تشهد مناطق الشمال السوري توترًا أمنيًّا كبيرًا بعد تصاعد وتيرة الاشتباكات بين تحالف يضم هيئة تحرير الشام “هتش” وفرقة السلطان سليمان شاه وفرقة الحمزة، ضد فصائل الفيلق الثالث الذي تشكِّل الجبهة الشامية وجيش الإسلام نواته الرئيسية، وسط توغل لـ”هتش” وتقدمها على عدة محاور، فقد أعلنت “هتش” سيطرتها على مدينة عفرين وعدد من القرى في محيطها بعد انسحاب الفيلق الثالث تجاه مدينة أعزاز وبلدة كفرجنة.
كما سيطرت “هتش” على معبر الحمران التجاري الواصل بين مناطق “غصن الزيتون” ومناطق سيطرة “قسد” جنوب مدينة جرابلس، في ظل حشود ضخمة مدعّمة بدبابات للتقدم تجاه مدينة أعزاز، التي أعلن أهلها النفير العام لمواجهة “هتش”، وسط فوضى عارمة تشهدها المنطقة وحركة نزوح كبيرة للمدنيين.
تطور المشهد الميداني إثر قرار الفيلق الثالث مواجهة فرقة الحمزة، التي ثبت تورُّط عناصرها في عملية اغتيال الناشط الإعلامي محمد عبد اللطيف “أبو غنوم”، لتتصاعد وتيرة التصادم ويتعقّد المشهد مع سيطرة الفيلق الثالث على مقرّات فرقة الحمزة في مدينة الباب، واصطفاف فرقة سليمان شاه إلى جانب فرقة الحمزة ومن ثم توغُّل “هتش” في ريف عفرين ودخولها خط المواجهة ضد الفيلق الثالث، وسط تظاهرات واعتصامات في عدد من مدن وبلدات الشمال السوري للمطالبة بوقف الاقتتال الدائر.
وزاد المشهد ضبابية غياب الموقف تركي وعدم اتخاذ أنقرة موقفًا عسكريًّا وسياسيًّا حازمًا تجاه سيطرة “هتش”، رغم تصنيفها لها ضمن قائمة الإرهاب، ليُفتح الباب مجددًا أمام أسئلة متعلقة بمستقبل الشمال السوري في ظل تقدم “هتش” ميدانيًا وتوغلها في مناطق عفرين ومحيطها.
معركة المشاريع بين هيئة تحرير الشام والفيلق الثالث
لطالما حرصت هيئة تحرير الشام على فرض وجودها ونفوذها كفاعل أساسي محلي عبر تبنّيها منهجًا براغماتيًّا، وإحداثها سلسلة من التحولات الجوهرية في منظومتها الفكرية والتنظيمية في سياق البحث عن الشرعية الدولية والإقليمية، وذلك خدمةً لأهداف سياسية مصلحية بحتة، دون أي مراعاة للمبادئ والقِيَم التي قام عليها التنظيم في مرحلة من المراحل.
ويُلاحظ المتتبّع لمسار التحولات التي رافقت مسيرة التنظيم، أنها جاءت في سياق متغيرات محلية أو إقليمية ودولية فرضَت على الجولاني التلوُّن بحسب ما تقتضيه المرحلة، وتشترك هذه التقلبات والتحركات السياسية أو الميدانية التي قامت بها “هتش” في معظمها منذ بداية نشاطها في سوريا، كونها تمثّل محاولة تثبيت موطئ قدم لها في العملية السياسية المستقبلية المحتملة، أو تمتين حكمها كسلطة أمر واقع في مناطق الشمال السوري، من منطلق مصلحي ضيق بعيد عن ثوابت وروح القضية السورية الجامعة ومصالحها.
ولا ينفصل هجوم “هتش” الأخير وتحالفها مع فصائل ذات سمعة سيّئة وتاريخ مليء بالإجرام والفساد، عن الهدف المتمثل بالبحث عن مناطق نفوذ جديدة تضمن لها امتيازات اقتصادية وأمنية وسياسية، وإن اختلفت الوسائل والطرق المؤدية إلى هذا الهدف، لا سيما أن “هتش” حاولت الدخول ومدّ نفوذها في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” بشكل متكرر عبر بوابات مختلفة متناقضة.
حيث لم تأل “هتش” جهدًا في استغلال حالة الفلتان الأمني التي تعيشها مناطق الجيش الوطني، والاستفادة من الاضطراب الأمني لتسويق نفسها على أنها الضامن لنزع حالة الفصائلية والفلتان الأمني، في إطار مسعاها للتغلغل في تلك المناطق أمنيًّا وعسكريًّا عبر التفاخر بـ”نجاح قبضتها الأمنية” في تحسين الواقع الأمني في مناطق سيطرتها، أو عبر عرضها فكرة الاندماج والتنسيق الأمني وتشكيل إدارة موحّدة مع مناطق تموضع الجيش الوطني، التي وصفها الجولاني في أحد تصريحاته بأنها “غارقة في الفوضى والمخاطر الاجتماعية والأمنية والاقتصادية والسياسية، لوجود سلطات متعددة بعكس مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام”، مبديًا استعداده للتعاون والاندماج مع فصائل الجيش الوطني.
