قبل سنوات قليلة، كانت تونس ترسل مساعدات غذائية إلى دول أفريقية وآسيوية، مشاركة منها في الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة الفقر ومجابهة الكوارث، لكن يبدو أن الوضع تغيّر في الفترة الأخيرة، إذ أصبح هذا البلد العربي يستقبل المساعدات الغذائية ويتحصّل على المنح والقروض بعنوان دعم “الصمود الغذائي”.
يُرجِع النظام القائم تغيُّر الوضع وتوجُّهه نحو الأسوأ إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ووباء كورونا، فضلًا عن عمليات الاحتكار والمضاربة التي تشرف عليها جهات “معروف عدم ولائها لتونس”، لكن هل هذه هي الأسباب الرئيسية وراء ذلك، أم أن هناك أسبابًا أهم يقف وراءها قيس سعيّد ونظامه؟
مساعدات غذائية
استقبلت تونس السنة الماضية مساعدات من دول عربية وأخرى عربية، وأيضًا من مواطنين تونسيين في الخارج، لمساعدة البلاد على تفادي “كارثة” صحية في ظل موجة حادة من الإصابات بفيروس كورونا، إذ لم تكن تونس استثناءً في تلك الفترة، فالعديد من الدول -منها المتقدمة والغنية- طلبت العون لعدم قدرتها على التصدي لفيروس كورونا، لكن المساعدات الغذائية التي تصل تونس مؤخرًا أمر آخر.
آخر تلك المساعدات ما أعلن عنه وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أمس الخميس، حيث أعلن أنتوني بلينكن عن تمويل جديد بقيمة 60 مليون دولار لتوجيه مساعدات سريعة إلى التونسيين الأكثر احتياجًا، وتحديدًا للعائلات التونسية محدودة الدخل.
? شوفو وين وصلنا في هذا العهد السعيد
خبير اقتصادي يتأثر الى حد البكاء : بعد ستين سنة اسنقلال اليونيسيف باش تفرق علينا مساعدات قدام الطيارة كي بنغلاديش#ارحل_يا_فاشل #يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/TmbLMcYaYV
— Nizar (@TTitou21) October 14, 2022
قبل ذلك، تحصّلت تونس على قرض من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية بقيمة 150 مليون و500 ألف يورو (حوالي 500 مليون دينار)، تمّ إسناده لديوان الحبوب للمساهمة في تمويل مشروع الاستجابة لصمود الأمن الغذائي.
سبق قرض الصمود الغذائي قرض آخر لتأمين الأمن الغذائي، حيث تحصلت تونس على قرض جديد بقيمة 130 مليون دولار لتمويل الواردات الحيوية من القمح الليّن وتقديم مساندة طارئة لتغطية واردات البلاد من الشعير اللازم لإنتاج الألبان، فضلًا عن دعم الفلاحين من أصحاب الأراضي الصغيرة بالبذور للموسم الزراعي القادم.
فضلًا عن ذلك، وقّعت تونس والبنك الدولي في أبريل/ نيسان من هذه السنة اتفاقية تمويل بقيمة 400 مليون دولار امريكي، ما يعادل 1160 مليون دينار، لتمويل مشروع الحماية الاجتماعية الذي يهدف إلى دعم الفئات الهشة، لا سيما الأسر الفقيرة وذات الدخل المحدود.
يأتي هذا في وقت تشهد فيه تونس أزمة غذائية حادة، حيث فقدت الأسواق عدة مواد أساسية كالسكّر والزيت والأرز والدقيق، كما عرفت أسعار العديد من المواد كالقهوة والبيض واللحوم البيضاء والحمراء والمياه المعدنية ارتفاعًا قياسيًّا، ما ساهم في ارتفاع نسب التضخم وبلوغها مستويات تاريخية، إذ بلغت نسبة التضخم في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي 9.1%.
الاحتكار والحرب الروسية الأوكرانية
ترجع السلطات التونسية سبب الأزمة الغذائية التي تعرفها البلاد إلى الاحتكار والمضاربة، فغالبًا ما يتهم الرئيس قيس سعيّد جهات سياسية بالوقوف وراء هذه الأزمة، بتعمّدها إخفاء المواد الغذائية الأساسية لدفع الناس إلى الاحتجاج ضد النظام.
وسبق أن دعا سعيّد في مارس/ آذار الماضي من مقرّ وزارة الداخلية، إلى شنّ “حرب دون هوادة” ضد الاحتكار والمضاربة بالسلع الغذائية في بلاده، قائلًا: “هذه الظاهرة التي نعيشها اليوم سنتصدى لها.. تمّ تحديد ساعة الصفر للقيام بالواجب الذي تقتضيه المسؤولية.. من يضارب بقوت المواطنين لا يسعى إلى التجويع والتنكيل بالشعب فقط، بل يسعى إلى ضرب السلم الأهلي”.
عقب ذلك، أصدر مرسومًا رئاسيًّا لمواجهة المضاربة والاحتكار، يشتمل على أحكام قد تؤدي إلى سجن الأفراد لمدد تتراوح بين 10 أعوام ومدى الحياة، ما اعتبرته منظمة العفو الدولية تهديدًا لحرية التعبير وصفعة لحقوق الإنسان في تونس.
عدم الاستقرار السياسي وتصريحات الرئيس سعيّد غير المحسوبة ضد وكالات التصنيف والدول الخارجية، دفع العديد من الشركات إلى عدم بيع تونس أي منتج دون أن تتسلم ثمنه مباشرة.
