أيها القارئ العربي إن كتب لك المرور على هذه الورقة فاعلم أن كاتبها خجل مما فيها لأنه يصف حال بلده الذي يحمله الآن كعار شخصي، فقد انتقل من حالة الفرح المغرور بدخول بلده في حالة ديمقراطية وحريات مطلقة إلى حالة من الانطواء والتخفي من عار الانقلاب خاصة من عار سكوت الناس عوامهم ونخبهم على هذا العار الجماعي، ما سر هذا الصمت أمام ندرة مواد الإعاشة الضرورية وندرة الوقود وتفاهة خطابات المنقلب وسخف رأيه كلما ظهر على الناس؟
هل علينا أن نبكي على الأطلال؟
ربما يتذكر الأجداد الذين عاشوا تحت الاحتلال الفرنسي حالات من الندرة، لكن جيل الاستقلال لا ينكر أنه لم يترد إلى هذا الحضيض، فقد كانت كل المواد متوافرة بحيث لم يذهب أحد إلى السوق بلهفة الجائع الخائف على خبزة يوم الغد، كانت هناك دومًا أزمات نتجت عن سنوات جفاف أو حروب خارجية وصل تأثيرها إلى تونس، لكن أن تعجز الدولة عن تزويد السوق بشكل منتظم بالمواد الأساسية وبوقود السيارات فهذه يعيشها جيلي الستيني لأول مرة.
لقد كانت نضالات التوانسة متجهة إلى طلب الحريات وتقليص هيمنة السلطة على الحياة العامة والخاصة، لذلك كانت مطالبهم سياسية، فلم ينشغلوا بحالة اقتصادية مماثلة لما يعيشون اليوم. هل علينا أن نبكي على الأنظمة التي كانت توفر لنا معيشتنا بلا عناء حتى إننا انشغلنا بطلب رفاه الحريات السياسية، يبدو أن هناك من يدفعنا إلى ندم عميق على ما فرحنا به من حريات وما تخيلناه من مجد ديمقراطي كأننا نتعرض إلى عقاب على حلم كبير حلمناه.
هل نستحضر نظرية المؤامرة؟
إنها تمنح البائس فرجًا من ضيق، نقرأ اللحظة من منظور تآمري هناك في مكان من عمل على ألا يتمتع “العربي الكلب” بأي لحظة حرية وعليه أن ينزل إلى درك الحيوان الملهوف كل يوم على تأمين غذائه بالحد الأدنى، فحياة التونسي اليوم تشبه خروج إنسان الغابة كل صباح للصيد، ونرى الإنسان المصري والسوري واليمني يسلكون كل صباح سلوكًا مماثلًا، تأمين عشاء الليلة “لفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر”.
هل بقي في مجالات اهتمام الإنسان العربي أن يخرج إلى الشارع بشعار “الشعب يريد تحرير فلسطين”؟! ألسنا نعاقب من جهة ما على رفع هذا الشعار من المحيط إلى الخليج؟ ألسنا نعاقب في تونس على تصويتنا المكثف لشعار “التطبيع خيانة عظمى” ذلك الشعار الذي جعل غزة تحتفل بانتصار صاحبه كما لو أنه يقود الجيوش لتحريرها؟
لكن إذا كانت نظرية المؤامرة تريحنا نفسيًا (في وضع الضحية طبعًا) لماذا سكتنا ونسكت عما يجري؟ ما سبب حالة البلاهة المتفشية بين الناس؟ فالجميع يشكو ويلعن ثم يصمت ويخنس كالدجاجة رأت عُقَابًا.
هل علينا أن نتفهم ونعذر حالة الذهول التي نراها على الوجوه قبل صدور ردود فعل عما يجري للبلد؟ لا أرى ذلك، فقد يكون البعض ذاهلًا وعاجزًا عن رد الفعل الواعي بما جري، لكن لن نتردد في تسمية الاستئصاليين بأسمائهم، إننا نسمع في الإذاعات والتلفازات بما فيها التلفزة العمومة التي ندفع كلفة برامجها من حر مالنا من لا يزال يردد بوقاحة منقطعة النظير يجب الإبقاء على الانقلاب ودعمه وهو يخرب كل شيء لأن هذا التخريب سيقضي على التيار الديني.
إن عبارة (المهم النهضة لا) عبارة يرددها كثيرون بوعي كامل بمشروع سياسي استئصالي، فلا تهمهم كلفته على البلد ما دام قد يحقق لهم غاية سعوا فيها منذ زمن طويل وفشلوا حتى اللحظة لكنهم لا يتراجعون ولو كان ثمن ذلك البلد والشعب الذاهل منه والواعي أو المحايد.
