ترجمة وتحرير: نون بوست
في أواخر الثمانينيات؛ عندما وصل طارق معروفي إلى بروكسل لدراسة الصحافة، وجد المكان مربكًا، حيث كانت المدينة في حالة من الفوضى المنظمة، وكان لديها 19 بلدية والعديد من رؤساء البلديات وقوات الدرك التي تعود إلى العصر النابليوني. بالنسبة لأولئك الذين نشأوا هناك، كان الأمر مفهومًا، حيث سارت الأمور بشكل جيد بطريقة ما. ولكن بالنسبة لرجال مثل معروفي، كان الأمر مربكًا، نظرا للبيئة التي نشأ فيها في شمال غرب تونس في بلدة غار الدماء؛ حيث كان معتادا على وتيرة حياة أبطأ ونوع المجتمع الذي يكون فيه الجميع جيرانًا أو أصدقاء.
وفي بروكسل؛ فعل معروفي ما يفعله معظم الشباب في ظروف مماثلة؛ تمسك بما يعرفه، أو ما أعتقد أنه يعرفه. وغالبا ما يوجد الأمان في أماكن مألوفة، حتى وإن تم تخيل هذه الألفة، وهو ما انجذب إليه معروفي في مناطق مثل مولينبيك، وهي بلدة تبعد ثلاثة أميال عن وسط المدينة، مليئة بالمشاهد والأصوات التي تذكره بالمنزل، وتحتوي شوارعها الجانبية على متاجر يتحدث فيها الباعة المتجولون بلهجة شمال إفريقيا العربية.
وإذا ما أراد، كان لا يحتاج سوى إلى السير في أحد أحياء مولينبيك لالتقاط رائحة النقانق الحارة، أو سماع جزاري اللحوم الحلال وهم يقطعون اللحم. وقد كانت رؤية كبار السن يجلسون في المقاهي يشربون الشاي بالنعناع ويتجادلون حول لعبة ورق أو طاولة زهر مصدرًا للراحة.
وصل معروفي إلى بلجيكا في وقت بالغ الأهمية للعالم الإسلامي؛ فبينما نجح في الاستقرار في حياته الجديدة؛ استمرت التغييرات – التي بدا بعضها إيجابيًّا – على قدم وساق؛ حيث سقط جدار برلين في سنة 1989، تزامنًا مع طرد المجاهدين الأفغان للسوفييت من بلادهم. وقد قاوم الانفصاليون الشيشان الهجوم الوحشي للجيش الروسي على غروزني، ولكن كانت هناك انتكاسات أيضا؛ فقد غزت الولايات المتحدة العراق سنة 1991؛ وفي الجزائر، تم تضييق الخناق العسكري على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وهي حزب إسلامي فاز في انتخابات ديمقراطية، كما شهدت البوسنة عمليات اغتصاب وإبادة جماعية في سنة 1993.
وقد انعكست هذه الأحداث في مجتمعات الشتات في مدن عالمية مثل لندن وباريس وميلانو وبروكسل؛ حيث بدأ المهاجرون الوافدون حديثًا في طرح أفكار حول كيفية إعادة ضبط العالم الإسلامي سياسيًّا. وفي حين انجذب البعض نحو الحركات اليسارية الفلسطينية، انجذب البعض الآخر نحو ظهور موجة جديدة من الإسلام السياسي، وقد شاهد معروفي النظام القديم وهو ينهار أمام عينيه.
في كثير من الأحيان؛ يشير وجود المنفيين العرب في بعض أعظم مدن أوروبا إلى أن هذه الأحداث المعقدة قد تم تأطيرها بلغة الغضب والاغتراب التي توحي بأن حكومات الغرب والشرق لا تريد أن ترى عالمًا إسلاميًّا – لا يزال يعاني من آثار الاستعمار – وهو ينتفض ويتحدى سلطتهم. وفي هذه الأجواء؛ كان من السهل على الشباب الغاضب، البعيدين عن أوطان أجدادهم، أن يصبحوا متطرفين، وهو ما تشهد به مذكرات عدد لا يحصى من الجهاديين والجواسيس السابقين.
وكانت السلفية الجهادية، التي مزجت الهوية والمعتقد والتقاليد العسكرية والعمل، من جملة التيارات السياسية الذي استحوذت على خيالهم؛ وهي الإجابة التي كان ينتظرها معروفي منذ مغادرته تونس، وباعتباره واحدا من أوائل المتحولين بين جيله إلى هذا التفسير المتطرف للإسلام، فقد كان سيترك من ورائه إرثًا من الخراب الذي يمكن تحسسه إلى حد اليوم، وربما لم يدرك مئات البلجيكيين الذين توافدوا على الشرق الأوسط للانضمام إلى تنظيم الدولة في سوريا منذ سنة 2011 فصاعدًا، أن حياة معروفي تنبأت بحياتهم؛ فقد كان معلمهم ومرشدهم غير الرسمي.
