جاءت عملية انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيسًا جديدًا للجمهورية في العراق بعد مرور عام على الانسداد السياسي، لتضع العملية السياسية أمام استحقاقات جديدة، خصوصًا أن الرئيس الجديد سرعان ما كلّف مرشح الإطار التنسيقي الشيعي محمد شياع السوداني بعملية تشكيل الحكومة.
عملية انتخاب رشيد ورغم ما شهدته من انسيابية عالية، تمثلت بتحقيق النصاب القانوني داخل جلسة مجلس النواب، إلا أنها كشفت من جهة أخرى عن تحول جديد عبر إعادة تشكيل التحالفات السياسية على أساس طولي، تمثلت أضلاعه الثلاثة بالإطار التنسيقي الشيعي والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السنّي.
نقطة التحول داخل البيت الكردي
مثّل انتخاب رشيد كمرشح توافقي، رغم أنه ينتمي حزبيًّا إلى الاتحاد الوطني الكردستاني، مقابل إقصاء رئيس الجمهورية السابق برهم صالح، وسحب ترشيح مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبر أحمد؛ عهدًا جديدًا في العلاقات بين الحزبَين الحاكمَين في إقليم كردستان، خصوصًا أن العلاقات بين الحزبَين أخذت بالتراجع منذ استفتاء استقلال إقليم كردستان في سبتمبر/ أيلول 2017، ومن ثم انتخابات مجلس النواب في يونيو/ حزيران 2018، فعلى ما يبدو أن زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، أراد عبر العملية الأخيرة أن يوجّه ضربة قوية لزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، بسبب اصطفافه مع الإطار التنسيقي الشيعي، وخلقه شرخ كبير داخل الإجماع الكردي، عبر إصراره على دعم عدوّ بارزاني اللدود برهم صالح.
إذ كانت الحوارات الأخيرة التي أجراها ممثّلو الإطار التنسيقي الشيعي في أربيل مع بارزاني، حاملين معهم رسالة من زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، هي النقطة المهمة التي يجب التوقف عندها، إذ إن المالكي قاد مبادرة ترشيح رشيد كمرشح توافقي، فهو عضو بالاتحاد الوطني الكردستاني، إلى جانب كونه عضوًا سابقًا في الحزب الديمقراطي الكردستاني في ستينيات القرن الماضي.
حيث رغب المالكي وعبر خطوته الأخيرة إعادة أواصر التحالف القديم مع بارزاني، وتحقيق أهداف زعيمَين يطمحان لترسيخ نفوذهما المرتبك، فمن جهة يطمح المالكي لتعزيز نفوذه في بغداد عبر تمرير رئيس وزراء تابع له، ومن جهة أخرى يطمح بارزاني لترسيخ هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني في الإقليم، وإنهاء طموحات طالباني المتصاعدة.
عكست المواقف الكردية التي انهالت برسائل التهنئة من طرفَي النزاع للرئيس الجديد، محاولات لإظهار كل منهما منتصرًا في معركة كسر الإرادة، حتى طالباني الذي خرج من قبة البرلمان رفقة الرئيس الجديد، قال بصوت عالٍ أمام النواب: “كسرنا مرشحي البارتي” بانتخاب الرئيس الجديد، الذي كلّفَ فورًا السوداني تشكيل الحكومة، حيث رغم أن حالة الانسداد انتهت أمس، إلا أن ذلك لا يعني نهاية الأزمة السياسية، إذ ما زال يترقّب الجميع في بغداد ردّ فعل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على هذه التطورات، حيث لا يستطيع أحد التكهُّن بما سيقدم عليه.
السوداني أمام اختبار حقيقي
رغم أن السوداني دخل رسميًّا في مرحلة التكليف، ورغم توجيهه بيان عام لجميع الكتل السياسية ليلة الجمعة، إلا أن ذلك لا يعني أن الطرق أمامه سالكة، فما سيقوم به الصدر سيبقى حبيس قلبه وعقله، لا يعلمه أحد ولا يتوقعه أحد، حيث إن عملية انتخاب رئيس الجمهورية لم تشكّل فارقًا بالنسبة إليه، فهو أمر خاضع للتوافق الكردي الكردي بالنهاية، كان سيحصل بوجوده أو عدم وجوده، إلا أن المحك الحقيقي سيكون في قادم الأيام، فأما أن يتفق معهم أو يختلف عليهم، فمع الصدر يمكن توقع ما لا يمكن التوقع به.