هؤلاء الاستئصاليون يدمرون البلد
قد تكون هناك جهة ما تعاقبنا، فيطيب لنا وضع الضحية أو موقف البطل القومي الشهيد الحي لكن التخريب الداخلي هو الذي دمر التجربة فعلًا ومنذ بدايتها ويدمر البلد ويغلق طرق المستقبل في وجه أبناء البلد الذين يغرقون الآن في المتوسط أفواجًا.
كتبنا كثيرًا عن تحولهم فجأة من ألد أعداء قيس سعيد إلى حزامه السياسي بمجرد أن تبين لهم أنه ليس وسيلة للنهضة للحكم، وقد دفعوه بكل قوة إلى أن يخوض حرب الاستئصال، لكنه فشل ولم يجد وسيلة رغم تملكه كل آلة القمع وآلة الإعلام، فتولى الاستئصاليون العمل من ورائه يؤلفون الملفات للقضاء ويختلقون القضايا من الفراغ ليخوضوا حربهم بآلة الدولة كما فعلوا زمن بن علي، وحتى اللحظة يفشلون وربما يعطون عدوهم وسائل قوة لم يتوقعوها، لكن حرصهم على استدامة هذه المعركة لم يعد يؤذي النهضة وحزامها بل يؤذي البلد.
إن عملهم الدؤوب على منع تشكل معارضة موحدة ضد الانقلاب يعطي نفسًا وحياةً للانقلاب ليستمر في تدمير المؤسسات والعبث بالقوانين، ونتابع الكثير منهم يترشح لانتخابات مسخرة في شهر 12 ليوفروا للانقلاب غطاءً سياسيًا ووهم شرعية لما فعل وليتمكن من تبرير بقائه أمام جهات خارجية تتعلل بغياب المؤسسات.
إن سعيهم لـ”توفير” برلمان منتخب هو تشريع لبقاء الوضع الانقلابي ليمكن لهم العبث بكل القوانين واستعمال أجهزة الدولة بلا رقيب في معركتهم.
فوجود هذا البرلمان مهما كان القانون الذي اتبع في انتخابه سيمنح المانحين شرعية دعم الانقلاب ماليًا بما يسمح له بالحكم دون أزمات ظرفية مثل شح الوقود، وفي بقائه فرصة سانحة لمواصلة حرب الاستئصال لأنه يمنح غطاءً جيدًا لهذه المعركة التي دفع الإسلاميون فيها إلى موقع المعارضة وعسرت عليهم مناورة الخروج.
ستصير كل معارضة جريمة وكل معارض مدان ويعود استئصاليو بن علي وراء قيس سعيد هذه المرة لما أتقنوا عمله دومًا تدمير الإسلاميين ولو بثمن من تدمير البلد فقد اعتادوا فعل ذلك بلا وجع ضمير.
على المعارضة غير الاستئصالية أن تفتك المبادرة
الخطاب الاستئصالي يحفر حفرة دعائية ويدفع إليها كل من لا يماشيه في حربه، فإذا لم تماشيه فأنت مع النهضة ووجب محقك معها، وهو ما نسمعه ونراه في كل وسائل إعلام الاستئصال، موجهًا ضد الذين قبلوا العمل السياسي المعارض مع النهضة أو بجوارها دون المشاركة في الاستئصال السياسي.
هنا وجب التميّز للوصول إلى فتح مخرج سياسي للديمقراطية وللبلد وللإسلاميين ولكل واع بضرورة التعايش السلمي داخل وعاء وطني ديمقراطي غير استئصالي بالضرورة.
ننتظر مظاهرة يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ لنراقب الحجم ونوعية المشاركة ونسمع الخطاب، فإذا وجدنا اختلافًا عما انتهت إليه تحركات المعارضة في أول الصائفة وظهرت في المشهد وجوهًا ديمقراطيةً، فسنبث رسائل التفاؤل، أما إذا كان المشهد كما عهدناه: متكلمون كثر فوق رؤوس جمهور النهضة، فإن على الإسلاميين أن يبادروا لاستباق ذبحهم كما حصل لهم زمن بن علي.
لقد نصحنا لهم مناورة جذرية بالذوبان في السكان والانشغال بكسب القوة المادية، فأخذوا الأمر على محمل الهزل ولم يبق لهم إلا مواجهة شجاعة، فعدوهم لن يمنحهم فرصة التنفس ولن يكون للنبل الذي حكموا به أول ما انتخبهم الناس أي مكان في واقع سياسي توضع قوانينه في الحانات القذرة.
المعارضة الشجاعة التي تستهدف قوى الاستئصال قبل الانقلاب ستعيد البلد إلى المسار الديمقراطي وستعيد لنا وجوهنا التي نكتبها دون خجل من تاريخنا ومن بلدنا.