تردمة وتحرير: نون بوست
اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المواجهة في ردّه على النكسات العسكرية الأخيرة في أوكرانيا. بعد النجاحات العسكرية التي حققتها أوكرانيا هذا الخريف، أمر بوتين بتحرّك سريع لمئات الآلاف من القوات الإضافية، ونظم استفتاءات زائفة في المناطق المحتلة لدمجها رسميًا في روسيا، وأصدر تهديدات نووية صريحة بشكل متزايد، كما شن موجة من الهجمات الصاروخية عبر أوكرانيا. يعزو الكثيرون هذا السلوك إلى السمات المرعبة التي يُعرف بها بوتين ونظامه، ويجادلون بأن الغرب يجب أن يجبر أوكرانيا على الاستسلام خشية أن تتصاعد الحرب إلى مستويات جديدة مروّعة من المذابح والدمار.
من الخطأ فعل ذلك. في وقت مبكر من الحرب، شاب جهود موسكو الجهل والثقة الزائدة وسوء التخطيط وهي مشاكل ليست فريدة من نوعها بالنسبة لروسيا، ولم تخلو منها العديد من التدخلات الأمريكية أيضًا. الآن بعد أن وجدت موسكو نفسها في مواجهة المشاكل، أصبح غضب الكرملين من الهزيمة شبيهًا بالطريقة التي تعاملت بها إدارة نيكسون مع حرب فيتنام قبل نصف قرن. عندما فشلت تهديدات الصواريخ والقصف النووي، قبلت واشنطن بالواقع في نهاية المطاف وانسحبت من الصراع. واليوم من الممكن أن تضطر موسكو إلى فعل الشيء ذاته.
يبدو أن بوتين يعتقد أنه إذا تمكن من الصمود حتى الشتاء، رغم المشاكل التي يواجهها، سيكون كل شيء على ما يرام. سيعمل مجندوه الجدد على تحقيق الاستقرار في ساحة المعركة وستتباطأ وتيرة العمليات العسكرية وستخيف تهديداته بالتصعيد الجميع وستتفاقم المعارضة الغربية للحرب مع ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم. يأمل بوتين أن كل هذا سيمهد الطريق لصراع مجمّد بشكل مستدام أو تسوية تفاوضية سخية بما يكفي لتمكينه من المطالبة بالنصر.
مع ذلك، لا يزال إحباط هذه الخطة ممكنًا طالما أن واشنطن وأوروبا تستطيعان الصمود في وجه الاستفزاز الروسي والحفاظ على الضغط العسكري الأوكراني على ساحة القتال. يمكن للعمليات العسكريّة التقليدية المتواصلة أن تستمر في دفع الخطوط الروسية إلى الوراء وإجبار موسكو على قبول الخيار الأقل سوءا المتمثّل في تسوية تفاوضية تعيد الوضع الإقليمي الراهن إلى ما كان عليه قبل 24 شباط/ فبراير. وبمجرد أن تتقبّل روسيا الحقيقة وتصبح مثل هذه التسوية ممكنة، يجب على واشنطن العمل مع كييف وأوروبا لتحقيقها ووقف القتال.
العودة إلى صيف 1969
مثل الشطرنج، تتكوّن الحرب من ثلاث مراحل: بداية ووسط ونهاية. في البداية تشتبك الأطراف مع بعضها البعض وتنشر قواتها، وفي المرحلة الثانية يتواصل القتال، وفي النهاية يقومون بتسوية تفاصيل نتيجة الحرب. في الواقع، لا يعدّ بلوغ نهاية الحرب حدثًا عسكريًا أو سياسيًا بل هو حدثٌ نفسيّ ينطوي على اعتراف المتحاربين بأن الصراع عالق في طريق مسدود أو أنه يتجه بلا رجعة في اتجاه واحد، ودائما ما يكون مثل هذا الاعتراف صعبا على الخاسرين. فهو يستوجب عليهم التخلي عن آمالهم في الانتصار، وأن يمروا بمراحل الحزن الخمس الشهيرة للطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس: الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب ثم التقبّل.