فرغم اعتزاله العمل السياسي، إلا أن الصدر عبّر مرارًا عن رفضه المطلق لعملية ترشيح السوداني، معتبرًا أن ذلك يمثل عودة للمالكي بصورة أخرى، ففي 25 سبتمبر/ أيلول 2022، وبعد إعلان الإطار التنسيقي الشيعي عن مرشحه السوداني كمرشح لرئاسة الوزراء، كتب الصدر تغريدة على موقعه الرسمي في تويتر قائلًا: “استمروا على الإصلاح مهما حدث، فأنا وأصحابي لا شرقيون ولا غربيون، ولن يحكم فينا ابن الدعي كائنًا من كان”، فيما اُعتبر رسالة واضحة من الصدر برفض السوداني.
موقف الصدر سيضع السوداني أمام تحدٍّ حقيقي، خصوصًا أن أمامه مدة دستورية قصيرة جدًّا، إذ تنص المادة 76 من الدستور العراقي لعام 2005: “يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال 15 يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية، ويتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية أعضاء وزارته، خلال مدةٍ أقصاها 30 يومًا من تاريخ التكليف، وفي حالة إخفاقه يكلف رئيس الجمهورية مرشحًا جديدًا لرئاسة مجلس الوزراء خلال 15 يومًا، عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة، خلال المدة المنصوص عليها من هذه المادة”، ومن ثم قد يكون السوداني أمام ضغط المدة الدستورية التي سيحاول الصدر استثمارها جيدًا كأحد تكتيكات إسقاطه.
المالكي والصدر والعودة للواجهة
يمكن القول إن صبر المالكي نجح في التفوق على نفاد صبر الصدر، حين تمكّن المالكي بعد مناورات وتكتيكات مختلفة من إعادة البرلمان لعقد جلساته، وانتخاب رئيس عراقي جديد، وتكليف رئيس الحكومة الذي رشّحه الإطار مسبقًا، وإعادة التحكم بالعملية السياسية برمّتها، فيما وجد الصدر نفسه خارج اللعبة تمامًا، بسبب فشله في فرض لاءاته على المشهد السياسي.
كما أن المالكي نجح في تحقيق اختراق داخل الصف الكردي من خلال تقديم شخصية كردية غير مرشحة في الأصل، وتمكينها من الفوز على حساب مرشحي الحزبَين الكرديَّين، برهم صالح عن الاتحاد الوطني وريبر أحمد عن الحزب الديمقراطي، إذ إن المالكي عزف على وتر الخلافات الكردية-الكردية وتمكّن من إيصال رشيد إلى الرئاسة، مستفيدًا من رغبة بارزاني في قطع الطريق على برهم صالح، ما دفعه إلى القبول برشيد ضمن حزمة توافقات مع المالكي.
وبالتالي وبعد انتخاب رئيس الجمهورية، يجدُ الصدر الذي اختار الخروج من العملية السياسية نفسه وحيدًا بلا خيارات تقريبًا، سوى انتظار فشل الحكومة الجديدة، والضغط في اتّجاه إجراء انتخابات مبكّرة، وإنما من دون تهديد الحدّ الأدنى من الأمن، الذي يبدو الجميع في العراق، إضافة إلى القوى الإقليمية والدولية المعنيّة، حريصين عليه، فكل ما شهدته الفترة الماضية من توتُّر وصدامات دامية في الشارع، كادت تجرّ البلاد إلى اقتتال شيعي-شيعي تبيّن أن أحدًا في الداخل لا يستطيع تحمل وِزره، وأن أحدًا في الخارج ليست له مصلحة فيه، خاصة في بلد نفطي كالعراق.
إن استحقاقات المرحلة المقبلة ستكون خاضعة لتحديات كبيرة، أبرزها الكيفية التي سيتعاطى بها الصدر مع عودة المالكي عبر مرشحه السوداني للساحة السياسية، فالأكراد والسنّة فكروا ببراغماتية عالية هذه المرة، أما الصدر فقد دفع ثمن خلافه السياسي مع الإطار التنسيقي الشيعي أولًا، وإيران ثانيًا، كما أن الولايات المتحدة باركت يوم أمس وعبر بيان أصدرته السفارة الأمريكية عملية انتخاب الرئيس.
كل هذه المتغيرات تشير بما لا يقبل الشك أن قوى الإطار التنسيقي الشيعي، التي حرصت على عدم استفزاز الصدر باعتبار تكليف السوداني نصرًا لها، تخشى من خطوات الصدر القادمة، التي على الرغم من محدوديتها، إلا أنها خطيرة أيضًا، في ظل الوضع السياسي الهش الذي يعيشه العراق اليوم.