كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عن تفاصيل الاتصال الذي أجراه معه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 2022، منوهًا أنه اتفق معه على تقديم المملكة مساعدات مادية لبلاده والتعاون في إطلاق سراح أسرى الحرب.
وأشار زيلينسكي في تغريدة له على حسابه على تويتر “تحدثت مع ولي العهد السعودي هاتفيًا وشكرته على دعم وحدة أراضي أوكرانيا”، فيما قالت وكالة الأنباء السعودية أن المملكة ستقدم مساعدات إنسانية لأوكرانيا تبلغ قيمتها 400 مليون دولار، وأن ولي العهد أبدى استعداده لأداء بلاده دور الوساطة من أجل خفض التصعيد والتوصل إلى حل سياسي عاجل.
الاتصال يأتي في وقت تواجه فيه الرياض اتهامات بالانحياز للمعسكر الروسي في الحرب الأوكرانية في أعقاب قرار منظمة “أوبك +” الخاص بتخفيض الإنتاج النفطي اليومي بنحو مليوني برميل، وهو ما أغضب الشريك الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة التي تتصاعد بداخلها الأصوات المطالبة بإعادة تقييم العلاقات مع المملكة ردًا على هذا الموقف الذي تسبب في خيبة أمل كبيرة للأمريكان في حليفهم الخليجي.
Spoke to Crown Prince of Saudi Arabia Mohammed bin Salman. Thanked for supporting Ukraine’s territorial integrity, resolution at the UN General Assembly. We agreed to interact in the release of ?? prisoners of war. We agreed on the provision of ?? macro-financial aid to Ukraine.
— Володимир Зеленський (@ZelenskyyUa) October 14, 2022
8 أشهر من الصمت
التزمت الرياض الصمت إزاء الحرب الروسية الأوكرانية منذ انطلاقها في 24 فبراير/شباط الماضي، فقد نأت بنفسها عن الاقتراب من هذا الملف الحساس الذي قد يعرض علاقتها بأحد حليفيها للخطر، الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما جعلها على منحى الحياد طيلة الأشهر الثماني الماضية.
ورفضت المملكة الالتزام بالعقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على روسيا واستمرت في التعاملات المالية مع المصارف الروسية، كما عمقت من علاقتها مع خصمي واشنطن في تلك المواجهة، موسكو وبكين، وذلك في إطار برغماتي بحت في ضوء العلاقات بين الطرفين سواء داخل منظمة أوبك بلس أم خارجها.
وحاولت الرياض الوقوف على مسافة واحدة قدر الإمكان من معسكري الحرب، في مسعى منها للنأي عن فخ الاستقطاب الذي يهيمن على المشهد، وهو الموقف الذي فسره البعض بأنه محاولة لـ”الانتقام” من الولايات المتحدة على مواقفها المناوئة للمملكة التي حملت في بعضها تهميشًا لولي العهد والتقليل من دوره.
ولم تجد السعودية مناخًا مناسبًا كهذا المناخ لرد الصاع إلى إدارة بايدن والديمقراطيين، لكنها في الوقت ذاته تخشى تبعات تلك السياسة إذا انحازت بشكل كامل إلى المعسكر الروسي الذي قد يكلفها الكثير خاصة في ظل توحد الموقف الغربي إزاء تلك القضية عكس المتعارف عليه طيلة السنوات الماضية.
سمو #ولي_العهد يجري اتصالاً هاتفيًا بالرئيس الأوكراني.https://t.co/ZNWO0bigWb#واس pic.twitter.com/VemfmCYdF1
— واس الأخبار الملكية (@spagov) October 14, 2022
أكبر المستفيدين
قبل الحرب الروسية عانت المملكة من تهميش واضح وعزلة دولية نسبية في أعقاب الاتهامات المتلاحقة المصوبة تجاه سجلها الحقوقي المشين والجرائم التي تورط فيها ولي العهد ومساعدوه، بداية من مقتل جمال خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول 2018 مرورًا بالانتهاكات التي تحدث في اليمن وصولًا إلى الاستهداف الممنهج للمعارضة والنشطاء في الداخل والخارج على حد سواء.
