ترجمة وتحرير: نون بوست
يستعد المجتمع الدولي الآن لبقاء شي جين بينغ في السلطة بعد تمديد فترة زعامته للصين. فمن المنتظر أن يقرر المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، المزمع انعقاده في بكين يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر، تجديد ولاية شي ليكون أول زعيم يحكم الصين لمدة طويلة منذ عهد ماو تسي تونغ. ومن الممكن أن يظل شي في السلطة لمدة 10 إلى 15 سنة أخرى.
لقد أزال بالفعل القيود الدستورية وغيرها من القيود المفروضة على فترات الولاية، وسنّه لا يشكل عائقا أيضا. بعد كل شيء، سيبلغ الرئيس الأمريكي جو بايدن 82 سنة قبل نهاية ولايته الحالية، في حين أن شي لن يبلغ الـ 82 من عمره حتى سنة 2035. وللتأكيد، لا يستطيع شي تحديد مصير الصين بمفرده: هناك عدد من العوامل الأخرى التي ستشكل مستقبل الصين، بما في ذلك النظام الدولي والتنافس مع الولايات المتحدة والخصائص والتحديات الوطنية للصين. مع ذلك، مع بروز شي كواحد من أقوى قادة الصين الحديثة، فإن مراجعة العقد الأول الذي قضاه على رأس القيادة زودنا بمعلومات مفيدة حول مستقبل الصين على المدى القصير والمتوسط.
منذ وصول شي جين بينغ إلى السلطة في سنة 2012، تغيرت سياسة الصين الخارجية وكان تفاعلها مع العالم قائما على أربع استراتيجيات رئيسية. أولاً، لم تعد الصين ترغب في إخفاء مدى قوتها ونفوذها. عندما تولى شي زمام الحكم في سنة 2012، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين قد تجاوز لتوه نظيره الياباني، وكان أسطولها البحري لا يزال أضعف من اليابان. اليوم تعد الصين قوة عظمى والمنافس الوحيد للولايات المتحدة. لوضع صعود الصين في سياقه الصحيح، استعادت قوتها الاقتصادية الآن وضعها الذي كانت عليه قبل حرب الأفيون.
في سنة 1820، شكل الناتج المحلي الإجمالي للصين، استنادًا إلى تعادل القوة الشرائية، ما يقارب 60 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للصين والهند واليابان وروسيا. منذ ذلك الحين، أدى مزيج من النزعات الإمبريالية والحروب الأهلية والاضطرابات الاجتماعية الداخلية إلى إضعاف مكانة الصين باستمرار. في سنة 1990، في نهاية الحرب الباردة، بلغت حصة الصين 17 في المئة فقط. وبحلول سنة 2020، استعادت الصين مكانة مماثلة بين القوى الآسيوية الكبرى الأربع التي كانت تتمتع بها منذ 200 سنة. لولا النفوذ المتنامي للولايات المتحدة في آسيا، لكانت الصين بلا شك القوة المهيمنة الإقليمية اليوم.
يعد أهم جانب من جوانب القوة الجديدة للصين قدراتها البحرية المتنامية: على الرغم من أن طموحات القوة البحرية الصينية كانت موجودة قبل حكم شي، فقد توسعت القوات البحرية الصينية بشكل كبير في عهده. أصبحت الصين الآن قوة بحرية رئيسية لأول مرة منذ أوائل القرن الخامس عشر، عندما حكمت الصين البحار بأسطول الكنز الشهير – حتى قرر أباطرة مينغ المتعاقبون منذ سنة 1433 إغلاق أحواض بناء السفن الرئيسية في الصين تدريجيًا ما أدى إلى انغلاق البلاد على ذاتها. يتحدى صعود الصين المعاصر كقوة بحرية الهيمنة البحرية الأمريكية في المنطقة.
يعود صعود الصين إلى حد كبير إلى السياسات التي انتُهجت وأدت إلى صعود شي إلى سدة الحكم. مع ذلك، ربط شي عهده تمامًا بتنامي قوة الصين. عند توليه السلطة في سنة 2012، وضع شي تحقيق الحلم الخاص بالإحياء العظيم للأمة الصينية هدفه الرئيسي. بعد سنة، أعلن عن مبادرة الحزام والطريق الطموحة للغاية. وفي المؤتمر التاسع عشر للحزب في سنة 2017، صرّح شي بأن الصين لم تعد تخشى القيادة العالمية وتبذل جهودا حثيثة لتشكيل النظام الدولي.
