تُحرك الجزائر دبلوماسيتها في أكثر من اتجاه بعد سنوات من العزلة والانطواء، وقد كان للملف الليبي نصيب مهم، فبعد الانكفاء على الذات والتحركات المخجلة تجاه هذا الملف، أصبحت الجزائر قبلة المسؤولين الليبيين بهدف المساهمة في إيجاد حل لأزمة بلادهم المتواصلة منذ سنوات، لكن لسائل أن يسأل ما الذي يمكن أن تقدمه الجزائر لليبيا؟
تتوالى الزيارات الليبية لجارتها الغربية
عرفت الأشهر الأخيرة توالي زيارات المسؤولين الليبيين للجزائر، آخرها زيارة رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الذي كان في استقباله بمطار الجزائر الدولي رئيس الحكومة الجزائرية أيمن بن عبد الرحمن.
وفي أبريل/نيسان الماضي، استقبل تبون رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة الذي كان مرفوقًا بوفد أمني رفيع على رأسه قائد أركان الجيش الليبي محمد الحداد، بعد أسابيع قليلة من تعيين البرلمان المنعقد في طبرق وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيسًا للحكومة بدعم من اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يكن عداءً كبيرًا للجزائر.
وقبلها بأيام قليلة، استقبل الرئيس الجزائري ووزير خارجيته رمطان لعمامرة، على نحو منفصل وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش، في الوقت الذي اشتد فيه الصراع على الشرعية بين حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها عبد الحميد الدبيبة وبرلمان عقيلة صالح.
يأمل العديد من الليبيين في إجراء انتخابات، علّهم ينتخبون شخصًا يضع حدًا للفوضى والاقتتال في البلاد والممارسات القديمة
في الأثناء، كثفت الجزائر استعمال دبلوماسيتها خارجيًا لإيجاد الدعم الكامل لموقفها من الأزمة الليبية بغية حل الأزمة، فتواصلها يؤثر سلبًا على الجزائر خاصة من ناحية الاستقرار الأمني، فالحدود الجنوبية غير مؤمنة للآن لعدم تعاون حفتر الماسك بزمام الأمور هناك مع السلطات الجزائرية.
ويعتبر الملف الليبي أحد الملفات الخارجية التي تشكل أولوية لنظام عبد المجيد تبون بالنظر إلى الحدود الطويلة بين الجزائر وليبيا وكثرة المتدخلين الأجانب في هذا الملف، وإمكانية تأثير ذلك على أمن البلاد.
ورغم ذلك لم تُفعل الدبلوماسية الجزائرية بالشكل الكافي لمساعدة الليبيين للخروج من مرحلة عدم الاستقرار، خاصة أنها تمتلك تجربة عملية في علاج “الاحتراب الداخلي”، الذي عانت منه خلال فترة ما يسمى العشرية السوداء (1992-2000)، وفي فترات سابقة من تاريخها بعد الاستقلال (1962) مشابهة لما يحدث الآن في ليبيا.
موقف الجزائر من الأزمة الليبية
لسنوات كانت الجزائر بعيدة عمّا يحصل في ليبيا، حيث كان تركيز النظام على مشاكل البلاد الداخلية، خاصة مع مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وتنامي الاحتقان الاجتماعي في البلاد، فضلًا عن الانهيار الاقتصادي بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية.
لكن مع وصول تبون إلى سدة حكم قصر المرادية تغير الوضع، إذ سرعان ما كشف عن توجهه نحو إعادة الجزائر إلى مكانتها الطبيعية التي بقيت فارغة لفترة طويلة، حتى لا تستغل بعض القوى العربية والإقليمية هذا الشغور أكثر.
