يتحرك الإنسان داخل المكان بنسق يخلق طبقات من الإيهام، يغذي لدى المرء شعورًا آمنًا بالحرية، يخيل له أن حركته داخل المكان مضمونة ومرهونة بإرادته، بيد أن هذا ليس صحيحًا حتى لو بشكل نظري.
فالإنسان يمضي وراء المقادير مسلوب الإرادة، يحوّل وجهه عن طريق، ويعطي ظهره لآخر، يقوده المصير نحو المجهول والمبهم، لا يوجد شيء مؤكّد سوى قدرة المرء على حفظ الذكريات أينما ارتحل، يحمل أقفاصًا من الصور والأصوات واللمسات، تختلس الماضي وتجمد الزمن، عملية معقّدة من الخلق والتخزين والاستدعاء، مثل مركبة مشحونة بأكوام من الصناديق العشوائية، تتخفف من حمولتها فور الوصول للأكشاك ومحلات الجملة.
فيما لا يمكن للإنسان التحرر من بضاعة الماضي، لا توجد أكشاك لبيع الذكريات ولا محلات للتجارة بفائض الحنين، لذا يجد المرء نفسه في مواجهة الصور، خصوصًا إذا تماسّ المكان المادي مع الذكريات الأولى، ليحدث ما يشبه التوحد بين خطَّين متوازيَين من الصور، الأولى تنبع من تكثيف المكان للذكريات في هيئة أمواج جارفة لأي أصوات أجنبية، والأخرى أشبه بموازاة تلك الذكريات بأخرى جديدة، إلحاح بالغ يحثّ الفرد على إعادة خلق ماضيه حتى لو بنمط شكلاني مختلف، ولكنه يحافظ على المضمون بإضفاء لمعة جديدة للماضي، أي أنه لا يودّ إنتاج ذكريات جديدة بقدر ما يتوق لاستحضار القديم.
تقوم سردية فيلم “نوستالجيا” للمخرج الإيطالي ماريو مارتون على التداعيات، مؤالفة ذكريات الماضي مع واقع اللحظة الراهنة، خلق مساحة هدنة بين رغبات البطل فيلشى لاسكو (بييرفرانشيسكو فافينو) وذكرياته التي لا تمسّه فقط، بل تخلُّ بمنظومة الحي الصغير الذي يمكث به، ما يخلق عقدة قائمة على وجود الذكريات ذاتها كمحرك للشخصيات في أفعالها، يتجاوز أثرها التخيلات أو الصور الذهنية، تبعث الحياة في وقائع قديمة دفنت طيّ الزمان، لتردّها إلى الحياة، تمنحها الحيوية الكافية لتصبح مصدر قلق لأطراف عديدة، وتراكم طبقات من الخوف بعد 40 عامًا من الركود.
يعود فيلشى لإيطاليا بعد 40 عامًا من السفر، ليطمئنَّ على أمه ويتفقد أحوال مدينته الأم نابولي، فجوة زمنية هائلة من اللفّ والدوران في البلدان، من لبنان إلى جنوب أفريقيا حتى استقر في القاهرة وتزوّج هناك، كان يظن أن زيارته لمدينته ستكون بمثابة إلقاء السلام ثم العودة إلى حيث كان، حضور سطحي، فالوقت يمحي الخطوط القديمة ويحفر خطوطًا أخرى على الوجوه.
ودَّ لو اختلس نظرة عن كثب لكل ما هو قديم وطفولي في الآن ذاته، فداهمته عاصفة الذكريات، سيل من الصور لا يتوقف، أصوات يسمعها مجددًا بعد 4 عقود، مواقف يستحضرها بعد أن أكلها الزمن، بعد كل هذه الغربة لم يعرف فيلشى كيف يراوغ الذكريات، كيف يقف أمام تيار الماضي، لقد حاول بالفعل مواجهة أريَح، بيد أنه مع مرور الوقت وكثافة الصور فضّل الارتخاء، الاستسلام للرؤية الضبابية والوقوف على حافة الماضي كأنه الطفل ذاته في الـ 15 من عمره.
يبدأ الفيلم تدريجيًّا بخلق حالة من الدفء، يستأجر فيلشى شقة جديدة لوالدته، يمنحها الحب، يحاول تعويضها عن الوحدة والانعزال قبل وفاتها، موت الأم حرّك مشاعر الحنين داخل قلب فيلشي، ففقدان أمّ واحدة يكفي لحشو العالم بالحزن لسنوات، ولكنه على الجانب الآخر انفتح على علاقة أخرى أكثر شمولًا، علاقة أمومة بين الفرد والمكان الذي نشأ فيه.