حاليا، يبدو أن الكرملين يفعل الشيء ذاته في الوقت الفعلي نظرا لأن نجاح العمليات الأوكرانية يعني اقتراب نهاية هذه الحرب. تمثّل التهديدات النووية لموسكو، على سبيل المثال، شكلا متصاعدًا من الغضب وشكلا ضمنيًا من أشكال المساومة. ومع ذلك، مهما بدت سياسة حافة الهاوية هذه صادمة وتجاوزية اليوم، فلا داعي لأن نعزوها إلى نفسية فردية مضطربة بشكل غير مسبوق أو إلى سياق وطني معين. فقد تصرفت الولايات المتحدة بالمثل عندما واجهت الهزيمة في فيتنام قبل أن تتمكّن من إخراج نفسها في نهاية المطاف من مأزقها، ومن المرجح أيضا أن تفعل روسيا الشيء ذاته في المستقبل في حال بدا لها أن جميع خياراتها الأخرى أسوأ.
في سنة 1965، عززت إدارة الرئيس ليندون جونسون من تدخل الولايات المتحدة في فيتنام لإنقاذ حليفها الفيتنامي الجنوبي من الهزيمة. كانت هذه الأطراف تعتقد أن مزيجًا من القصف الجوي المتزايد تدريجيا والقتال البري من شأنه أن يقنع فيتنام الشمالية بالتخلي عن جهودها لتوحيد البلاد والحفاظ على النظام في سايغون، لكن الشيوعيين رفضوا الاستسلام وأثبتوا أنهم أكثر مرونة وقدرة مما كان متوقعًا، ولم يكن لدى واشنطن أي خطة بديلة.
في سنة 1968، لم يكن جونسون يرغب في الانسحاب ولكنه أدرك أن الأمريكيين ليس لديهم الجرأة للتصعيد أكثر، فأعلن بكل إحباط أنه لن يرشح نفسه لإعادة انتخابه وأوقف انتشار القوات الأمريكية، وقيّد عمليات القصف في الشمال، وترك مسؤوليّة التعامل مع هذه المشكلة إلى خليفته.
دخل ريتشارد نيكسون المكتب البيضاوي في كانون الثاني/ يناير 1969، ملتزمًا بنفس هدف سلفه وهو التوصل إلى تسوية تفاوضية تضمن سلامة وأمان فيتنام الجنوبية، لكنه كان يعلم أيضا أن صبر الولايات المتحدة في هذه الحرب بدأ ينفد. لذلك قرر نيكسون ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنجر، محاولة إقناع هانوي بالانضمام إلى طاولة المفاوضات باستعمال أدوات الترهيب والترغيب.
هذه الاستراتيجية الأولى للرئيس نيكسون فشلت لأن الشيوعيين استوعبوا الضربات ببساطة ووصفوا واشنطن بالمخادعة
قال رئيس أركان البيت الأبيض هاري روبنز هالدمان إن نيكسون أراد المزج بين التهديدات باستخدام القوة القصوى والوعود بتقديم مساعدات سخية، مضيفا: “من خلال اعتماد هذا المزيج من التحذير القوي والكرم غير المسبوق، كان نيكسون على يقين من أنه يستطيع إجبار الفيتناميين الشماليين، بعد انتظار طويل، على المشاركة في مفاوضات سلام شرعية.
كان التهديد هو الحل، وقد صاغ نيكسون عبارة لنظريته عندما قال: “أسميها نظرية المجنون، يا بوب. أريد أن يعتقد الفيتناميون الشماليون أنني وصلت إلى النقطة التي يمكنني أن أفعل فيها أي شيء لوقف الحرب. بالله عليكم أوصلوا هذا الكلام لهم، تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية. ولا يمكننا كبح جماحه عندما يكون غاضبًا – وقد وضع يده على الزر النووي – لذلك سيكون هو تشي منه نفسه في باريس خلال يومين متوسلًا من أجل السلام “.
لم تنجح جهود الإكراه السابقة للولايات المتحدة لأنها لم تؤخذ على محمل الجد بما فيه الكفاية، كما كان يعتقد. لكن يمكن للفريق الجديد إرهاب وإخضاع خصومه من خلال إظهار قوته. وقد أخبر كيسنجر موظفيه أن يخططوا “لضربة قاسية وعقابية” ضد العدو، حيث قال: “لا أستطيع أن أصدق أن قوة من الدرجة الرابعة مثل فيتنام الشمالية ليس لديها نقطة انهيار.”