تزامن تطرف معروفي مع تجربة سياسية كانت تجري في أوروبا؛ فلم يكن المنفيون العرب يتحدثون فقط عن الحاجة إلى الثورات في الشرق الأوسط، بل كانوا يحاولون بنشاط إثارتها، بعد أن نجوا في كثير من الأحيان من اضطهاد الأنظمة الاستبدادية التي أرادوا الإطاحة بها.
وفي شمال غرب لندن؛ يقوم اثنان من الموجودين في المنفى، أبو قتادة – فلسطيني الجنسية الأردنية -، وأبو مصعب السوري – سوري -، بالتحرير في مجلة الأنصار الصادرة باللغة العربية، والتي انتقدت المجلس العسكري الجزائري وحلفاءه الفرنسيين، ونشرا تهاني العيد لزعيم القاعدة المستقبلي أيمن الظواهري، وقد أصبح كل هؤلاء الرجال – الذين لم تعتبر الحكومة البريطانية أيًّا منهم خطيرًا في ذلك الوقت – مشهورين الآن. وبالمثل؛ قدمت بروكسل أرضًا خصبة للجهاديين الطموحين؛ حيث كان لحزب المجاهدين الأفغان “حزب الإسلام” مكاتب لجمع التبرعات والدعاية، وقد كان الحزب أكثر فصائل المجاهدين السبعة السنية تشددًا في الحرب ضد السوفييت.
وعلى الرغم من تركيز مصالحه على أفغانستان، إلا أن وجهة نظره العالمية كانت تجذب معروفي، وقد حارب أعضاؤه في أذربيجان، وكان زعيمه قلب الدين حكمتيار مؤيدًا صريحًا للقضايا الجهادية الدولية. كما يذكر معروفي في مقابلة تلفزيونية مثيرة للجدل في تونس سنة 2016، أن حياته قد تغيرت إلى الأبد عندما حضر مؤتمرًا صحفيًّا للحزب في بروكسل، فحتى ذلك الحين؛ كان يكافح من أجل الاستقرار في مدينته الجديدة، ولكن في ذلك الحدث العادي، وجد موطنًا للجهاد وسرعان ما تبنى القضية على الرغم من معرفته المحدودة بشأن تعقيدات الإسلام. و بحلول سنة 1995؛ كان يكتب لنفس مجلة “الأنصار” مثل أبو قتادة، ويُزعم أنه أصبح قائدًا لخلية من الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر (GIA)، والتي كانت أساليبها وأفكارها نموذجًا أوليًّا مبكرًا للعنف الذي سيأتي ليتم إطلاقه من قبل تنظيم الدولة.
في عمله كصحفي في “الأنصار”، تواصل معروفي أيضا مع كاتب آخر للمجلة، وهو رشيد رمدة، الذي أُدين لاحقا بتورطه في تفجيرات بمترو باريس سنة 1995، مما أسفر عن مقتل ثمانية أشخاص وإصابة العشرات. معروفي الذي كان في يوم من الأيام صبيا في بلدة صغيرة، نظم الآن محاضرات وأقام معارض وجمع التبرعات وكتب جدالات ليس لمجلة “الأنصار” فحسب، بل لمجلة الحزب الإسلامي، سد الجهاد. كما شارك في مجلة “جماعة الجهاد المصرية” التي كانت مسؤولة عن اغتيال الرئيس أنور السادات سنة 1981. ولكن لطالما كان من الصعب تمييز الخط الفاصل بين الجهاد والإجرام. وفي حين رأى العديد من علماء الدين الجهاديين أن أوروبا قد وقعت تحت التسمية القانونية “دار الحرب”، مما لا يجعلها محصنة من أي هجوم، رأى آخرون أنها نقطة انطلاق لنضالات أكثر أهمية في أماكن أخرى من العالم.
