إعلامية وسياسية وحاضنة اجتماعية، وقنوات تمويل متعددة وبنية إدارية تمثلها جعلتها متمايزة من حيث التأثير والفاعلية عن الفصائل الإيزيدية الأخرى المتواجدة في سنجار، أبرزها قوة حماية إيزيدخان وفوج لالش والفوج 79، إذ أدّى الارتباط العقائدي والأيديولوجي لـ”اليابشا” بـ”بي كي كي”، والاهتمام الإيراني بها، ودعمها من قبل الفصائل الولائية، إلى جعلها أبرز قوة مسلحة ممثِّلة للإيزيديين في سنجار اليوم.
3- البيشمركة الكردية: كانت البيشمركة الكردية تسيطر على قضاء سنجار قبل السيطرة عليه من قبل تنظيم “داعش”، إلا أنه بعد التحرير لم يعد لها ذلك التأثير على القضاء، حيث تتمركز حاليًّا على الأطراف الشرقية والجنوبية منه، إلى جانب علاقاتها الوثيقة مع قوة حماية سنجار، ورغم سيطرة البيشمركة الكردية على ملف الخدمات في القضاء، عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني بواسطة منصب قائم المقام، إلا أنها لم تتمكن ممارسة دور فاعل داخل القضاء بسبب وجود الإدارة الذاتية التابعة لـ”اليابشا”.
4- الفصائل الولائية التابعة لإيران: أنتجت العلاقة التي جمعت الفصائل الولائية الفاعلة في سنجار مع “اليابشا” حالة من التناغم الأمني بين الطرفَين، وبالشكل الذي انعكس سلبًا على الأوضاع الأمنية في سنجار من جهة، وعلى تركيا وإقليم كردستان العراق من جهة ثانية، كما حاولت إيران بدورها توظيف هذه العلاقة بطريقة تخدم أوراقها السياسية في الداخل العراقي أيضًا، إذ ارتبطت الفصائل الولائية بعلاقة تكتيكية مع “اليابشا” لتحقيق أهداف استراتيجية بأكلاف سياسية أقل، والأكثر من ذلك هي علاقات حكمتها الضرورات الإيرانية في العراق وسوريا على وجه التحديد.
عبر هذه العلاقة وجدت الفصائل الولائية نفسها في مواجهة مباشرة مع تركيا، التي بدأت بدورها بشنّ العديد من العمليات العسكرية في شمال العراق منذ 15 يونيو/ حزيران 2020، وتحديدًا في محيط سنجار وجبال قنديل، لإخراج قوات “بي كي كي” منها، كما تعرّضت مقرّات وقيادات “اليابشا” بدورها للقصف المدفعي والاستهداف بالمسيّرات التركية، إذ دخلت الفصائل الولائية في مسار الصدام هذا، بحكم كون جزء كبير من الوحدات منتظمًا ضمن الفوج 80 حشد شعبي.
5- إيران “الحرس الثوري”: تمكّنت إيران وعبر علاقاتها الوثيقة مع “بي كي كي”، التحول نحو استراتيجية أكثر تخصصية في سنجار في مرحلة ما بعد تحريرها من سيطرة “داعش”، عبر دعم وتهيئة وتنظيم “اليابشا” التي شكّلها الحزب، ولم يتوقف الدور الإيراني على العميد ريبر أزدائي مسؤول ملف “بي كي كي” في فيلق القدس الإيراني، وإنما أشرفت على دعم هذه الوحدات ماديًّا ولوجستيًّا استخبارات الحرس الثوري، التي بدأت بزيارات متكررة إلى سنجار منذ نهاية عام 2016، وذلك عبر التنسيق مع الفصائل الولائية التي تتواجد في القضاء، وأبرزها فصائل أنصار الحجة وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله ومنظمة بدر.
ولم يقتصر دورها على الإشراف على سنجار والفصائل المتواجدة فيها فحسب، وإنما يتمثل دورها أيضًا في تأمين الطريق البرّي الرابط بين سنجار وربيعة باتجاه الحدود السورية، حيث تنتشر قوات “بي كي كي” والفصائل الولائية، وذلك لتأمين عمليات نقل المقاتلين والأسلحة إلى سوريا، فضلًا عن تأمين عمليات تجارة المخدرات والتهريب والتجارة العابرة للحدود، عبر مناطق سنجار والإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، نحو تركيا وأوروبا، وشكّلت هذه العمليات مدخلًا لحصول إيران على ملايين الدولارات، في الوقت الذي تخضع فيه لعقوبات أمريكية مشددة.