كان خطاب مؤتمر الحزب نقطة تحول لأنه أكد صراحة تخلي الصين عن استراتيجية الزعيم السابق دنغ شياو بينغ المتمثلة في ” التواري عن الأنظار” في الشؤون العالمية، التي التزمت بها بكين حتى وقت قريب، لتبني سياسة خارجية أكثر طموحًا واستباقية. على الرغم من أن شي أوضح ببساطة ما هو جلي – أنه لم يعد من الممكن إخفاء قوة الصين – إلا أنه يمثل تحولًا رئيسيًا نحو سياسة خارجية صينية تتسم بطابع ديناميكي. مع أن ماو هو رمز تحرر الصين الشيوعية من الإمبريالية، ودينغ هو رمز المعجزة الاقتصادية الصينية، فقد أثبت شي نفسه كرمز لعودة الصين إلى الظهور كقوة عظمى على الساحة العالمية.
غذّ شي النزغة القومية الصينية التي تتجلى في التركيز القوي على الوحدة الوطنية وإظهار موقف متشدد بشأن القضايا الإقليمية، بما في ذلك إعادة توحيد تايوان مع البر الرئيسي
ثانيًا، تبنت بكين سياسة خارجية أكثر حزمًا مع تنامي استخدامها للسياسات الدبلوماسية القسرية. لم تتبع الصين سياسات عدائية منذ أن غزت فيتنام قبل 43 سنة، ولا يزال صعودها سلميًا. مع ذلك، كان التحول إلى السلوك الأكثر حزمًا واضحًا. ولا تسعى الصين إلى بناء قدراتها العسكرية فحسب، وإنها تستخدمها أيضًا – بوتيرة متزايدة.
في عهد شي، أرست الصين وضعًا طبيعيًا جديدًا في بحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان. تدخل سفن البحرية وخفر السواحل الصينية الآن المنطقة المتاخمة لليابان حول جزر سينكاكو بشكل يومي تقريبًا، وتتبع أنشطة القوات الجوية الصينية على مقربة من اليابان نمطًا مشابهًا. منذ سنة 2013، انخرطت الصين في عمليات تجريف غير مسبوقة وبناء جزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي، ووضعت قوات مسلحة على الجزر الجديدة. وقد أدى هذا إلى مفاقمة النزاعات الإقليمية القائمة بين الصين والدول المجاورة وتعقيد مهام الدوريات الأمريكية في المنطقة. أخيرًا، خلال السنوات القليلة الماضية، نفّذت الصين بالكثير من الطلعات بواسطة الطائرات المقاتلة والقاذفات إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي في تايوان.
تسمح ثروة الصين الجديدة بالمراوحة بين سياسة العصا والجزرة في العلاقات الثنائية بطرق غير مسبوقة، باعتبار دول جنوب شرق آسيا والهند أهدافًا خاصة لهذه السياسة. يُعد استخدام الصين المتزايد لعمليات النفوذ مثالًا آخر على نهج أكثر حزمًا. يبدو تغير سلوكها واضحا على مستوى المسؤولين الصينيين فيما يسمى بدبلوماسية ” الذئب المحارب”. يتصرف معظم الدبلوماسيين الصينيين بطريقة احترافية، لكن الضغط المتزايد من بكين لإظهار موقف أكثر حزما أدى إلى إظهار بعض الدبلوماسيين سلوكا عدائيًا.
عودة الأيديولوجيا هو التغيير الثالث في عهد شي جين بينغ. بدأ شي إحياء الفكر الماوي وشدد قبضته وقبضة الحزب على السياسة والاقتصاد والمجتمع – وحاول النأي بالصين بشكل متزايد بعيدًا عن الأفكار الغربية والليبرالية. بينما كان الانفتاح على العالم الخارجي جزءًا أساسيًا من النجاح الاقتصادي للصين على مدى العقود الأربعة الماضية، يشير عدد من التغييرات في السياسة إلى أن شي يوجه الصين نحو الاتجاه المعاكس. يعمل الحزب الحاكم على توسيع دوره في الاقتصاد، وتقوية سيطرته على وسائل الإعلام والإنترنت، وتقييد نشاط المنظمات غير الحكومية وتضييق الخناق على الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ، والحد مما يعتبره الحزب تلوثًا ثقافيًا غربيًا. ويبدو أن جهود كل من الصين والولايات المتحدة لفك الارتباط الاقتصادي بينهما لم تزده إلا متانةً.