بالنسبة لمعروفي؛ كانت بروكسل تقاطعًا مثاليًّا للثقافات، أو ما أسماه “رمز أوروبا”؛ حيث يمكنه نشر رسائله بالفرنسية والفلمنكية والألمانية، والاختلاط بسلاسة العالم السفلي الإجرامي، والمشاركة في قضايا شائنة تتنكر في صورة الجهاد. وفي النهاية؛ كان المال لغة عالمية، ولم يكن معروفي الإسلامي الوحيد الذي وجد ذلك مناسبًا؛ ففي وقت من الأوقات، قدم فريق من لصوص الخزائن الصربية جوازات سفر مسروقة لأحمد رسام، وهو جزائري أُدين في الولايات المتحدة سنة 2001 بالتخطيط لتفجير مطار لوس أنجلوس الدولي، ولم يهتموا بكونه جهاديًّا مسلمًا يقاتل رفاقه إلى جانب خصومهم في حرب البوسنة، بل كان المال هو الأهم.
وقام الصرب بتزوير جوازات السفر في ورش عمل وباعوها في جميع أنحاء أوروبا لأي شخص يريدها، مقابل حوالي 700 دولار إلى 2300 دولار. وقد كان النظام متطورًا لدرجة أنه تم القبض على منسق أحمد رسام، وهو جزائري معروف باسم أبو الدوحة، وبحوزته جوازات سفر بلجيكية وإسبانية وفرنسية وسلوفاكية، بالإضافة إلى معدات تغليف، عندما داهمت سكوتلاند يارد منزله في سنة 2001، وقد أتقن أبو الدوحة التلاعب بالهويات جيدًا لدرجة أن المدعين العامين الأمريكيين لم يتمكنوا من تحديد اسمه الحقيقي على وجه اليقين عندما وجهوا إليه الاتهام في وقت لاحق.
وفقًا لوثائق المحكمة البلجيكية التي تعود إلى سنة 2015؛ يعتقد الزركاني أن “الله أرسله إلى بلجيكا لأداء مهمة خاصة”
ازدهر معروفي في هذه المنطقة الرمادية من الجهاد والإجرام، إلى أن لم يحالفه الحظ؛ ففي سنة 1995، قُبض عليه لدوره في تفجيرات مترو باريس المميتة في نفس السنة، وعلى الرغم من الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، إلا أن التزامه بالجهاد لم يتأثر. وبمرور الوقت؛ تجاوز وصوله بروكسل وعبر أوروبا إلى إيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة في لندن، وكان قد جند بالفعل زميلًا تونسيًّا من بنزرت، وهو سيف الله بن حسين، الذي كان طالبًا مخلصًا لأبي قتادة.
وفي حزيران/ يونيو 2001؛ اجتمع الاثنان مرة أخرى في جلال أباد، شرق أفغانستان، وشكلا الجماعة التونسية المقاتلة، وهي منظمة شقيقة للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، كما التقوا بقادة القاعدة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وعندما أعلنوا الحرب على الدولة التونسية لفشلها في الحكم وفقًا لتفسيرهم للشريعة الإسلامية، كانوا أخيرا يضعون كل ما تعلموه في بروكسل ولندن موضع التنفيذ، ولكن أهم ما قاموا به هو الخطة التي وضعوها لاغتيال القائد العسكري لتحالف الشمال الأفغاني أحمد شاه مسعود.
كانت حكومة طالبان في ذلك الوقت قد فرضت سيطرتها على معظم أفغانستان، وكان مسعود العقبة الوحيدة المتبقية بينها وبين النصر التام، وقتله سيكون هدية معروفي لنظامهم نيابة عن القاعدة. القتلة الذين سينفذون الهجوم هم التونسيان، دحمان عبد الستار وبراوي العوير، وقد تنكرا كصحفييْن يسعيان لإجراء مقابلة مع مسعود، وحصلا على رسالة تمهيدية من ناشط إسلامي آخر في لندن، وهو ياسر السري، وقد سمح لهما ذلك بالوصول إلى قائد التحالف الشمالي في تخار، وهي منطقة نائية في شمال شرق أفغانستان، وبعد إقناعه بالجلوس لإجراء مقابلة تلفزيونية؛ حيث قتلاه بقنبلة مخبأة في الكاميرا في 9 سبتمبر/ أيلول 2001، قبل يومين من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.
وكان معروفي من بين 23 رجلا اتُّهموا بارتكاب أنشطة إرهابية مختلفة في أعقاب اغتيال مسعود، وحكمت عليه محكمة بلجيكية سنة 2003، بالسجن ست سنوات، بتهمة تزويد القتلة بجوازات السفر المزورة التي يحتاجونها، وأُدين – إلى جانب رجال انضموا لاحقًا إلى تنظيم الدولة في سوريا. أما بن حسين الذي أسس معه الجماعة التونسية المقاتلة، فقد اعتقل في تركيا سنة 2003 وسُلّم إلى تونس؛ حيث حُكم عليه بالسجن المشدد ليُطلق سراحه بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في يناير/ كانون الثاني 2011. وقد واصل بن حسين لعب دور بارز في تأسيس أنصار الشريعة، وهي جماعة سلفية جهادية متطرفة في تونس ما بعد الربيع العربي.