مرّت أشهر على هذه الدعوى، لكن لا شيء تغير، بالعكس الوضع ازداد سوءًا، و إلى الآن نسمع تهديدات سعيّد ضدّ من يصفهم بالمحتكرين الذين يريدون تجويع الناس، مانحًا الضوء الأخضر لقوات الأمن والمصالح الاقتصادية لاقتحام المخازن.
أدّى هذا الوضع إلى تململ العديد من التجّار ورجال الأعمال الذين أصبحوا يخشون على تجارتهم من ممارسات النظام، فهم لا يؤمنون الزجّ بهم في السجون بتهمة الاحتكار، حتى إن كانت تجارتهم قانونية لا تشوبها شائبة.
إلى جانب الاحتكار، يقول نظام سعيّد إن السبب وراء الأزمة الحالية يعود إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فأسعار النفط والغاز شهدت ارتفاعًا كبيرًا، فضلًا عن النقص في الإمدادات، والأمر نفسه بالنسبة إلى الحبوب، وبالفعل عرفت أسعار الحبوب ارتفاعًا قياسيًّا نتيجة الحرب، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا من أبرز منتجي الحبوب في العالم، وزاد ارتفاع تكاليف الشحن والمواصلات من حدّة الأزمة، فهي إذًا أزمة عالمية وليست خاصة بتونس فقط.
سياسات سعيّد “العبثية”
من المؤكد وفق المحلل السياسي التونسي، سعيد عطية، أن “الوضع العالمي وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية قد كانت لهما انعكاسات وخيمة على الاقتصاد العالمي، ومن الطبيعي أن تكون التأثيرات أكثر حدّة وقسوة على البلدان النامية ومن بينها تونس”.
يستدرك عطية بالقول: “لكن لا أحد بالمقابل بإمكانه أن ينكر أن السلطة القائمة لا تملك أدنى المقومات للتخفيف من وطأة هذه الأزمة الاقتصادية، حيث دأب الرئيس على مهاجمة رجال الأعمال وأصحاب المؤسسات”.
ترفض العديد من الشركات بيع تونس أي منتج لتونس دون أن تتسلم ثمنه مباشرة.
أدّى هذا الأمر، وفق محدّثنا، إلى “حالة من الهلع والخوف كانت نتيجتها التخلي عن التخزين شبه الكلي لمعظم المواد الغذائية، وبالتالي ارتفاع أسعارها”، ويضيف عطية في حديثه لـ”نون بوست”: “كما لم تبلور الحكومة أي سياسة لمجابهة الأزمات المتعاقبة، واكتفت بالترفيع التدريجي للأسعار، ما انجرَّ عنه انهيار المقدرة الشرائية لعموم المواطنين واندثار تدريجي لما يُسمّى بالطبقة الوسطى (طبقة الموظفين)”.
أشار عطية كذلك إلى ما وصفه بـ”فشل السلطة القائمة في الملف الدولي، ما انجرَّ عنه تراجع التصنيف الائتماني لتونس، وقد زادت مهاجمة الرئيس لهذه المؤسسات من الطينة بلة وعرقلت التوصل لاتفاق إلى حد الآن مع البنك الدولي”.
وقبل أيام قليلة، أعلنت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني وضع تصنيف تونس قيد المراجعة، في إشارة إلى إمكان خفضه، وسبق أن خفضت “موديز” تصنيف تونس إلى Caa1 مع آفاق نمو سلبية في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
هذا التصنيف وعدم الاستقرار السياسي وتصريحات الرئيس سعيّد غير المحسوبة ضد وكالات التصنيف والدول الخارجية، دفعت العديد من الشركات إلى عدم بيع تونس أي منتج دون أن تتسلم ثمنه مباشرة، فهي تخشى أن يتخلف هذا البلد العربي عن سداد ديونه، نتيجة ذلك أحجمت عدة سفن عن تفريغ شحناتها في الموانئ التونسية لعدم تسلمها مستحقاتها، ما زاد من حدة الأزمة في البلاد.
بركات تصويت #تونس بإدانة ضم روسيا لمناطق أوكرانية اليوم في الجمعية العامة للأمم المتحدة
” مساعدات أمريكية عاجلة بقيمة 60 مليون دولار لدعم العائلات التونسية محدودة الدخل ” pic.twitter.com/v8KYzVCJ9l
— Nessim ?? (@Pacifista_1) October 13, 2022
ليس هذا فحسب، حيث أشار المحلل سعيد عطية إلى مسألة أخرى لها علاقة بالأزمة التي تشهدها تونس، وهي “رفض السلطة الحالية الحوار مع الفاعلين الاقتصاديين، مع غياب الكفاءة بمحيط الرئيس وداخل الحكومة”، وأوضح محدّثنا أن هذه العوامل ساهمت بقوة فيما وصلت إليه تونس.
بدوره، يقول الصحفي التونسي هشام بن أحمد لـ”نون بوست”، إن “إجراءات سعيّد خلقت حالة اضطراب اجتماعي خطير لم تعرفها البلاد من قبل خلال تاريخها الحديث منذ الاستقلال، حيث تحولت البلاد إلى طوابير يقف فيها العشرات والآلاف من الناس يوميًّا أملًا بالتزوّد بحاجياتهم لكن دون جدوى”.
يرى محدّثنا أن الأزمة ستتواصل وستزداد حدّة، فاليوم نقبل المساعدات والمنح لتوفير الغذاء، لكن لا نعلم ما يخبّئه الغد لبلادنا، خاصة في ظل عدم وجود بوادر انفراج، فالرئيس سعيّد مصرّ على المضيّ قدمًا في برنامجه دون أن يولي أي اهتمام لمعاناة الشعب.