في ربيع 1969، أمر البيت الأبيض بحملات قصف غير مسبوقة ضد المناطق الشيوعية في لاوس وكمبوديا. وبحلول الصيف، هددت الولايات المتحدة بهجمات مستقبلية ضخمة. وفي الخريف، أرسلت دوريات من قاذفات بي 52 المسلحة بالنووي الحراري على شكل أقواس حلقية من فوق الغطاء الجليدي القطبي باتجاه الاتحاد السوفيتي بهدف إخافة موسكو لكبح جماح هانوي.
لكن هذه الاستراتيجية الأولى للرئيس نيكسون فشلت لأن الشيوعيين استوعبوا الضربات ببساطة ووصفوا واشنطن بالمخادعة. غيَّر الرئيس مساره إدراكًا منه أن تنفيذ تهديداته سيجعل الأمور أسوأ وليس أفضل على أرض الواقع. وبحلول شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، كان قد تبنى استراتيجية ثانية للخلاص، وهي التقليل التدريجي من التدخل العسكري الأمريكي مع الحفاظ على الالتزام بالنظام الحالي في سايغون. وبعد ثلاث سنوات أخرى من الحرب، تم الوصول لاتفاق يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب واستعادة أسراها وعدم خيانة حليف بشكل رسمي. ومع ذلك، فإن نفس هذا الاتفاق مهد الطريق لسقوط جنوب فيتنام بعد ذلك بسنتين.
من فيتنام إلى أوكرانيا
بالنسبة لأولئك المهتمين بدفع قوة نووية أعتى إلى خارج حدود بلادهم، فإنه يمكن تعلم ثلاثة دروس من هذه الحلقة. الدرس الأول يتعلق بأهمية القتال البري الناجح. يحاول الأمريكيون في غالب الأحيان تحقيق النصر في الحرب من خلال إجراءات غير مباشرة مثل العقوبات أو القصف أو التهديد بأعمال مدمرة في المستقبل. لكن تظل الحقيقة أنه في نهاية المطاف يتم حسم الحروب في ساحة المعركة. إن المهارة العسكرية والعاطفة لدى الشيوعيين الفيتناميين أدت لثباتهم في الحرب ضد عدو أقوى ما قادهم في النهاية إلى الفوز بها.
يتكرر السيناريو نفسه في أوكرانيا الآن، حيث بدأت القوات الأوكرانية الماهرة والمتحمسة بدحر الروس معركة تلو معركة واستعادة قرية تلو أخرى. وإذا استمر هذا التقدم على الأرض فلن يؤثر أي شيء آخر وستنتهي الحرب في الوقت المناسب. لذا فإن تمكينها من الاستمرار يجب أن يكون على رأس أولويات واشنطن.
الدرس الثاني هو مقاومة الاستفزاز. لا ترضخ القوى الخاسرة بسهولة، خاصة القوى العظمى التي تكون هزيمتها مفاجأة سيئة. لذلك ينبغي للمرء أن يتوقع من موسكو أن تغضب حول واقعها الآن، تمامًا مثلما فعلت واشنطن قبل نصف قرن. فالتهديدات الصاخبة بالتصعيد علامة ضعف وليست علامة قوة. وإذا كان لدى روسيا خيارات جيدة لتغيير الوضع لصالحها لكانت قد استخدمتها بالفعل. وبالتالي يجب على الولايات المتحدة وأوروبا تجاهل التهديدات والاستفزازات الروسية وتجنب تشتيت انتباههم عن مهمتهم الرئيسية وهي: مساعدة أوكرانيا في الانتصار على الأرض.
أما الدرس الثالث هو دمج القوة والدبلوماسية. لقد كافحت الولايات المتحدة للقيام بذلك في كوريا، كما أشار كيسنجر في سنة 1957 عندما قال: “إن قرارنا بوقف العمليات العسكرية، باستثناء العمليات ذات الطبيعة الدفاعية البحتة في بداية مفاوضات الهدنة، يعكس قناعتنا بأن عملية التفاوض تسير بمنطقها الصحيح بشكل مستقل عن الضغوط العسكرية التي تمارس. لكن بوقف العمليات العسكرية نكون قد أزلنا الحافز الصيني الوحيد للتسوية، ونكون قد أحدثنا إحباطا عن عامين من المفاوضات غير الحاسمة”.