وفي وقت لاحق؛ ربطته تقارير صحفية بهجوم سنة 2012 على مجمع دبلوماسي أمريكي في بنغازي، ليبيا، والذي أسفر عن مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز. كما ربطت تقارير إخبارية بين بن حسين وهجوم سنة 2015 في مدينة سوسة التونسية؛ حيث قتل مطلق النار 38 شخصًا على الأقل على أحد الشواطئ، معظمهم من السياح البريطانيين.
ما بدأ قبل 11 سبتمبر/ أيلول استمر بعدها؛ ففي حين تم سجن العديد من هذا الجيل الأول من الجهاديين السلفيين، لم يكن بالإمكان احتواء إرثهم، فقد كان الرجال المسلمون الآخرون المحرومون الذين تركوهم وراءهم بالفعل تحت تأثيرهم. وكان من بينهم خالد الزركاني، الذي تولى قيادة الجهاد عندما اندلع الربيع العربي في عام 2011.
وفي السنوات اللاحقة، لم يكن أحد يعرف تمامًا ما يجب فعله بشأن الزركاني، فبالنسبة لأجهزة الأمن البلجيكية، كان “أفغانيًّا عربيًا”، وهو المصطلح العام المبسط للجهاديين المتأثرين بانتصار المجاهدين على السوفييت، وبالنسبة لبعض منتقديه اللاذعين، كان مهرجًا ولصًّا يعيش على الصدقات، أما بالنسبة للأمهات اللواتي أرسل أبناءهن للانضمام إلى تنظيم الدولة؛ كان أنانيًّا وشريرًا.
ومع ذلك؛ فقد كان كريمًا ومرحًا وجذابًا بالنسبة لمحبيه. ووفقًا لوثائق المحكمة البلجيكية التي تعود إلى سنة 2015؛ يعتقد الزركاني أن الله أرسله إلى بلجيكا لأداء مهمة خاصة”. ولا يختلف الزركاني عن معروفي؛ فقد تجول في أزقة وشوارع مولينبيك ليصطاد رجالًا ضائعين ومشوشين لتجنيدهم، ونشر رسالته عن وحدانية الله الممزوجة بالحديث عن البنادق والمجد.
كان الزركاني متكتمًا وساحرًا، وأذكى من أعدائه. وإدراكًا منه لخطر الاعتقال، استخدم تقنيات مراقبة مضادة متطورة، فلم يرسل رسائل نصية قط، استخدم هواتف متعددة مسجلة بأسماء مختلفة وتحدث باستعمال الرموز
يوجد عدد قليل جدًا من صور الزركاني، تلك التي تظهر رجلاً في منتصف العمر وقذرًا بعلامة صلاة باهتة على جبينه. ولد سنة 1973 في بلدة زناتة الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي شمال مدينة الدار البيضاء المترامية الأطراف، وبسبب الفيضانات والجفاف، كانت فرص العمل المحلية قليلة للشباب مثله. وقد يفسر غموض المدينة سبب عدم معرفة الكثير عن أنشطته خلال السنوات الـ 29 الأولى من حياته، ولماذا قرر في النهاية شق طريقه إلى أوروبا، وقد قضى الزركاني بعض الوقت في إسبانيا وهولندا، وانخرط في وقت ما في التهريب والجرائم الصغيرة، تمامًا كما قد يفعل أي شخص يحاول تغطية نفقاته.
ثم وجد الله في منتصف التسعينيات وذهب إلى أفغانستان. ومن غير الواضح بالضبط المدة التي قضاها هناك وما الذي فعله بالضبط، ولكن عندما عاد إلى أوروبا، أصبح جزءًا من شبكة المتطرفين الإسلاميين التي تم تأسيسها بالفعل في بروكسل. وكان من بين رفاقه فاطمة أبركان، التي أصبحت مجندة بارزة بين الجهاديين الدوليين في سوريا؛ حيث قاتل ثلاثة من أبنائها في مجموعات مختلفة، بما في ذلك جبهة النصرة والدولة الإسلامية.
