في التاريخ المشترَك للفرس والعرب على ضفتَي الخليج، ظلت الديانات والعقائد الفارسية المتعاقبة أقل تمثيلية وجاذبية بالنسبة إلى العرب، لم تفلح الزرادشتية ولا المجوسية ولا المزدكية من قبل ذلك، ولا المانوية أيضًا (أيام البابليين)، في اجتذاب العرب البدو إلى الأديان الفارسية، سواء بالإغراء والترغيب أو بالترهيب وقوة السيف.
بينما حدث العكس مع إيران التاريخية، إذ بدا الإسلام البدوي البازغ من الجزيرة العربية أكثر قابلية لإزاحة هذه العقائد، وأكثر جاذبية وطاقة على استبدالها بعقيدة عربية كونية هائلة القوة، وهذا ما وضع فارس أمام متغيّر تاريخي هائل في ثقافتها القديمة.
بكلام آخر، لم يكن بوسع إمبريالية فارس إنتاج ديانة كبرى قادرة على اجتذاب مستعمراتها العربية في شرق أو غرب أو جنوب الجزيرة العربية، فالقبائل العربية امتنعت عن قبول الديانات الفارسية بالقوة أو باللين، ولم تجتذب المجوسية بكل زخمها سوى أشتات من قبائل العرب، منها قبيلة تميم في عصر زعيمها زرارة بن عدس التميمي، أما المزدكية فلم تفلح ضغوط ملوك الفرس المتعاقبة في حمل ملوك الحيرة العرب في العراق على قبولها واعتناقها أو حتى السماح بنشرها.
كان هذا هو المأزق الحضاري التاريخي الذي عانى منه الفرس قديمًا وفي الوقت المعاصر (إيران)، والذي أثّر على دورهم الإقليمي في إطار المحيط العربي.
حضارة عظيمة وقديمة وكبرى لا تمتلك رسالة دينية عظيمة أو دينًا عظيمًا يوفر لها فرصة التمدد خارج الهضبة والاسترخاء على جانبَي الخليج، بدلًا من الانحباس داخل هذه الهضبة، والمأزق نفسه هو الذي شكّل عقدة أمريكا التاريخية، التي وقعت في المفارقة نفسها، فهي تمتلك حضارة عظيمة معاصرة، وتفتقر في الوقت نفسه إلى دين عظيم أو رسالة روحية وأخلاقية كبرى.
الإيرانيون واصلوا التفتيش عن خصوصية ما داخل الإسلام، يمكن تحويلها وبلورتها إلى ما يشبه رسالة دينية، ووجدوا ضالتهم في المشروع الديني للصفويين الذين تمكّنوا من الحصول على مذهب خاص
عاش العرب المفارقة مقلوبة، فلم يمتلكوا قبل الإسلام حضارة عظيمة وخاصة قط، كانوا جماعات بدوية هائمة على وجوهها تتلاعب بها الأمم، ليأتي الدين العظيم (الإسلام) ويمكّنهم من بناء حضارة عظيمة أنارت الجزيرة العربية وما حولها، لتصل إلى قلب إمبراطورية فارس التي استسلمت بسهولة لإغراء الدين العظيم الذي كان ينقص حضارتها، كان العرب يثبتون أن الدين العظيم يبني حضارة عظيمة، بينما كانت إيران ومثلها أمريكا تقرّ بحقيقة أن الحضارة العظيمة لا تصنع بالضرورة دينًا عظيمًا.
حلَّ المذهب الشيعي الصفوي عام 1513 على يد الشاه إسماعيل الصفوي محل المذهب الجعفري العربي الأصل، القادم من المدينة المنورة إلى العراق الذي تقلصت جغرافيته منذئذ لصالح الصفوية الفارسية.
لم تكن الصفوية سوى مزيج من علوم فقهية وأساطير وعقائد فارسية قديمة، كانت ترى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي حرم السلالة الساسانية من حق الحكم، كما منع السلالة المحمدية من حق الخلافة، وأن هذا الحق المغتصَب للسلالتَين سوف يتجلّى في شخص الإمام الغائب صاحب الزمان الذي هو سليل النبي ويزدجرد، فلن يملأ الأرض قسطًا ويقيم حكومة العدل الإلهي سوى ذلك الفتى المتحدر من السلالتَين العريقتَين (كسرى وهاشم).