فالمكان يربّي الإنسان مثلما تربّيه والدته، وعلى النقيض لم تظهر الكاميرا حزنًا عميقًا من فيلشى على والدته، لم نرَ حزنًا حقيقيًّا إلا يوم الجنازة وفي مكالمة هاتفية أخرى، لم تتمدد أذرع الحزن إلى حياته المستقبلية، لم يلاحقه شعور بالندم والخذلان، ربما خلّفت الغربة شيئًا ما في نفسه، جفّفته أكثر من اللازم، عزلته عن طبيعة الشعب الإيطالي العاطفية، بعدها يمارس فيلشى حياته بشكل طبيعي في المدينة، يفكّر جديًّا بالمكوث، وحينها تلحّ عليه المكاشفة، فالذكريات المكوَّمة تستجلب مواقف بعينها، مواقف تورّط الفرد في تناقض أخلاقي، تسقطه في شباك تأنيب الضمير.
يتعقّد الأمر عندما يتذكر فيلشى صديقه القديم أوريستو سباسيانو (توماسو راغنو)، يقابل بعدها القسيس بادري (فرانشيسكو دي ليفا) ويخبره بما يعتمل في صدره، وينصحه الأخير بالابتعاد عن سباسيانو، وحينها يدرك فيلشى أن الأقدار حملت كل واحد منهما إلى سلوك طريق مختلف، أحدهم أصبح رجلًا يحترمه الناس، والآخر تحول إلى مسخ يهابه الخلق.
شعر فيلشى بالعار بينه وبين نفسه، الخذلان، أحسَّ من طرفه بالخيانة، لأن صديقه تحول إلى النقيض، خصوصًا أن علاقتهما ليست ثانوية، كانا بمثابة الإخوة، وبناءً على ذلك يسعى فيلشى لمقابلة صديقه القديم، كمحاولة للوفاء بعقد صُوري، ومعاينة صورة قديمة استبدلتها الأيام بصورة مغايرة، وحوّلت نغمة الصداقة إلى إنذار بالخيانة، واستحالة العلاقة المسبوكة بعناية من ضحكات الطفولة وعرق المراهقة مجرد نذير شؤم يحمل في داخله مصيرًا مجهولًا، ينذر بالخطر.
لا يظهر سباسيانو سوى في 3 أو 4 لقطات داخل الفيلم، يهمّش مارتون دوره داخل السردية، لا يمنحه الكاميرا إلا في مشهد واحد تقريبًا، ومشهد المكاشفة بين الصديقَين، ورغم ذلك تتبدّى كاريزما سباسيانو على الشاشة بسهولة، رجل رياضي، ملامحه قاسية، لا يتحدث كثيرًا، يعتبَر ذلك المشهد واحدًا من أهم مشاهد الفيلم، يكتسب قيمته من ضرورة منح السردية مبررات، أسبابًا للحب والكراهية، دوافع للأفعال المرتكبة.
ينبش المخرج في عمق الماضي، ويستحضر تاريخًا، ولكنه لا يكفي لخلق سردية جيدة، فنحن مطاردون بهواجس البطل فيلشى فقط، مرتبطون به، لا يوجد خط سردي موازٍ، ولم يؤسِّس المخرج شخصيات أخرى يمكن أن تحمل الفيلم وترفع من نسقه، فنحن نشاهد امتدادًا لشخصية فيلشى في المكان والزمان، نرتبط بماضيه وذكرياته وحاضره، لكننا لا نتوحّد معه، هناك شيء ناقص، نوع يشبه الابتزاز العاطفي للمشاهد، فكل اللقطات والصور داخل الفيلم تدفع المشاهد بشكل ما نحو عاطفة بعينها، عاطفة الحنين والافتقاد.
ربما لعب المخرج على هذه النقطة، مشاركة المتفرجين نفس الهواجس والاضطرابات التي تحدث داخل حيواتهم، بيد أنه يهمل جوانب الفيلم الأخرى، افتقار السردية للاشتباك مع جوانب أخرى وشخصيات أخرى يضعف من موقف الفيلم الحكائي، فحكاية الرجل الذي يشعر بالحنين ويطارد بالصور جيدة ولكنها من المفترض أن تكون جزءًا من كلية كاملة، ذراعًا في جسد، وهو ما حاول المخرج فعله من خلال توظيف جزئية النوستالجيا داخل سردية أكبر تمسّ الحي والبلدة كلها، إنما ظلت في النهاية محاولة على استحياء، ولولا النهاية الجيدة وغير النمطية لسقط الفيلم في فخّ السينما السائدة والقصة المسطحة.
رُشّح فيلم “نوستالجيا” لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي، بالإضافة إلى العديد من المهرجانات الدولية الأخرى، من إخراج ماريو مارتون، مقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب إرمانو ريا، وهو ممثل إيطاليا في جوائز الأوسكار.
يعتبر الفيلم تجربة مميزة داخل الحيز السردي الذاتي، ولكنه يفتقد لعدة أشياء على مستوى الهيكلة والتأسيس، فالشخصيات تظهر وتخبو بسرعة كبيرة، مثل شخصية الأمّ التي ظهرت ثم ماتت ولم يكن لها تأثير كبير على القصة ولا على الشخصية.