غذّ شي النزغة القومية الصينية التي تتجلى في التركيز القوي على الوحدة الوطنية وإظهار موقف متشدد بشأن القضايا الإقليمية، بما في ذلك إعادة توحيد تايوان مع البر الرئيسي. وتتغذى المشاعر القومية في الصين من خلال تأجيج الاستياء المستمر من مظالم الماضي – ما تسميه بكين رسميًا “قرن الإذلال” من قبل الغرب. وأخيرًا، يروج شي لوجهة نظر عالمية مركزية.
ربط شي عهده بشكل وثيق بقوة الصين المتنامية، واتبع سياسة خارجية أكثر حزما مع هوية أيديولوجية أقوى إلى حد ما، وسمح بمساحة أقل للنقاش والمعارضة
كان الفكر الماوي يقوم على هذه المبادئ، لكن نسخة شي للقرن الحادي والعشرين من رؤية مركزية الصين مختلفة. بينما كان ماو يأمل في إعادة ترسيخ مكانة الصين المركزية في الشؤون العالمية من خلال إيجاد طريقة صينية فريدة لتحقيق الشيوعية العالمية ورفض ثقافة الصين وتاريخها بعدة طرق وشن حملات مناهضة للكونفوشيوسية، يبني شي على جهود أسلافه جيانغ زيمينو وهو جين تاو في إحياء الكونفوشيوسية والجوانب الأخرى للصين ما قبل الثورة وغالبًا ما يصور شخصيات ما قبل الحداثة في الصين كمصدر للفخر والإلهام.
إن محاولة بناء النموذج الصيني للعلاقات الدولية على أساس الأدبيات الصينية الكلاسيكية هي أحد أعراض هذه النظرة للعالم. عندما أعلن شي في المؤتمر التاسع عشر للحزب أن الصين مستعدة لتقديم الحكمة والخبرة من نموذجها الخاص إلى البلدان النامية الأخرى، كان يشير إلى مزيج من رأسمالية الدولة والدولة اللينينية والفكر الصيني الكلاسيكي المسمى رسميًا “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.
قد تكون نزعة شي المركزية للصين حاجزًا أمام التأثيرات الغربية، لكنها تدعو إلى زيادة التعاون مع بقية العالم، وتعلق أهمية كبيرا على حوار جديد بين بلدان الجنوب، وتؤكد أن الصين تلعب دورًا رئيسيا أكبر في المؤسسات امتعددة الأطراف والنظام الدولي.
لعل التغيير الرئيسي الرابع في عهد شي هو إضفاء الطابع الحديث على عملية صنع السياسة الخارجية. خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت الصين انقسامًا تدريجيًا في سياستها الخارجية مع تزايد عدد الوكالات على المستوى المركزي ومستوى المقاطعات التي تؤثر على صنع القرار والتنفيذ. عكس شي هذا الاتجاه، مما أدى إلى سياسة خارجية أكثر مركزية وذات طابع شخصي.
يشكل النظام الذي يعاني من انقسامات خطرا واضحا، لكن النظام شديد المركزية مع وجود قائد واسع النفوذ في الحكم من المرجح أن يسكت كل المناقشات والآراء البديلة. يزيد النظام الصارم الهرمي من مخاطر اتخاذ استراتيجيات قائمة على سوء التقدير وسوء الحكم وارتكاب الكثير من الهفوات الفادحة. فعلى سبيل المثال، مثّل سوء تقدير الكرملين الملحمي الذي دفعه إلى غزو أوكرانيا تذكيرًا صارخًا بالعواقب المحتملة لأي تحرك يقوم به.
باختصار، ربط شي عهده بشكل وثيق بقوة الصين المتنامية، واتبع سياسة خارجية أكثر حزما مع هوية أيديولوجية أقوى إلى حد ما، وسمح بمساحة أقل للنقاش والمعارضة في صنع السياسة الخارجية. وقد تسبب هذا النهج في حدوث احتكاكات بين البلدان المجاورة للصين وأدى إلى تدهور علاقة بكين بواشنطن والعواصم الأوروبية.