6- الوجود التركي: شكّل افتتاح قاعدة زليكان التركية في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، في أطراف جبال ناحية بعشيقة (42 كيلومترًا شمال شرق محافظة نينوى)، أول وجود عسكري تركي صريح في شمال العراق، رغم وجود نقاط عسكرية تركية داخل الأراضي العراقية منذ تسعينيات القرن الماضي غير معلنة، لتشكّل هذه القاعدة نقطة شروع تركيا في تنويع صور وجودها داخل العراق، تحت ذريعة ملاحقة عناصر “بي كي كي”.
وتشير تقارير استخباراتية ميدانية إلى أن هذه القاعدة تضمّ ما يقارب 1500 عنصر تركي، ضباطًا وجنودًا، إلى جانب منظومات للقيادة والسيطرة، ومدارج هبوط طائرات مروحية، والدبابات والعربات المدرّعة وأسلحة ثقيلة، ومنظومة اتصال لوجستي تربط العديد من مناطق الانتشار التركي في شمال العراق عبر قيادة عمليات موحدة، وإلى جانب هذه القاعدة توجد 12 قاعدة عسكرية تركية متعددة المهام في محيط سنجار، وقواعد استخباراتية وأمنية، ونقاط عسكرية ثابتة ومتحركة، فضلًا عن معسكرات للتدريب والدعم اللوجستي.
ورغم التذرُّع التركي بأن الهدف من هذا الوجود والانتشار العسكري في شمال العراق ملاحقة عناصر “بي كي كي”، إلا أن تركيا سعت إلى تحقيق أهداف أخرى تتجاوز الهدف المعلن، سواء على مستوى تأسيس تواجد عسكري دائم في محيط سنجار، أو على مستوى ربط الحدود العراقية بالسورية في إطار ما يعرَف بالمنطقة الآمنة التي تطمح لتحقيقها في شمال العراق وسوريا.
الخارطة توضّح مناطق انتشار معظم القواعد التركية في شمال العراق
المكونات الإثنية والعشائرية
يوجد في سنجار العديد من المكونات الإثنية والعشائرية التي أصبحت جزءًا من حالة التعقيد السياسي والاجتماعي والأمني الذي يشهده القضاء، وذلك بسبب توسع وضيق خارطة التحالفات التي تربطها مع القوى الماسكة على الأرض، إذ إن المكون الإيزيدي وجد نفسه في علاقة تحالف مهمة مع الفصائل الإيزيدية النافذة في المدينة، وأبرزها “اليابشا” ووحدات حماية سنجار وأحرار سنجار، أما المكون الكردي وجزء كبير من العشائر العربية، ومنها عشائر شمر والعبيد وعنزة، فهم في علاقات وثيقة مع قوات البيشمركة الكردية، في حين يرتبط الجزء المتبقي من العشائر العربية والكاكائية والسريان في علاقات تحالف مع حشود الأقليات التي تعمل ضمن هيئة الحشد الشعبي.
هذه التداخلات التحالفية انعكست بدورها سلبًا على الواقع الأمني في المدينة، وذلك بحكم هيمنة طرف على باقي الأطراف الأخرى، والحديث هنا عن الفصائل الإيزيدية التي تعمل بالتنسيق مع “بي كي كي” والفصائل الولائية المسيطرة على القضاء، ما جعل جهود الحكومة العراقية في فرض الأمن والاستقرار بالقضاء صعبًا جدًّا، إذ لا يعدو تواجد الحكومة العراقية سوى أن يكون عددًا محدودًا من نقاط التفتيش، فيما تسيطر الفصائل الإيزيدية و”بي كي كي” والفصائل الولائية على مقدرات القضاء ومعادلات القوة فيه.
المكون العربي المضطهَد
شهد المكون العربي في قضاء سنجار العديد من التحديات الاجتماعية، وتحديدًا في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وكذلك في مرحلة ما بعد تحرير القضاء من سيطرة “داعش” عام 2015، وفي كلتا الحالتين تعرّض المكون العربي لعملية تهميش سياسي وتغيير ديموغرافي، مرة بتهمة العلاقة مع النظام السابق، ومرة بذريعة التعاون مع تنظيم “داعش”، حيث سيطرة قوات البيشمركة الكردية على الكثير من أراضي العرب في القضاء بعد عام 2003، في حين أكملت الفصائل الإيزيدية و”بي كي كي” مسلسل تهجير العرب من القضاء بعد عام 2003، ليتحول المكون العربي في القضاء إلى أقلية لم يعد لها ظهير سياسي يؤمّن حقوقها.