لم يكن الاتصال بين الزركاني وأبركان ممكنًا إلا بسبب وجود حركة إسلامية سرية أقامها معروفي وآخرون، وربما كان هذا التقاطع بين جيل من الجهاديين والجيل الذي يليه أكثر وضوحًا في الصداقة بين أبركان وامرأة أخرى، وهي مليكة العرود، البلجيكية من أصل مغربي؛ حيث كان زوج العرود الأول، عبد الستار، أحد القتلة الذين قتلوا قائد التحالف الشمالي الأفغاني أحمد شاه مسعود. ومنذ ذلك الحين؛ قضت مليكة سنوات متورطة في نزاعات قانونية تتعلق بعلاقاتها بالتطرف الإسلامي، ويُعتقد أن المحاولات البلجيكية لترحيلها إلى المغرب لا تزال مستمرة.
إن وجود هؤلاء الجهاديين في وسط مدينة بروكسل لا يعني أن مولينبيك كانت خلية للتطرف أو منطقة محظورة على غير المسلمين، كما أنها لم تكن خاضعة لتقسيم الأحياء، مثل الضواحي في فرنسا. كانت مولينبيك (ولا تزال) في قلب بروكسل، وهي مكانٌ نابض بالحياة؛ حيث تتخلل رائحة الطعام الشمال أفريقي أسواق الشوارع ويتسم الناس بالدفء والود، ومع ذلك؛ فقد كانت أيضًا موطنًا للفقر وعدم المساواة، وهو ما مكن الجهاديين من استغلالها. وقد اختلفت الأحياء الأفقر التي يسكنها المولينبيك القادمون من شمال إفريقيا، عن المناطق الأكثر ثراءً التي يعيش فيها نظرائهم البيض، وهو تمييز تجسده اللقب الذي يطلق على الجانب الأبيض من المدينة، “مولينبلون”.
لطالما كان الجهاديون أقلية صغيرة، لكن نفوذهم تجاوز أعدادهم. كما أخبرتني سارة تورين، كبيرة مستشاري مولينبيك، في فبراير/ شباط 2017، أن مجموعات من الشباب غالبًا ما يسافرون إلى سوريا من بلدات صغيرة في بلجيكا أو فرنسا بسبب مجند واحد عاش بينهم وعرف كيف يستغل نقاط ضعفهم. وفي حالة مولينبيك، كان ذلك الشخص زركاني، والذي باع للشباب أحلامًا كاذبة وكان حريصًا في طريقة نشر رسالته، ولهذا السبب لم يركز على شيوخ الجامع الرئيسي الخليل في شارع ديلونوي، والذي كان يغلق بعد كل صلاة، ولم يكن هناك سوى القليل من الوقت أو المساحة للاسترخاء والتحدث عن أي شيء آخر غير الكتب المقدسة التقليدية في أقوال النبي محمد “صلى الله عليه وسلم”.
بدلاً من ذلك، كان مسجد الزركاني المفضل يقع في شارع لاكولون وكان يُعرف محليًا باسم “المسجد الأفريقي” نظرًا لشعبيته بين المغتربين السنغاليين والماليين. ولا يوجد ما يشير إلى أن إمام المسجد أو إدارييه شجعوا الزركاني أو عرفوا ما كان يفعله، لكنه أثبت أنه المكان المثالي لتجنيد أتباعه، فقد كان صغيرًا ومريحًا مع باب غالبًا ما يُترك مفتوحًا للترحيب بأي شخص يحتاج إلى ملاذ أو راحة، كما أنه كان بعيدًا عن أعين المتطفلين؛ حيث يمكن للزركاني أن يعقد التجمعات، ويجذب الشباب بعيدًا عن وعود العالم الخارجي المسكرة بالكحول والمخدرات والجنس.
وحتى لو لاحظ موظفو المسجد الزركاني شيئًا؛ فلم يكن لديهم سبب للاشتباه في أنه مثير للمشاكل، فقد كان متكتمًا وساحرًا، وأذكى من أعدائه. وإدراكًا منه لخطر الاعتقال، استخدم تقنيات مراقبة مضادة متطورة، فلم يرسل رسائل نصية قط، استخدم هواتف متعددة مسجلة بأسماء مختلفة وتحدث باستعمال الرموز. وتساعد هذه المهارة الرائعة، التي اكتسبها من أيام التهريب أو خلال فترة وجوده في أفغانستان، في تفسير سبب قلة الصور له في المجال العام.