في المراحل اللاحقة من الوضع في فيتنام، تجنب كلا الجانبين هذا الخطأ وواصلوا القتال أثناء التفاوض. ومن المحتمل أن يحدث الشيء نفسه في أوكرانيا، لذلك يجب أن يتوقع الجميع زيادة تصعيد الحرب وليس انخفاضها مع اقتراب التسوية. لذلك ستحاول روسيا تغطية انسحابها بموجة من العنف للتنفيس عن غضبها بسبب الخسارة وإظهار قوتها المتبقية بشكل علني. ويمكن رؤية هذا النمط في ردة فعل بوتين على تدمير أوكرانيا لجسر مضيق كيرتش، كذلك ستتخذ نفس هذه الإجراءات مع النجاحات الأوكرانية المستقبلية.
أقل ما يجب المطالبة به هو العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 24 شباط/ فبراير، مما يوضح أن موسكو لم تكسب إقليميا من عدوانها
لكن مجدداً هذا ليس شيئا جديدًا. فقد كان أداء الولايات المتحدة أسوأ في حادثة ما يسمى تفجيرات عيد الميلاد في هانوي وهايفونغ في شهر كانون الأول/ ديسمبر 1972، وهي الغارات الأكثر تدميراً في حرب فيتنام بأكملها. (كما علَّق جون نيغروبونتي ساخرًا، وهو مساعد هنري كيسنجر عندما قال: “لقد قصفنا الفيتناميين الشماليين لقبول تنازلاتنا”). لم يدع الشيوعيون مثل هذا السلوك الأمريكي يعرقل جهودهم العسكرية أو الدبلوماسية في ذلك الوقت، كما لا ينبغي للغرب أن يترك مثل هذه الإجراءات الروسية تفعل ذلك الآن.
لا يخدم بوتين هتلر بل القياصرة. ورغم كل ادعاءاته المعادية للاستعمار، فإن الرئيس الروسي يقاتل لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الضائعة. وفي النهاية، عندما تسوء الحروب الاستعمارية، تخفض القوى الإمبريالية خسائرها وتعود إلى ديارها. كما تعرف النخب الحضرية الفرق بين الأراضي الأساسية والهامشية. وقد كانت عمليات التصويت التي تم ترتيبها في الأراضي التي تحتلها روسيا في أيلول/ سبتمبر محاولة يائسة لرسم سطح جميل يخفي على الواقع القبيح. (كان رجل الدولة الروسي في القرن الثامن عشر غريغوري بوتيمكين، المدفون في خيرسون، سيجد هذه الخطوة مسلية).
ولكن حتى الإدماج الرسمي لمستعمرة في الأراضي الوطنية التابعة لقوة عظمى لا يضمن الإقامة الدائمة؛ فقط اسأل “الأقدام السوداء” من الجزائر. وإذا ما تمكنت أوكرانيا من الاستمرار في الضغط العسكري الكافي، فستبدأ روسيا في مرحلة ما في البحث عن مخرج وستبدأ لعبة نهاية هذه الحرب بشكل جدي. وهو ما سينجر عنه ظهور الحلول الوسط الضرورية التي لا مفر منها من جميع الأطراف، وسيتعين إجراء مقايضات صعبة.
سوف تتعرض روسيا لرضوض ولكن لن تتعرض للعنف الشديد وسوف تُوبّخ لكن لن يقع إذلالها. ومثل البيت الأبيض في أوائل السبعينيات، سيكون الكرملين مهووسا بالحفاظ على نفوذه ومصداقيته في الداخل والخارج؛ حيث لن يكون ظهور أي تسوية استسلاما نابعا من الانهيار، بل قرارا متعمدا بالانسحاب من أجل وقف إراقة الدماء وإهدار الثروة ورأس المال السياسي. وبالنظر إلى مقدار القوة المتبقية التي ستحتفظ بها روسيا، سيتعين تأجيل بعض الأهداف الأوكرانية حتى تلك الرئيسية منها.
إن أقل ما يجب المطالبة به هو العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 24 شباط/ فبراير، مما يوضح أن موسكو لم تكسب إقليميا من عدوانها. كما يمكن أن يُبنى التقدم الذي تم تحقيقه هناك في مناطق أخرى، مثل مصير المناطق المحتلة الأخرى في دونباس، والوضع النهائي لشبه جزيرة القرم، وجرائم الحرب الروسية، والترتيبات الأمنية الإقليمية الأوسع نطاقا.