إذ أنتجت هذه التحولات هجرة كبيرة لأبناء المكون العربي من القضاء نحو إقليم كردستان أو إلى قرى ومناطق أخرى داخل محافظة نينوى، ورغم محاولة المكون العربي تغيير هذه المعادلة عبر تشكيل حشود عشائرية للدفاع عن مناطقها، إلا أن التهميش الذي تعانيه هذه الحشود داخل هيئة الحشد الشعبي جعلها محاولة غير ناجعة، حيث يمنَع العديد من أبناء المكون اليوم من العودة إلى سنجار، في حين يتعرض عدد كبير منه للملاحقة القانونية بتهمة الانتماء لتنظيم “داعش” أو التعاون معه.
ثالثًا: التقاطعات الكردية الكردية
شهد قضاء سنجار صراعًا كبيرًا بين الأحزاب الكردية في إقليم كردستان العراق من جهة، وتواجُد “بي كي كي” في سنجار من جهة أخرى، وهو صراع متداخل يتعلق بطبيعة العلاقة مع تركيا، وشرعية تمثيل القضية الكردية من جهة أخرى.
“بي كي كي” والأحزاب الكردية
لم تكن علاقة “بي كي كي” على مسار واحد مع الأحزاب الكردية في الإقليم، فقد شهدت العلاقة بين “بي كي كي” والحزب الديمقراطي الكردستاني فتورًا واضحًا، بسبب علاقته وتعاونه الاستخباراتي والأمني مع أنقرة، ودوره في تحجيم قوة “بي كي كي” عبر دعم العمليات العسكرية التركية ضده، ما دفع الأخير لشنّ العديد من الهجمات على قوات البيشمركة الكردية، كما حاول القيام بالعديد من العمليات داخل الإقليم كردّ فعل على دور الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن ذلك تمكن أمن الإقليم من القبض على جماعة مسلحة تابعة لـ”بي كي كي” كانت تخطط لشنّ هجمات بالصواريخ على قوات البيشمركة، وأحد السدود والأماكن العامة والدوائر الحكومية، في مايو/ أيار 2022.
وفي مقابل ذلك، تعتبَر العلاقة بين “بي كي كي” والاتحاد الوطني الكردستاني وثيقة جدًّا، وذلك بفعل الدور الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى قيام الاتحاد الوطني الكردستاني بتوفير ملاذات آمنة لعناصر “بي كي كي”، وتحديدًا في جبال هاكورك على المثلث العراقي التركي الإيراني، كما قام الاتحاد الوطني الكردستاني بتسهيل نزول عناصر “بي كي كي” إلى مناطق سيطرة الحزب في كركوك وطوز خورماتو وأمرلي وغيرها، ما جعل العلاقة بينهما تحظى بأهمية كبيرة.
أما على مستوى علاقة “بي كي كي” مع باقي الأحزاب الكردية في الإقليم، وتحديدًا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الإسلامي الكردستاني والحزب الثوري الكردستاني، فهي لم تشهد ذلك التفاعل الواضح للعيان، كما لم تنتقد هذه الأحزاب سلوكيات “بي كي كي” في بياناتها الحزبية، مراعاةً لحساسية القضية الكردية.
تأثير سنجار على التفاعل الكردي في العراق وسوريا وتركيا
تمثّل سنجار العمق الجيوسياسي الأقرب بين العراق وسوريا وتركيا، إلى جانب كونها نقطة مركزية لربط أكراد إيران بأكراد العراق وسوريا وتركيا، ويعطي الوضع الحالي في سنجار صورةً عن أهمية هذا العمق، إذ شكّل وجود “بي كي كي” حالة من التلاحم الكردي المسلح، خصوصًا أنها مثلت جسرًا بريًّا لربط قوات سوريا الديمقراطية السورية مع حزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني، عبر حزام جغرافي يمتد من شمال شرق سوريا وجبال قنديل حتى مرتفعات جبال هاكورك على الحدود العراقية الإيرانية.