القوة المتزايدة والقومية والنزعة الصينية والسلوك الحازم والحيز المحدود للنقاش حول السياسة الخارجية للصين، كلها عوامل معززة لنفوذ الصين لاسيما في خضم تنافس القوى العظمى
ماذا يخبرنا العقد الأول من حكم شي عن العقد التالي؟ بالطبع، هناك دائمًا احتمال أن يقود زعيم قوي إصلاحات جريئة أو صدمات – مثل تعثر الاقتصاد الصيني – قد تزيد في هيمنة شي وتكون حافزا للتغيير. في السيناريو الأول، اتخذت بكين مؤخرًا خطوات لتحسين صورتها في الخارج حيث شجع شي قيادات الحزب والدبلوماسيين على أن يكونوا “متواضعين” أثناء إجرائهم محادثات مع بقية دول العالم. تحاول الصين أيضًا السيطرة على الأضرار للحفاظ على علاقتها مع أوروبا.
لكن هذه المبادرات كانت إلى حد كبير سطحية بدلاً من كونها إشارات إلى إصلاحات جذرية: لا شيء يوضح استمرار شي في انتهاج السياسة الخارجية ذاتها أفضل من إعلانه رفقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن شراكة “بلا حدود” ناهيك عن أزمة تايوان الأخيرة، وكلاهما يلقي بظلاله على الآثار المحتملة لجهود بكين التصالحية. ومن المرجح أن تواجه المبادرات المستقبلية لتعديل السياسة النتيجة الوخيمة ذاتها.
وفقًا للسيناريو الثاني، يتعثر الاقتصاد الصيني بالفعل في ظل التوقعات المتواضعة لنمو الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2022 بحوالي 2.8 بالمئة وفقًا للبنك الدولي. وقد أدت سياسة “صفر كوفيد” وأزمة سوق الإسكان إلى تراجع النمو الاقتصادي للبلاد مقارنة بالنمو الاقتصادي في بقية آسيا للمرة الأولى منذ أكثر من 30 سنة. لذلك ينبغي أن نتوقع أن يتحدث شي عن الاقتصاد الصيني المتعثر في مؤتمر الحزب القادم.
من المحتمل أن تؤدي إعادة فتح الاقتصاد الصيني بعد الجائحة، على سبيل المثال، إلى طفرة قوية في النشاط الاقتصادي، مع زيادة الاستهلاك والتجارة والاستثمار. مع ذلك، فإن التحدي الذي تواجهه الصين هو أنها أصبحت قوية وحازمة قبل أن تصبح غنية. على الرغم من أن إجمالي الناتج المحلي للصين هو ثاني أكبر ناتج محلي في العالم بعد الولايات المتحدة، إلا أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز المتوسط العالمي تقريبًا.
لتعزيز النمو، ستستفيد الصين من اقتصاد مفتوح ومترابط عالميًا. ولكن في مواجهة الانقسامات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، فإن المخاوف الأمنية للصين سوف تتفوق على احتياجاتها الاقتصادية. ولا شك أن شي سيزيد من تركيز الصين على الاكتفاء الذاتي وتطوير التكنولوجيا المحلية.
هناك سبب قوي آخر لتوقع أن يلتزم شي بالأجندة السياسية التي وضعها. إن القوة المتزايدة والقومية والنزعة الصينية والسلوك الحازم والحيز المحدود للنقاش حول السياسة الخارجية للصين، كلها عوامل معززة لنفوذ الصين لاسيما في خضم تنافس القوى العظمى. وبالتالي، فإن السيناريو الأكثر منطقية هو أن يواصل شي توجيه الصين على نفس المسار الذي اتبعه خلال العقد الأول من الحكم. تشبه السياسة الخارجية للصين في عهد شي بشكل متزايد “ركوب النمر” – وهي عبارة تشير إلى المثل الصيني القائل إن “الشخص الذي يركب على ظهر النمر سيواجه مصاعب جدية عندما يحاول النزول عنه”. وينطبق الأمر ذاته على شي الذي ينبغي أن يتوقع رحلة وعرة بينما يستعد للبقاء في السلطة لفترة أطول.
المجلة: قورين بوليسي