على غرار العديد من الشبان الآخرين الذين تحدثت معهم كصحفي، لم يدرس ماين حتى أساسيات العبادة اليومية وإنما تعمق مباشرة في المبادئ الإسلامية
أحد أسباب عدم معرفتنا بأي شيء على الإطلاق عن الزركاني هو حواء كيتا، والدة يوني ماين، أحد مجنديه؛ حيث ولد ماين في باماكو في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1990 لأم من مالي وأب بلجيكي، ونشأ في أندرلخت، بروكسل، وانفصل والداه خلال سنوات مراهقته، لكن لا يبدو أن هذا قد أثر عليه بشكل سلبي، فعندما قابلت والدته في مقهى في بروكسل سنة 2017، أخبرتني أنه متأقلم جيدًا ومثل أي مراهق آخر، وترك ماين المدرسة في وقت مبكر بمؤهلات قليلة وبدأ عمله الخاص في مولينبيك.
كان وسيمًا ومحبوبًا، وقد أقام صداقات في الحي وكان يرتاد المساجد المحلية بانتظام للصلاة. ومع ذلك، انتهى الأمر بماين أيضًا في سوريا سنة 2013؛ حيث ذبح أصدقاؤه القرويين المحليين الذين كانوا يؤمنون بالديمقراطية، وظهرت لقطات فيديو له وهو يسحب جثث الموتى من مؤخرة شاحنة صغيرة. كيف حدث هذا؟ ربما حجب الحب الأبوي الجانب المظلم لماين.
في بلجيكا؛ دخل ماين في مواجهات مع القانون لضلوعه في جرائم صغيرة، وربما شعر بالذنب تجاه تلك الخطايا وكان يحاول ملء فراغ داخلي عندما وجد الدين؛ حيث تُظهر ملاحظاته الخاصة وكتاباته مدى اهتمامه بالإسلام، لكنها أوضحت أيضًا أنه لم يكن يدرس من الكتب التقليدية، فقد كانت النصوص التي درسها مع الزركاني من إنتاج “أنصار الحق”، وهو منتدى جهادي على شبكة الإنترنت ودار نشر أثنت على بن لادن، وتضمنت السير الذاتية لزعيم القاعدة بالإضافة إلى خطب لرجل الدين الجهادي الأمريكي اليمني أنور العولقي وكتابه “44 طريقة لدعم الجهاد”.
على غرار العديد من الشبان الآخرين الذين تحدثت معهم كصحفي، لم يدرس ماين حتى أساسيات العبادة اليومية وإنما تعمق مباشرة في المبادئ الإسلامية – وهي المادة الخام التي تتكون منها أسس الفقه الإسلامي. بوجود مصادر غنية ومعقدة للغاية تعود إلى أكثر من 1400 سنة وجد مشقة في فهم محتواها وحده دون أن يساعده أحد في تمييز أو حتى وضع سياق لهذه الأحاديث النبوية أو الآيات القرآنية التي كانت أحيانًا متوافقة، وأحيانًا متناقضة وأحيانًا أخرى مربكة.
تعد اللغة العربية معقدة حتى بالنسبة للعرب. لم يستطع زركاني، وهو أمازيغي من بني زناتة يملك أوراق اعتماد علمية غير معروفة، مساعدة ماين وربما لم يرغب في ذلك. ومع ذلك، تمسّك ماين – وهو غير عربي – بهذه الأحاديث وحاول فهمها بنفسه. بعض الملاحظات التي دونها بخط يده تشير إلى الجهاد: “كل جماعة دينية لها مبادئها وتقوم مبادئ مجموعتي على القتال في سبيل الله”. عندما أصبح ماين أكثر تشددًا، لقّب نفسه بأبي دجانة. من غير الواضح متى فعل ذلك على وجه التحديد، لكنه يشير إلى أنه أراد محاكاة الرفيق المحارب لنبي الله محمد الذي يحمل نفس الاسم والذي اشتهر بعمامته الحمراء وصفاته العسكرية.
بعد تشبعه ببعض الأحاديث، تجادل ماين مع والدته ورأى أن من مسؤوليته أن يدرسها، وأن يعيدها إلى طريق الحق والفضيلة. في المجتمعات التقليدية، كان الأمر متروكًا للشباب لمتابعة شيوخهم، ولكن هذا الوضع انقلب؛ أي أن الشباب باتوا يدرسون كبار السن. عندما زرت والدة ماين في بروكسل في سنة 2017، عرضت علي كتابًا يخص ماين. كان بشكل مفاجئ كتابًا مهمًا لملايين المسلمين الشيعة بعنوان “نهج البلاغة”، وهو كتاب يعود للقرون الوسطى يحتوي على خطب وأقوال الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم محمد وصهره، وهو ليس كتابًا يحظى بإعجاب السلفيين الجهاديين عادةً. يثير الكتاب تساؤلات حول ما إذا كان ماين وزركاني قد فهموا حتى تقاليد حركتهم الخاصة، التي تنظر إلى الشيعة على أنهم زنادقة أو غير مسلمين.