إلا أنها من جهة أخرى جعلت القضية الكردية تدخل في مرحلة تفكُّك حقيقي، إذ خلق الوجود المتعدد الأهداف للفواعل المسلحة الناشطة في سنجار، المحلية والإقليمية، فجوة أمنية عانت من الخارطة الكردستانية، وأصبح من الصعب تحقيق ترابط جغرافي واضح، أو حتى إعادة إنتاج سيناريو استفتاء استقلال إقليم كردستان.
إذ عزلَ وجود “بي كي كي” في سنجار إقليم كردستان عن سوريا، إلى جانب تهديده المستمر لإمدادت الطاقة القادمة من أربيل إلى تركيا، ومن ثم إن الواقع السنجاري الحالي لعب دورًا كبيرًا في إضعاف التفاعل الكردي الكردي، بشكل مختلف تمامًا عمّا كان عليه الوضع في مرحلة ما قبل عام 2014.
دور البارزاني وصراعه مع “بي كي كي”
حاول زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني الاحتفاظ بسنجار، وجعلها مدخلًا لحسم جميع المناطق الأخرى المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي، والخاصة بالمناطق المتنازع عليها، ورغم محاولته إعادة السيطرة عليها بعد تحريرها من سيطرة تنظيم “داعش” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلا أن إقدامه على خطوة استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق في يوليو/ تموز 2017، ولّد ردة فعل قوية من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد، أثمرت عن إعادة السيطرة على جميع المناطق المتنازع عليها مع إقليم كردستان العراق، وكان من ضمن هذه المناطق سنجار.
هذا الواقع سمح لقوات الحشد الشعبي، فضلًا عن الفصائل الإيزيدية المتحالفة معه، السيطرة على القضاء، وسمحت هذه السيطرة بدورها لـ”بي كي كي” التمركز بالقضاء، وذلك بفعل الضغط الإيراني الممثَّل بفيلق القدس من جهة، والعلاقة الوثيقة التي تجمع الفصائل الولائية و”بي كي كي” من جهة أخرى، بفعل حالة العداء المشترك مع الإقليم، إذ تجدر الإشارة هنا إلى أن الخلاف بين الإقليم و”بي كي كي” يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، بعد أن رفض الإقليم أن يوفر ملاذًا آمنًا لزعيم “بي كي كي” عبد الله أوجلان، الذي اعتقلته الاستخبارات التركية في كينيا عام 1999.
أدّت عملية تمركز قوات “بي كي كي” في سنجار إلى تحييد عملية تواجد البيشمركة الكردية في القضاء، إذ لم تعد قوات البيشمركة الكردية تسيطر إلا على شريط صغير في شمال شرق المدينة، كما أن “بي كي كي” منعت قائم مقام قضاء سنجار السابق، محما خليل، العضو في الحزب الديمقراطي الكردستاني، مزاولة أعماله في القضاء، بل منعته من الدخول إليه.
وفي مقابل ذلك ردَّ البارزاني على خطوات “بي كي كي” بتوثيق تعاونه مع الجانب التركي، وأثمر هذا التعاون عن تنسيق استخباراتي كبير بين الطرفَين، نتج عنه مزيد من العمليات الاستخباراتية الناجحة التي نفّذتها تركيا ضد أهداف عسكرية في سنجار، تعود إلى “بي كي كي” و”اليابشا” المتحالفة معها.
فعلى سبيل المثال، أدّى التنسيق الاستخباراتي بين الإقليم وتركيا إلى الإيقاع بالعديد من قيادات “اليابشا”، إذ تمَّ اغتيال إسماعيل أوزدن أو زكي شنكالي قائد قوات “اليابشا” بواسطة مسيّرة تركية في 15 أغسطس/ آب 2018، بعد يوم من الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، إلى تركيا، ليصبح سعيد حسن قائد “اليابشا”، إلا أنه تمَّ اغتياله أيضًا في 6 أغسطس/ آب 2021 عبر مسيرة تركية استهدفته في مركز سنجار.
وكانت عملية اغتيال سعيد حسن مترافقة مع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى محافظة نينوى، وكان يعتزم زيارة سنجار في اليوم ذاته الذي تمّت فيه تصفية سعيد، إلا أنه تمَّ إلغاء الزيارة، وكانت تركيا تحاول إرسال رسالة واضحة للرئيس الفرنسي عبر عملية الاغتيال هذه، خصوصًا أنها تتهم فرنسا بدعم “بي كي كي”.