هل بوتين مخادع؟
هناك العديد من الأسباب التي تشير إلى أن روسيا لن تستخدم الأسلحة النووية في أوكرانيا. ولكن التهديد بها أمر منطقي، فهو يخيف الناس ويثير القلق والحذر لدى مؤيدي أوكرانيا، ويحث على دعوات لإجراء مفاوضات مبكرة لدرء الخطر، بدون أي تكلفة. مع ذلك، فإن استخدامها الفعلي من شأنه أن يعكس حساب التفاضل والتكامل، مما يجلب القليل من الفوائد والعديد من التكاليف الإضافية، بما في ذلك الانتقام والازدراء وفقدان الدعم الدولي. وهذا هو سبب في أن جميع التهديدات النووية السابقة منذ سنة 1945 لم تتم متابعتها بإجراءات. ومع ذلك، حتى لو تم استخدامها، فلن يؤدي ذلك إلى تحسين موقف روسيا أو تغيير النتيجة.
لا يزال الاستخدام النووي على نطاق واسع – لنقل مدينة كبيرة بقنبلة عملاقة – غير آمن بسبب الأنواع المتعددة من العواقب الكارثية لموسكو التي ستتبعها بسرعة. وبالتالي، فإن الاستخدامات الأقل احتمالا ستكون على نطاق أصغر، حيث ستشمل الرؤوس الحربية في الطرف الأدنى من الطيف النووي التكتيكي، إما فوق المناطق المهجورة في إطار استعراض للقوة أو ضد القوات الأوكرانية أثناء القتال.
سيكون إظهار العزم والنية الهدف الرئيسي من الاستعراض النووي. وقد أخذ صناع السياسات في العديد من البلدان مثل هذه بعين الاعتبار في كثير من الأحيان، والتي دائما ما كانت تُرفض لسبب وجيه. وستجعلها القيود ذاتها المفروضة على استعراض القوة، مثل المواقع النائية وعدد الضحايا القليل، غير فعالة من خلال نقل التردد وشحذ الهمم. إذا كنت خائفا من الانهيار هذه المرة، فلماذا ستكون أقل خوفا في المرة القادمة؟
بالنسبة لاستخدام الأسلحة النووية الصغيرة في القتال، فقد يكون ذلك مفيدا في سياقات عسكرية معينة، مثل إخراج حاملة طائرات في البحر، أو تدمير أسطول من الدبابات في الصحراء، أو سد ممر حاسم عبر الجبال. وهو ما لا يوجد في الحرب في أوكرانيا التي تتألف من وحدات صغيرة نسبيا تقاتل في أماكن قريبة على الأراضي التي تدعي روسيا الآن أنها تابعة لها. ولن يؤثر نشر أسلحة نووية تكتيكية في مثل هذه الظروف على الصورة الاستراتيجية الأكبر، ولكنه يخنق الأماكن ذاتها التي يُفترض أن موسكو تحاول إنقاذها.
حسب هذه السيناريوهات، ستظل أوكرانيا في طريقها لهزيمة روسيا على الأرض، وسيكون مؤيدوها الغربيون أكثر إصرارا على مواصلة دعمهم وحرمان موسكو من أي شيء يشبه النصر، وسيتبخر الدعم الأجنبي لروسيا. سيكون الاستخدام النووي مدمرا ذاتيا – ليس مقدمة لحرب عامة أو نموذجا يجب اتباعه، بل قصة تحذيرية من عدم الكفاءة الاستراتيجية المتهورة.
تتمثل الحقيقة المركزية لهذه الحرب في أنه لابد لأحد الجانبين أن يتفوق على الآخر في ساحة المعركة التقليدية، حيث يمتلك الجانب الخاسر أسلحة نووية ومن المرجح أن ينتهي الصراع، كما حدث من قبل، مع بقاء تلك الأسلحة على الهامش بينما تُحدد نتيجة الصراع. من بين الخسائر العديدة في الحرب في أوكرانيا، الأحكام المتعلقة بقيمة وفائدة الترسانات النووية الهائلة التي تحتفظ بها القوى العظمى بتكلفة كبيرة وجهد ومخاطر.
المصدر: فورين أفيرز