في الماضي، تعاملت الدولة البلجيكية بقسوة مع أي من مواطنيها الذين يقاتلون في الخارج، وهو ما أشار إليه جورج أورويل في كتابه “تحية لكاتالونيا” عن الحرب الأهلية الإسبانية
عندما اُلقي القبض على الزركاني أخيرًا في شباط/ فبراير 2014، كان بحوزته أكثر من 20 عملة مختلفة، بالإضافة إلى شيكات المسافرين وجوازات السفر و24 جهازًا إلكترونيًا، معظمها كاميرات. كشف جهاز الحاسوب الخاص به عن مجموعة من الأدبيات المتطرفة، مثل “ستة عشر قطعة لا غنى عنها قبل الذهاب إلى سوريا”. يمكن القول إن الزركاني لم يكن يريد إثراء نفسه. لقد كان مبشرا علمانيًا متجولًا ينشر رسالته في كل مكان.
سافر أتباعه إلى سوريا أو الصومال، أحيانًا كانوا لايدركون تمامًا العواقب المحتملة لأفعالهم. لكن الزركاني لم يفعل شيئا من هذا ليتزود بالمعلومات الضرورية. بالنسبة لهذا الرجل، كانت هناك طرق أسهل لكسب المال. لماذا إذن اختار القيام بمثل هذه المهام الخطيرة، تلك التي أسفرت عن سجنه في سان جيل في بروكسل والحكم عليه بالسجن لمدة 15 عامًا بتهمة تجنيد الشباب للانضمام إلى تنظيم الدولة وإدارة شبكة إجرامية؟ كان الزركاني بمثابة بطرس الناسك للعصر الحديث. كان يتحدث عن سوريا ويغرس في الشباب مثل ماين إحساسًا بالرجولة والفروسية ومن يجب أن يكونوا بدلاً من التمسك بهويتهم. لهذا السبب، صرح المدعي العام برنارد ميشيل، في استئنافه للحكم في شباط/ فبراير 2016 بأن الزركاني أفسد جيلًا كاملاً من الشباب في مولينبيك.
عندما تعلق الأمر بالحرب في سوريا، بدا أن رسالة الزركاني هي أن الشباب المسلم عليهم تعويض إحجام الغرب عن مواجهة الرئيس بشار الأسد، الديكتاتور الوحشي. مع عقيدتهم الأسمى والأكثر نقاءً، كان يعتقد أن أتباعه يمكن أن يساعدوا على تأجيج ثورة إسلامية، ونقل معرفتهم للآخرين والقتال إلى جانب السوريين. لقد كان متعجرفًا ومضللًا بشكل كبير. توجه البلجيكيون الذين كانوا على هامش مجتمعهم ولهم القليل من التعليم الديني أو دون تعليم ديني، إلى أرض سوريا القديمة حيث ازدهرت ثلاث ديانات إبراهيمية وتعلموا أصول هذا الدين الجديد ناهيك عن أنهم دنسوا شواهد القبور المملوكية لأسلافهم.
بحلول 29 نيسان/ أبريل 2013، كان ماين قد غادر إلى سوريا حيث انضم إما إلى الفصائل الجهادية مثل كتيبة المهاجرين أو كتيبة البتار. اتصل ماين بوالدته من رقم هاتف خلوي تركي، ودعاها للهجرة إلى سوريا أين يطبّق الدين الحقيقي، لكنها أبلغت الشرطة على الفور وتوسلت إليه أن يعود إلى الوطن.
عاد ماين إلى بلجيكا بعد ثلاثة أشهر مرتديا الجلابة (لباس طويل بغطاء للرأس) ويعتمد المظهر الذي يحب الجهاديون الظهور به على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يرفع أرجل بنطاله فوق كاحليه ويلبس عمامته بعناية بطريقة يقدرها زملاؤه المقاتلون. حين وصوله، استجوبته الشرطة البلجيكية بينما كان يتباهى بهجمات مستقبلية على الغرب، لكن ماين لم يكن يمثّل تهديدا للأمن القومي لبلجيكا، لذلك سمحوا له بالرحيل ومواصلة السفر.