الحل التركي في تمثل الإسلام وقبوله سهلًا، فقد حسمت تركيا العثمانية خيارها واختارت بوضوح الانصهار كليًّا في دين جيرانها العرب، وقامت بتبنّي رسالتهم الروحية
فالنور المحمدي المنبلج من النور الإلهي يمتزج مع المجد الإيزدي المستمد وجوده من أهورا مازدا (إله الخير في الديانة الزرادشتية)، بتعبير آخر كان التشيُّع الصفوي مزيجًا من القومية الفارسية وإسلام معدّل منقّح، كان -والكلام للدكتور علي شريعتي- “فرقة خاصة دخيلة على التشيُّع العلوي ولا تمتّ بصلة حقيقية له، تشيُّعها تشيُّع البدعة والفرقة والجمود والشرك”.
جاءت الصفوية في إيران لتكون في جوهرها قراءة إيرانية للإسلام، أراد أصحابها من خلالها أن يعوّضوا فارس القديمة الساق العرجاء (حضارة بلا دين)، ويمنحوها ساقًا أخرى سليمة هي رسالة دينية كبرى موازية و معبّرة عن حضارتها الكبرى، توفّر لها فرصة الخروج من الهضبة والتمدد خارجها بواسطة دين (بالمعنى المجازي)، حتى إن كان في صورة مذهب.
لذلك لا تبدو الصفوية من هذا المنظور أكثر من كونها محاولة إيرانية متأخرة للتنافس مع الإسلام الذي اعتنقته، بأكثر ممّا هي تطوير فقهي في قراءته، لقد غدت إيران بفضل المذهب الصفوي ممتلكة لفكرة تخصّها وقابلة للنشر بين جيرانها العرب من بغداد حتى بيروت، أكثر بكثير ممّا هي ممتلكة للإسلام التاريخي الذي وصلها.
كان الحل التركي في تمثل الإسلام وقبوله سهلًا، فقد حسمت تركيا العثمانية خيارها واختارت بوضوح الانصهار كليًّا في دين جيرانها العرب، وقامت بتبنّي رسالتهم الروحية، لم يفكر الأتراك الذين تماهوا مع الإسلام في تقديم قراءة تركية للإسلام تكون خاصة بهم.
إلا أن الإيرانيين واصلوا التفتيش عن خصوصية ما داخل الإسلام، يمكن تحويلها وبلورتها إلى ما يشبه رسالة دينية، ووجدوا ضالتهم في المشروع الديني للصفويين الذين تمكّنوا من الحصول على مذهب خاص، في حين تواصل الأتراك مع تاريخ الإسلام، لتتحول ثقافة تركيا الخاصة إلى امتداد ثقافي وروحي للإسلام، وكأنها تقطع الطريق على حلم إيران بلعب هذا الدور.
كان هناك تنافس إيراني مع الخصوم العثمانيين الأتراك ومع العراقيين العرب، وبشكل خاص مع العشائر في الجنوب والوسط، على حدود ودرجة قبول هذه القراءة الخاصة للإسلام واعتبارها مذهبًا قابلًا للاعتناق.
في نطاق هذا التنافس، وفي نطاق الصراع على العراق، ظهر لأول مرة وقبل وصول الأوروبيين إلى شواطئ العراق، خطابُ تحرير العراقيين من الاستبداد، حيث أصبح الإسلام أكثر فأكثر جزءًا من هذا الصراع: الإيرانيون يريدون تحرير العراق من الاستبداد التركي العثماني السنّي، والعثمانيون الأتراك يريدون تحرير العراق من استبداد البويهيين، ثم من النفوذ الثقافي للقاجاريين الفرس.
أما البريطانيون فكانوا يريدون تحرير العراقيين من الاستبداد التركي الإسلامي، ليأتي الأمريكيون أخيرًا في عصر ما بعد الاستشراق يريدون أن يحرروا العراقيين هذه المرة من أنفسهم، أي من الاستبداد الداخلي الذي كان من إنتاج العراقيين وحدهم، ومن ثمار ثقافتهم الإسلامية بحسب الصورة الاستشراقية السائدة.