هذا التحول ظهر جليًا حين قال تبون في حوار صحفي: “طرابلس خطّ أحمر”، ردًا على إقدام اللواء المتقاعد خليفة حفتر على قيادة عملية عسكرية لاحتلال العاصمة الليبية وفرض نظامه على البلاد بقوة السلاح رغم المعارضة الداخلية والخارجية لذلك.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يقول إن بلاده مع حل يعود إلى الشعب الليبي، الذي يختار ويعطي الشرعية لمن يمثله عبر العالم من خلال الصندوق.#ليبيا ??#الجزائر ?? pic.twitter.com/Imw8BHxc20
— ﮼سامي ﮼قاسمي sami kasmi (@SamyKasmiSKY) October 12, 2022
مع الوقت تبلور موقف الجزائر من الأزمة الليبية وفُهم أكثر، فالنظام الجزائري يتمسك بالشرعية الدولية، لذلك دعم في البداية حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج في صراعها ضد حفتر، والآن يدعم حكومة الدبيبة في صراعها مع عقيلة صالح وباشاغا.
تتمسك الجزائر الآن بالاعتراف بحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة ودعم تنظيم انتخابات تشريعية في أقرب الآجال، فقد أكد تبون ذلك في أكثر من مرة آخرها يوم أمس في لقائه من المنفي حين قال: “كل الدول الصديقة والشقيقة في أوروبا وخارجها أيقنت أن الحل الوحيد يمر حتمًا عبر الانتخابات ووفق ما يقرره الليبيون أنفسهم ودون تدخل من أي طرف”.
وأضاف “الحل الليبي يكون الوحيد الكفيل بتحقيق الاستقرار والرخاء والازدهار في ليبيا، المتمثل في الرجوع إلى الشعب الليبي لكي يختار من أراد ويعطي الشرعية لمن يمثله عبر العالم من خلال الصندوق”، وهو نفس الطرح الذي تتبناه حكومة الدبيبة.
لا ترى الجزائر إمكانية لاستبدال حكومة الدبيبة دون الذهاب إلى انتخابات، وهو ما يعارض توجه الماسكين بزمام الأمور في الشرق، فقد سبق لهم أن عينوا حكومة باشاغا بديلة لحكومة الدبيبة لكنها لم تحظ بدعم إلا من مصر وروسيا.
وكان من المفترض أن تجرى العملية الانتخابية في ليبيا نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى نتيجة العراقيل القانونية التي وضعها برلمان صالح، فضلًا عن عدم خروج المرتزقة من البلاد.
تمتلك الجزائر العديد من الأوراق المهمة بين يديها، التي يمكن استغلالها لإيجاد حل سريع للأزمة الليبية
يأمل العديد من الليبيين في إجراء انتخابات، تمهيدًا لتشكيل حكومة تضع حدًا للفوضى والاقتتال في البلاد والممارسات القديمة، فهم يأملون في رؤية بلادهم دولة ديمقراطية تحكمها المؤسسات والقانون لا الميليشيات والأسلحة، فأي تأخير في إرساء مؤسسات ديمقراطية منتخَبة تستمد شرعيتها من الشعب، سيؤدي إلى تأزيم الوضع أكثر ويفتح الأبواب لحرب أهلية مرتقبة.
ما الذي يمكن أن تقدمه الجزائر؟
السؤال المطروح الآن: ما الذي ستقدمه الجزائر بعد عودتها للملف الليبي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال من المهم التأكيد أن الجزائر تعتبر لاعبًا مهمًا في توازنات منطقة المغرب العربي والشمال الإفريقي، منذ القدم وليس الآن فقط.
هذا الأمر يخول للجزائر التحرك بأريحية وإمكانية أن يكون مفتاح حل الأزمة الليبية عندها، ذلك أنها تمتلك علاقات كبيرة مع العديد من الأطراف الماسكة بزمام الأمور في ليبيا، وقد ساعدتها الاستخبارات في ذلك، وهي خبيرة في هذا الأمر.
يمكن أن تستثمر الجزائر تحسن علاقاتها مع فرنسا – التي عُرفت بدعمها لحفتر وعرقلة جهود السلام في السنوات الماضية – لدفعها إلى تغيير موقفها مما يحصل في ليبيا وترك دعم الجهات التي لا تحبذ الانتخابات، مع ضمان مصالحها هناك.