رابعًا: موقف بغداد.. ورقة مساومة أم أرض محتلة؟
أنتج عجز الحكومات العراقية عن بسط سلطانها الداخلي على كامل الجغرافيا العراقية حالة خرق واضحة تعاني منها السيادة العراقية باستمرار، وأجبر هذا الواقع الحكومات العراقية التعامل مع سنجار وفق مسار معقّد، فهي من جهة مشمولة بالمادة 140 من الدستور الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، ومن جهة أخرى تشهد صراعًا إقليميًّا واضحًا بين إيران وتركيا، ومن ثم إن تحول سنجار من ورقة مساومة مع الإقليم إلى أرض محتلة تشهد تواجدًا واضحًا لقوة القدس والقوات التركية، يوحي بعدم وجود رؤية عراقية واضحة للتعامل مع سنجار وإنهاء وضعها الأمني المعقّد.
بغداد و”بي كي كي”
تنظر بغداد إلى تواجد “بي كي كي” في سنجار على أنه غير دستوري، إلى جانب عدم جود اعتراف عراقي واضح بوضع “بي كي كي”، فيما إذا كان تنظيمًا إرهابيًّا أم لا، هذا الواقع الشاذ جعل بغداد غير قادرة على حسم الملف، وذلك بسبب ارتباط ذلك بالعلاقة مع إقليم كردستان العراق، ومن ثم تحاول بغداد حسم ملف تواجد “بي كي كي” في سنجار عبر اتفاق تطبيع الأوضاع في سنجار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، إلا أن هذه الجهود ما زالت متعثرة.
إذ أشار الاتفاق إلى ضرورة البدء في إجراءات عملية تتمثل في اختيار قائم مقام جديد للقضاء، وإعادة النظر في المواقع الإدارية الأخرى، وتحديد المسؤولية الأمنية فيه في جهات أمنية محددة كالشرطة المحلية وجهاز المخابرات والأمن الوطني، بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة الأمنية في إقليم كردستان العراق، إلى جانب إبعاد جميع التشكيلات العسكرية والمجموعات المسلحة غير القانونية خارج حدود القضاء، كالحشد الشعبي، وإنهاء تواجد “بي كي كي” في القضاء والمناطق المحيطة له، مع عدم السماح له بالتواجد بأي شكل من الأشكال، ومنع أية أدوار يمكن أن يقوم بها في القضاء مستقبلًا.
إلا أن ذلك لم يؤدِّ حتى الآن إلى أية نتائج عملية على الأرض، حيث إن حكومة بغداد لا تمتلك أي تأثير على تواجد “بي كي كي” في سنجار، كما أن تحول “بي كي كي” إلى ورقة مهمة بيد فيلق القدس والفصائل الولائية منع بغداد من ممارسة أي إجراءات عسكرية على الأرض لإنهاء تواجد “بي كي كي” في سنجار.
ومن ذلك ما حصل في يونيو/ حزيران 2021، حيث عندما حاولت قوات من الفرقة المدرّعة دخول مركز قضاء سنجار، واجهت مقاومة عنيفة من قبل “اليابشا” المتحالفة مع “بي كي كي”، راح على إثرها جندي عراقي والعديد من الجرحى، وهو وضع أوضح حقيقة الضعف الذي تواجهه بغداد إزاء إنهاء المعضلة الأمنية التي يمثلها تواجد “بي كي كي” في سنجار.
بغداد وتركيا و”بي كي كي”
تنظر تركيا إلى أنَّ ضعف تواجد العراق السيادي على طول الشريط الحدودي معها أدّى إلى استمرار العمليات العسكرية التي يشنّها “بي كي كي” في الداخل التركي، الذي أسّس تواجدًا دائمًا داخل مدينة سنجار ومخمور شمال العراق، والذي يرتبط بشريط جغرافي متمثل بتواجد حزب الحياة الحرة الكردي “بيجاك” في الشمال الشرقي على الحدود مع إيران، وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الشمال الشرقي على الحدود مع سوريا، ليشكّل بدوره حزامًا جغرافيًّا معقدًا بعيدًا عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد من جهة، ومصدر تهديد مستمر للأمن القومي التركي من جهة أخرى، فضلًا عن تواجد إيران العسكري غير المباشر على طول هذا الحزام، ما يجعل تركيا بدورها غير قادرة على النفوذ للداخل العراقي مستقبلًا، وتحديدًا مدن الموصل وكركوك التي شكّلت مناطق نفوذ تاريخي واقتصادي لتركيا.