أو حتى عبر محاولات بناء شراكة اقتصادية وأمنية مع الجبهة الشامية نفسها، التي تحاربها الهيئة اليوم، لتتوغل اليوم تحت غطاء التحالف مع الفصائل المنافسة الجبهة الشامية (فرقة الحمزة والسلطان سليمان شاه) المنتشرة في منطقتَي الشيخ حديد وراجو، ومناطق الباسوطة وجنديرس بريف عفرين الجنوبي المتاخم لمناطق سيطرة “هتش”، التي لطالما أصدرت بحقهم عدة بيانات واعتبرتهم تجار مخدرات، في تناقض واضح في المواقف، ما ينمُّ حقيقةً عن انتهازية قائدها أبو محمد الجولاني والمرتبط أساسًا بتقلبات “هتش” المصلحية والمرحلية.
اقتطاع المشهد وتصوير هذا التصادم على أنه حلقة جديدة في مسار الصراع على مناطق نفوذ اقتصادي وعسكري ميداني بين فصائل عسكرية متنافسة فقط، لا يعكس حقيقة المشهد كليًّا.
وعليه، تمثّل المكتسبات الاقتصادية والأمنية دافعًا مهمًّا وأساسيًّا لتدخّل “هتش” عسكريًّا لدعم حلفائها الجدد شمالي حلب، إذ يبدو أنها تولي “هتش” مسألة إدارة المنطقة والمعابر التجارية وتوسيع دائرة نفوذها داخل المفاصل الاقتصادية والتجارية في المنطقة أهمية كبيرة، وهو ما بدا واضحًا خلال مفاوضاتها الأخيرة مع الفيلق الثالث في منطقة الباسوطة بريف عفرين، حيث طالبت “هتش” بجملة من الصلاحيات الأمنية والاقتصادية في المنطقة، إضافة إلى مطالب أخرى رفضها الفيلق.
وفي السياق ذاته، يعكس المشهد العام الحالي في الشمال السوري فيما يبدو حالة من الصراع بين مشروعَين مختلفَين ذوَي توجّه ورؤى مختلفة تمامًا، ويبدو أن اقتطاع المشهد وتصوير هذا التصادم على أنه حلقة جديدة في مسار الصراع على مناطق نفوذ اقتصادي وعسكري ميداني بين فصائل عسكرية متنافسة فقط، لا يعكس حقيقة المشهد كليًّا، وإن كان يلامس في حقيقته شيئًا من الواقع.
إذ تتخوف “هتش” حقيقةً من تنامي نفوذ الفيلق الثالث وتحديدًا الجبهة الشامية، التي تعتبَر أكبر فصائل الجيش الوطني والمنافس الحقيقي لمشروع “هتش” في إدلب، خاصة أنها تحظى بثقة ودعم الحاضنة الشعبية في الشمال السوري، وتمتلك قبولًا لدى تيارات معارضة واسعة كالمجلس الإسلامي السوري.
فضلًا عن امتلاكها قدرًا من الاستقلالية في قرارها السياسي، فهي تطرح مشروعًا وطنيًّا جعل منها جسمًا صلبًا متماسكًا يوازي مشروع “هتش”، وبيئة استقطاب مشجّعة للفصائل والمجموعات المعادية لها، ما أثار قلق “هتش” ومثّل مصدر تهديد لمصالحها الأمنية والاقتصادية والعسكرية، لا سيما في ظل الحديث عن مبادرة محلية لتأسيس “مجلس قيادة عسكري موحد” في مناطق سيطرة الجيش الوطني، لـ”ضبط الخلافات الفصائلية على النفوذ وتشكيل إدارة مالية وأمنية واقتصادية وإدارية وقانونية موحدة”، ما يمثّل أيضًا تهديدًا لمشروع “هتش” في حال حدوثه، من ناحية فقدانها مرتكز أساسي تسند عليه في تسويق نموذجها عبر تسويق نفسها على أنها صمّام أمان المنطقة، وحائط صدّ أمام حالة الفلتان الأمني وعدم الاستقرار، الأمر الذي يبدو أنه قد لعب دورًا مهمًّا في التأثير على قرار “هتش” بالتوغُّل في منطقة عفرين والاصطفاف مع خصوم الفيلق الثالث.