فرنسا لا تكترث بالأشخاص بقدر اكتراثها بمصالحها، فهي تدعم من ترى فيه أهل لحماية نفوذها وتدعيم مصالحها، وإن ضمنت لها الجزائر ذلك في المشهد السياسي الذي يمكن أن تفرزه الانتخابات القادمة، يمكن أن تغير باريس موقفها مما يحصل في ليبيا.
كما يمكن لقصر المرادية أن يستغل علاقاته القوية مع تركيا التي تمسك بزمام الأمور في غرب ليبيا منذ تدخلها قبل نحو سنتين لدعم جهود حكومة فائز السراج للتصدي لعدوان حفتر ضد العاصمة طرابلس، وقد لاحظنا في الأشهر الأخيرة توافق وجهات النظر بين أنقرة والجزائر في العديد من المسائل من ذلك الملف الليبي، فكلتاهما تدعم الشرعية الأممية.
هذا الأمر، يمكن أن يكون دافعًا قويًا للجزائر لمواصلة جهود السلام في ليبيا، فدعم تركيا لها في هذا الصدد مهم جدًا، ويمنحها أريحية كبرى وهامشًا أكبر للتحرك في ليبيا، فأنقرة من أبرز المتدخلين في هذا الملف ودعمها مهم.
ليس هذا فحسب، فللجزائر إمكانية استغلال الصداقة المتقدمة بينها وبين موسكو لحل الأزمة الليبية، فروسيا أحد أبرز المتدخلين في هذا الملف ولها مكان ونفوذ كبير في الشرق الليبي وهي المتحكم الأبرز هناك ويمكن للجزائر أن تستغل ذلك.
بغض النظر انه صبي المخابرات المصرية .
نبي نعرف باي صفة يزور عباس كامل حفتر ؟
واين حكومتنا المزعومة و المنبطحة سواء #دبيبة و اخرى لو نفترض جدلًا انها حكومة باشاغا من طرفهم ( مخابرات المصرية )
الي متى تنتهك حكومة مصر سيدتنا ؟
ومتى يكون الرد ؟
وليش الخوف هذا ؟#طرد_السفير_المصري
— مُنــــِــيــر ???? (@Albraamuneer) October 12, 2022
معروف عن الجزائر أنها حليف قوي لروسيا، فهي من أكبر مستوردي السلاح الروسي، كما أنها تتفق معها في العديد من الملفات بإفريقيا وسوريا، ولها أن تتفق معها في ليبيا أيضًا بهدف حل الأزمة هناك.
تمتلك الجزائر العديد من الأوراق المهمة بين يديها، التي يمكن استغلالها لإيجاد حل سريع للأزمة الليبية، لكن هناك نقطة وجب أخذها بعين الاعتبار، وهي الموقف المصري من التحرك الجزائري وعودة قصر المرادية للمشهد الليبي.
ففي الوقت الذي كان المنفي في ضيافة تبون، كان حفتر في لقاء مع رئيس المخابرات العامة المصري اللواء عباس كامل في زيارة معلنة لمدينة بنغازي، وهي المرة الثانية التي يُعلن فيها عن زيارة عباس كامل لليبيا، فمن العادة أن يزور كامل شرق ليبيا دون أن يتم الإعلان عن ذلك.
تزامن هذه الزيارة مع وجود المنفي في الجزائر ليس من باب الصدفة، فهي رسالة لقصر المرادية، مفادها أن مصر حاضرة بقوة في المشهد الليبي ولا يمكن أن يكون هناك حل لهذا الملف دون الرجوع إليها، خاصة أن الجزائر لا ترى التنسيق مع مصر في هذا الخصوص.
نفهم من هنا أن الموقف المصري مما يحصل في ليبيا ودعمها الكبير لحفتر يمكن أن يكون عقبة كبيرة أمام الجهود الجزائرية لحل الأزمة الليبية، فمصر لم تنس إلى الآن وقوف الجزائر إلى جانب إثيوبيا في أزمة سد النهضة ووقوفها أيضًا إلى جانب تركيا في أزمتها مع مصر.