إن الهدف الاستراتيجي الذي تطمح تركيا لتحقيقه في سنجار هو خلق منطقة آمنة بعمق 50 كيلومترًا داخل الأراضي العراقية، تبدأ من منطقة هافتانين الحدودية وحتى معسكر بعشيقة في سهل نينوى الذي تتواجد فيه القوات التركية، ما يجعلها متحكمة بالعديد من الممرات الاستراتيجية التي تربط هذه المنطقة الآمنة بمدن سنجار وقنديل والزاب وأفشين وباسيان، فضلًا عن ربط هذه المنطقة الآمنة بمنطقة هاكروك على الحدود الإيرانية في جنوب شرق تركيا.
والهدف من ذلك كله السيطرة على الشريط الحدودي الشمالي الرابط بين العراق وسوريا، إذ ركّزت العمليات العسكرية التركية المتواصلة في شمال العراق، والتي كان آخرها عملية “قفل المخلب” في منتصف العام الجاري، إلى ضرب الخطوط الخلفية لـ”بي كي كي” في سنجار ومخمور، وقطع الممر الجغرافي الممتد عبر الحدود العراقية السورية باتجاه العمق السوري غربًا والتركي شمالًا.
خامسًا: مشاريع إقليمية
إن القيمة الجيوسياسية التي تمثلها سنجار جعلها تحظى بموقع استراتيجي مهم في إدراك صانعي القرار في تركيا وإيران، بل شغلها لموقع مهم في إعادة تشكيل الجغرافيا الإقليمية، بالإطار الذي يخدم المشاريع الإقليمية للقوى المتصارعة في سنجار.
تركيا: منع اتصال أكراد العراق وسوريا
يشير التوسع الكبير في العمليات العسكرية التركية الراهنة، إلى أن تركيا تطمح إلى خلق بيئة أمنية جديدة بعيدة عن تأثيرات اللاعبين الآخرين فيها، والحديث هنا عن لاعبين محليين (“بي كي كي”) وإقليميين (إيران)، شكّلوا تقييدًا حقيقيًّا في وجه طموح تركيا في الوصول إلى نظام إقليمي جديد تشكّل القاعدة الرئيسية له، ما يجعل مدة استمرار هذه العمليات مرتبطة بطبيعة الأهداف التي ستحققها.
إن الاستحقاقات الجيوسياسية التي تسعى لتحقيقها تركيا في سوريا، تأتي ذاتها في سياق العمليات العسكرية التركية شمال العراق، وهو توجُّه يجد صداه في حالة الفراغ الجيوستراتيجي الذي تعاني منه دول المنطقة، ما دفع العديد من القوى الإقليمية لإعادة هيكلة التوازنات الاستراتيجية في الإطار الذي يخدم طموحاتها السياسية، والحالة التركية ليست بالاستثناء من ذلك، إذ تنظر تركيا إلى الشريط الحدودي الرابط بينها وبين العراق وسوريا، أي مناطق تمركز وانتشار الأكراد، كأحد أبرز تهديدات الأمن القومي التركي.
ومن ثم لا بدَّ من خلق حالة جغرافية جديدة تخدم الدور الإقليمي التركي، بعيدًا عن التركيز على ملفات أمنية داخلية تعرقل من هذا الدور، وهو ما يجد تأكيده في استمرار العمليات العسكرية التركية ضد مواقع “بي كي كي” وحلفائه في شمال العراق وسوريا.
إيران: “طريق السبايا” من كربلاء إلى دمشق
إن الدور الاستراتيجي الذي تمارسه إيران في محافظة نينوى دفع بها إلى إيلاء قضاء سنجار قيمة أمنية كبيرة، وذلك رغبة منها بالإشراف المباشر على التحركات السياسية والعسكرية هناك، فضلًا عن دورها في تحديد خطط انتشار الفصائل الولائية في سنجار وأطرافها لتخفيف وطأة العقوبات الأمريكية عليها، فوضع اليد على الحزام الجغرافي الذي يمتدّ من كربلاء وشمال بغداد وصلاح الدين وفق ما يعرَف بـ”طريق السبايا”، الذي يرتبط مع محافظة نينوى ومن ثم مناطق تلعفر وسنجار والحدود السورية، يعني الهيمنة الكاملة على مجمل الشريط الحدودي الذي يمتد من مدينة كرمنشاه الإيرانية حتى البحر الأبيض المتوسط.