مستقبل الشمال السوري والموقف التركي من الصراع
يعتبر هجوم هيئة تحرير الشام حدثًا مفصليًّا ومؤثرًا على مجريات الأحداث المتعلقة بالقضية السورية، وتموضعات القوى المحلية في الشمال السوري، ومع بسط “هتش” سيطرتها على مدينة عفرين وانتقال دائرة الاشتباكات إلى محيط أعزاز، معقل الفيلق الثالث، وإعلان النفير العام في أعزاز، بالتوازي مع تحرُّك فرقة الحمزة على محاور جرابلس والباب شرقي حلب، وفشل الجولة الأولى من المفاوضات بين الفيلق الثالث و”هتش”، وسط صمت تركي عن تحركات “هتش” في مناطق تقع تحت نفوذها، ما يعني أن المشهد الميداني منفتحًا على عدة سيناريوهات متوقعة، وهي كالآتي:
– فرض هيئة تحرير الشام نفسها على منطقة عفرين ومحيطها، وتفرُّدها بالقرار العسكري والاقتصادي والأمني بمشاركة حلفائها في فرقة الحمزة والسلطان سليمان شاه، وفرض ذراعها المدني المتمثّل بـ”حكومة الإنقاذ” لإدارة الجوانب الخدمية، مع قبول وموافقة تركية.
ومع ذلك فإن هذا الخيار مستبعد نظرًا إلى حجم الضرر السياسي والاقتصادي الذي قد يخلّفه وجود “هتش” على المصالح التركية، من حيث إن توغُّل “هتش”، المصنّفة على قوائم الإرهاب، يمنح روسيا ورقة مثالية للضغط على الجانب التركي في مسار المحادثات والمفاوضات بين الجانبَين، واستثمار ذلك كشمّاعة لاستمرار القضم العسكري للمناطق تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”.
ومن المحتمل أن تنضوي المنطقة بمجرد سيطرة “هتش” عسكريًّا عليها ضمن منطقة خفض التصعيد بالنسبة إلى روسيا، التي حرصت في تفاهماتها التي خطّتها مع تركيا، من اتفاق خفض التصعيد 2017 ثم سوتشي 2018، على استثناء هيئة تحرير الشام من الاتفاق، ليشكّل هذا الاستثناء حجة روسية تسيطر من خلالها على مناطق ومدن الشمال السوري.
فضلًا عن أن تواجُد “هتش” ضمن مناطق الشمال السوري الخاضعة للإدارة التركية يعتبر تهديدًا مباشرًا لـ”المنطقة الآمنة”، التي تسعى تركيا إنشاءها في إطار جهودها لإعادة توطين مليون لاجئ سوري في المنطقة، والتي تمثّل أولوية قصوى لدى تركيا، والتي ستكون في حال تنفيذها رافعة مقوّية للحكومة بوصفها تعزيزًا للأمن القومي، وهو أحد الملفات الأكثر سخونة في الانتخابات التركية القادمة.
لا تعتبر تطورات المشهد المخيِّم على الشمال السوري وليدة اللحظة، بل نتاج تراكم أخطاء وعثرات تتحملها قوى الثورة والمعارضة بأطيافها العسكرية والسياسية.
– انسحاب هيئة تحرير الشام من المناطق التي توغلت فيها بعد ضغوط تركية، ومن المرجّح دخول تركيا بوساطة لحلّ النزاع وإخراج “هتش” من مناطق عفرين ومحيطها، ورغم ذلك يمكن القول إن ديناميكة تموضع القوى بعد توغل “هتش” قد تغيّرت نظرًا إلى ارتباط “هتش” بتحالف مع قوى محلية (فرقة الحمزة والسلطان شاه) متواجدة عسكريًّا في مناطق واسعة في عفرين مدعومة من تركيا، ما يعني بقاء نفوذ اقتصادي وأمني دائم لـ”هتش” في المناطق التي دخلتها عبر حلفائها، حتى إن دفعتها الضغوط التركية لاحقًا للانسحاب جزئيًّا أو كليًّا من المنطقة.
ويبقى الموقف التركي هو الفيصل في تحديد مسار الأحداث في الشمال السوري، نظرًا إلى حجم تأثير تركيا نسبيًّا على كلا الطرفَين، ويبدو أن الموقف التركي الصامت إلى الآن يوحي بأن هناك موافقة ضمنية من قبل تركيا على انخراط هيئة تحرير الشام، تعبيرًا منها ربما عن عدم رضاها على أداء فصائل الجيش الوطني.
ختامًا، لا تعتبر تطورات المشهد المخيِّم على الشمال السوري وليدة اللحظة، بل نتاج تراكم أخطاء وعثرات تتحمّلها قوى الثورة والمعارضة بأطيافها العسكرية والسياسية، بعد هيمنة الحالة الفصائلية والتنافس على الموارد وتوسيع دائرة النفوذ وحرف بوصلة الثورة، لصالح أجندات وسياسات لا تأخذ مصالح الثورة بالحسبان.