ربما كان ذلك بسبب عدم الكفاءة المطلق من جانب السلطات البلجيكية، أو أنهم ببساطة وقعوا في شرك التقاليد القديمة التي أعطت بلدياتهم المحلية سلطة هائلة وجعلت من الصعب عليهم التصرف بفعالية في انسجام تام، أو ربما شعروا بأنهم مجبرون على الالتزام بالمبدأ الليبرالي لحرية الحركة للمواطنين البلجيكيين. في الماضي، تعاملت الدولة البلجيكية بقسوة مع أي من مواطنيها الذين يقاتلون في الخارج، وهو ما أشار إليه جورج أورويل في كتابه “تحية لكاتالونيا” عن الحرب الأهلية الإسبانية، حيث كان المواطنون البلجيكيون الذين كانوا يقاتلون في إسبانيا في ذلك الوقت يجازفون بسحب جنسيتهم منهم والتعرّض للسجن لفترات طويلة عند عودتهم إلى بلادهم، لكن ماين لم يكن يعاني من مثل هذه المشاكل.
بدا أن معروفي، التونسي الذي وصل لأول مرة إلى بلجيكا في أواخر الثمانينيات، قد تاب، إذ تم تجريده من جنسيته البلجيكية وترحيله إلى تونس، وأعاد تقديم نفسه على أنه مناضل وشاعر، وندّد بالهجمات الإرهابية من قبل المتطرفين الشباب
في 20 كانون الثاني/ يناير 2014، سافر ماين إلى الشرق الأوسط مع صديقه عبد الحميد أباعود وانضم مرة أخرى إلى كتيبة البتار للمرة الأخيرة. بعد ثلاثة أشهر، جاءت الشرطة أمام منزل حواء قائلين إن لديهم أخبارًا جيدة وأخبارًا سيئة. تمثّل الخبر السار في أنهم قبضوا على الرجل الذي أرسل ابنها إلى سوريا، فأضاء وجهها فرحا عند سماعها لهذا الخبر، ثم تحطّمت بعد أن تلقّت الأخبار السيئة حول موت ماين، علما بأنها كانت تتعاون مع الشرطة طوال الوقت.
لم تدرك السلطات البلجيكية إلا الآن الثمن الذي ستدفعه مقابل تسامحها تجاه هؤلاء المتطرفين. وفي حين أن أفكار السلفيين الجهاديين لم تسفر عن أي معارك في شوارع بروكسل أو لندن، فقد سُمح للأيديولوجيين والمنفيين بنسج معتقداتهم في المجتمعات المحلية، مما أدى إلى ظهور منظمات سياسية تعهدت بتحويل أقوالهم إلى أفعال. وفي النهاية، تحول هذا إلى شيء خطير وعنيف: وهو الجهاد العابر للحدود. ونتيجة لذلك، انتهى الأمر بمعاناة الجميع.
رغم شعورها بأن الشرطة قد خذلتها، كانت حواء تعلم أن اللوم في وفاة ابنها يقع على الزركاني وتعهدت بتقديمه إلى العدالة، فأعلمت الشرطة بجميع الأماكن التي كان ماين يتردد عليها، وسردت لهم جميع المحادثات التي سمعتها والمواد الإسلامية التي وجدتها في غرفته. أصبحت حواء واحدة من الشهود الرئيسيين في محاكمة الزركاني، مما جعلها في خطر كبير. وفي المحكمة، طعنت حواء في ادعاء الزركاني بأنه من دعاة السلام ورفضت إنكاره لأنه يعرف ابنها، وأدت جهودها إلى الحكم عليه بالسجن 15 عامًا، لكن إرثه استمر بغض النظر عن ذلك.
عاد صديق ماين، أباعود، إلى بلجيكا مع بعض مجندي الزركاني الآخرين وارتكب هجمات إرهابية مدمرة في باريس وبروكسل ما بين 2015 و2016. وفي الوقت نفسه، بدا أن معروفي، التونسي الذي وصل لأول مرة إلى بلجيكا في أواخر الثمانينيات، قد تاب، إذ تم تجريده من جنسيته البلجيكية وترحيله إلى تونس، وأعاد تقديم نفسه على أنه مناضل وشاعر، وندّد بالهجمات الإرهابية من قبل المتطرفين الشباب، لكنه لم يعد قادرًا على السيطرة على الكيان الذي ساعد في إنشائه. في المقابل، لم يستمع أصدقاء معروفي إليه، حيث ورد أن بن حسين، الذي التقى بن لادن رفقته ذات مرة في أفغانستان، كان يدير معسكرات تدريب جهاديين في صبراتة في ليبيا، عندما قُتل في غارة أمريكية بطائرة مسيّرة في سنة 2015.
لقد أصبح الجهاد الآن يقود مساره الخاص به في الحياة.
المصدر: نيولاينز