يعتبر هذا استراتيجية إيرانية عملت طهران على تحقيقيها خلال الفترة الماضية، من أجل التحرك بحرّية تامة بعيدًا عن التزاحم التركي، وكذلك التهديدات الأمريكية والإسرائيلية، فمرور أغلب خطوط النقل والمواصلات العسكرية الإيرانية عبر صحراء الأنبار، سواء تلك التي كانت موجودة سابقًا، أو الطرق السرّية التي افتتحتها كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وحركة النجباء، منح سنجار قيمة عُليا في استراتيجية إيران الإقليمية.
يشير الدور الإيراني الحالي في سنجار إلى أن إيران تحولت من تقديم الدعم غير المباشر لـ”بي كي كي” إلى تقديم الدعم المباشر، وتحديدًا على المستوى التنظيمي والتسليحي، فهي تدرك تمامًا أن الضغط التركي ربما سيؤدي بالنهاية إلى انسحاب “بي كي كي” بالكامل من مقتربات سنجار، وبالتالي لا بدَّ من وجود قوة أخرى تعوّل عليها إيران في هذه المنطقة المهمة، والتي ترتبط بأحزمة جغرافية مترامية على طول الحدود مع تركيا وسوريا، كما أنها توفر مدخلًا مهمًّا لترسيخ نفوذها في مناطق الموصل وربيعة وتلعفر، وقيمة أمنية كونها منطقة قريبة من العمق الإسرائيلي.
إذ تشير المعلومات الميدانية إلى أن إيران نجحت خلال الفترة الماضية في إرسال طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية من طراز “ذو الفقار” إلى سنجار، وهو صاروخ بالستي أرض – أرض إيراني الصنع، ونسخة مطورة عن صاروخ فاتح 110، يبلغ مدى هذا الصاروخ أكثر من 700 كيلومتر، ما يجعل لإيران أكثر من سبب في دعم وتمويل “بي كي كي”.
سادسًا: مستقبل سنجار
إن الوضع الجيوسياسي لسنجار جعلها تتقاطع مع العديد من الملفات الداخلية والخارجية، وهو ما جعلها بمثابة عقدة استراتيجية تخشى منها جميع الفواعل الناشطة على الساحة السنجارية، ومستقبل سنجار سيكون خاضعًا بالدرجة الأساس لمعادلة القوة التي ستؤسّسها القوى المهيمنة عليها، ولذلك كل ما يطرَح من حلول مستقبلية حول الوضع في سنجار، سيبقى معلقًا حتى تحسم مسارات الصراع المتشعّبة في القضاء.
تحركات لتغيير الواقع
شهدت سنجار طوال تاريخها عمليات مستمرة لتغيير الواقع فيها، وفي كل مرة تتمّ عملية التغيير وفق إرادة المسيطِر عليها، وهو واقع عاشته سنجار بصورة واضحة منذ عام 2003 وحتى الوقت الحاضر، إذ تهدف جهود “بي كي كي”، بالتعاون مع الفصائل الإيزيدية المتحالفة معه، إلى تغيير واقع القضاء، بل بصورة أدق محاولة إقناع جميع القوى المتصارعة على القضاء بأن الاعتراف بواقع السيطرة على القضاء ينبغي أن يترجم على شكل واقع جغرافي يعترف به الجميع، وذلك عبر تحول سنجار إلى إقليم قائم بحدّ ذاته، إلا أن التحدي الأبرز في هذا السياق هو وجود رفض تركي – كردستاني لمثل هذه الحلول.
إذ إن تركيا ترفض التعاطي بأي شكل من الأشكال مع فكرة تأسيس وضع دائم لـ”بي كي كي” في سنجار، لما قد يشكّله هذا الواقع من إمكانية استنساخ هذه التجربة في شمال سرق سوريا، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المتحالفة مع “بي كي كي”، كما أن إقليم كردستان العراق هو الآخر يحاول بدوره جعل سنجار جزءًا أصيلًا من خارطة الإقليم، وتخضع لسيطرته.
ولعلّ الخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل حول المناطق المتنازع عليها يمنح سنجار أولوية كبيرة لدى كردستان العراق، حيث تدرك حكومة الإقليم أهمية سنجار كونها ممرًّا جغرافيًّا مهمًّا يربطها بسوريا والبحر الأبيض المتوسط، وأن التفريط بها سينعكس عليها سلبًا من الناحية الجيوسياسية، خصوصًا فيما لو نجح الإقليم بالتحول إلى دولة مستقلة في المستقبل.
إذًا، ثمّة مسارات واضحة لتغيير الواقع في سنجار وتشكيل واقع جديد يتنافى مع واقع الجغرافيا العراقية الحالية، حيث إن التحدي الأبرز الذي يواجهه العراق في إطار تطبيع الأوضاع في سنجار، يكمن في غياب الجهود الاستخباراتية والأمنية العراقية على حدوده الشمالية، إذ أدّى ضعف التواجد الحكومي العراقي، بسبب التحديات الأمنية التي أفرزتها مرحلة ما بعد “داعش” من جهة، والخلاف المستمر مع إقليم كردستان العراق من جهة أخرى، إلى اندفاع “بي كي كي” والحرس الثوري والفصائل الولائية لملء الفراغ الحكومي في القضاء، ما جعل مسألة تواجد مجموعات عسكرية في سنجار تحديًا حقيقيًّا يواجهه العراق، ليس فقط في تحجيم قدرة العراق على إيقاف التدخلات التركية، وإنما بطبيعة الأدوار والنشاطات التي تمارسها، والتي تهدد الأمن الوطني العراقي، أبرزها تجارة المخدرات وعمليات التهريب العابرة للحدود، وذلك عبر تأثيرها على العديد من المعابر الحدودية العراقية مع سوريا.
استشراف: 3 سيناريوهات
يمكن القول إن واقع سنجار الحالي، بما يحتويه من تفاعلات ومتغيرات وفواعل، جعل القضاء يقف أمام 3 سيناريوهات رئيسية، هي:
السيناريو الأول: استمرار حالة الصراع؛ يفترض هذا السيناريو المرجّح استمرار حالة الصراع في سنجار، إذ يشير الصراع التركي الإيراني المستمر، إلى جانب تشابك أدوار البيشمركة الكردية و”بي كي كي” والفصائل الولائية في القضاء، فضلًا عن حالة الخلاف المستمر بين بغداد وأربيل حول وضع القضاء، وضعف التفاعل الدولي مع عملية إيجاد حلول عملية تنهي التعقيد الأمني في القضاء؛ إلى تحقق هذه السيناريو.
السيناريو الثاني: استمرار واقع السيطرة على سنجار؛ يفترض هذا السيناريو المحتمل استمرار واقع السيطرة في سنجار، والمتمثل بسيطرة “بي كي كي” والفصائل المتحالفة معها عليه، إذ إنه رغم استمرار العمليات العسكرية التركية لإنهاء تواجد “بي كي كي” وحلفائه في سنجار، إلى جانب اتفاق تطبيع الأوضاع في سنجار بين بغداد وأربيل، إلا أنها لم تحقق شيئًا جديدًا في هذا السياق، إذ ما زال الواقع كما هو، والمرتبط بطريقة أو أخرى بفاعلية الدور الإيراني، وهي متغيرات تشير بصورة واضحة إلى احتمالية كبيرة لتحقق هذا السيناريو.
السيناريو الثالث: حلّ الأوضاع في سنجار؛ يفترض هذا السيناريو المستبعَد إمكانية حل الأوضاع في سنجار، إذ يبدو أن هناك مؤشرات مهمة في هذا السياق، حيث يشير الانشغال الإيراني والتركي بمعالجة الأزمات الداخلية الراهنة، إلى جانب محاولات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة من قبل الإطار التنسيقي الشيعي، وإمكانية تقديم تنازلات للإقليم بإعادة سنجار لسيطرة البيشمركة الكردية كشرط للحصول على دعم كردي لجهود تشكيل الحكومة من قبل الإطار، فضلًا عن دور فرنسي فاعل في هذا السياق؛ كلها مؤشرات قد تدعم تحقق هذا السيناريو على المدى الطويل.
بالمحصلة، يواجه إقليم سنجار تحديات كبيرة اليوم، وعلى صعد مختلفة، سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية، هذه التحديات المترافقة مع غياب الدولة العراقية ستجعل من القضاء بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، إذ لا توجد هناك حدود فاصلة بين القوى الفاعلة في القضاء، كما أن وقوع القضاء على مقربة من الحدود السورية سيجعله أيضًا خاضعًا لتهديدات تنظيم “داعش” الذي ما زال ناشطًا على الحدود العراقية السورية.