ثم جاءت الحرب لتدفع بالمملكة كلاعب مهم على الساحة لما تمتلكه من نفوذ نفطي في وقت يعاني فيه العالم من أزمة طاقة خانقة بسبب وقف الإمدادات الروسية التي تشكل 40% من احتياجات الغرب، فتحولت المدن السعودية، جدة والرياض، إلى قبلة زعماء العالم، البداية كانت من رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الذي زار العاصمة السعودية في 16 مارس/آذار الماضي في محاولة لإقناعها بزيادة ضخ النفط في الأسواق العالمية والتأثير على دول أخرى في هذا الاتجاه، بينها الإمارات، ثم بايدن في منتصف يوليو/تموز الماضي حين زار جدة وحضوره القمة الخليجية هناك.
الحرب عززت من نفوذ المملكة السياسي بشكل واضح، وتحول الديوان الملكي إلى “سنترال” للاتصالات من مختلف زعماء وقادة العالم، ممن يتباحثون مع القيادة السعودية سبل تخفيف تداعيات الأزمة من خلال الضغط على أوبك لزيادة معدلات الإنتاج في محاولة لضبط الأسعار وتوازن السوق.
وعلى المسار الاقتصادي من الاستفادة السعودية من تلك الحرب، تأتي أسعار النفط التي شهدت قفزات هائلة قبل أن تعود مؤخرًا إلى مسارها الطبيعي، وهو ما يصب في صالح المملكة وجميع الدول النفطية التي أُنعشت خزائنها بنسب زيادة الأسعار التي شهدها السوق، وهو ما يمنحهم القدرة للتعاطي مع تبعات الحرب الاقتصادية كالتضخم والبطالة وزيادات الأسعار وخلافه ويجعلهم من أقل الدول تأثرًا بتلك الارتدادات التي أثرت على الاقتصاد العالمي برمته.
وكلما زادت وتيرة التصعيد في أوكرانيا زادت استفادة السعودية وحلفاء النفط، وعليه فإن استمرار الحرب ربما يصب في صالحها، سياسيًا واقتصاديًا، ويدفع الكثير من القوى التي كانت تتحفظ على أداء المملكة الحقوقي إلى غض الطرف والتراجع خطوة للوراء بمنهجية برغماتية بحتة، إلى أن جاء موقف أوبك الأخير ورد الفعل الأمريكي ليحرك المياه الراكدة في هذا المسار المتجمد، ويدفع الرياض إلى الدخول ولأول مرة على خط الأزمة، ليجد ولي العهد نفسه مضطرًا بعد 8 أشهر من انطلاق الحرب أن يهاتف الرئيس الأوكراني في تطور يعكس الكثير من الدلالات.
غضب أمريكي
تعرضت المملكة لانتقادات قاسية من النخب البرلمانية والسياسية في الولايات المتحدة جراء موقفها الأخير الذي اعتبره البعض تحيزًا واضحًا للمعسكر الروسي، وهو ما يضر بمصلحة أمريكا وحلفائها الأوروبيين الذين يعانون من أزمة طاقة لم تشهدها بلادهم منذ عقود طويلة.
التصريحات الصادرة من المطبخ السياسي الأمريكي منذ 5 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ تذهب جميعها في اتجاه التصعيد مع الرياض الذي جاء قرارها بصفتها العضو الأكثر ثقلًا في منظمة أوبك في لحظة مهمة وحساسة للولايات المتحدة، كما أنها تأتي بعد شهرين ونصف فقط من لقاء بايدن مع ولي العهد السعودي في جدة، وقبل خمسة أسابيع من انتخابات التجديد النصفي لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يمكن أن يكون له تبعات تهدد بقاء الإدارة الحاليّة داخل البيت الأبيض.
ووصلت التصريحات إلى حد المطالبة بقطع العلاقات مع المملكة، فيما ذهب آخرون إلى وقف الإمدادات العسكرية وغلق صنبور صفقات التسليح ورفع غطاء الحماية عن الخليج في مواجهة طهران، الأمر تجاوز المواقف الفردية التي تعكس توجهات متطرفة أحيانًا إلى الموقف الرسمي، وهو ما كشفته تصريحات وزير الخارجية والمتحدث باسم البيت الأبيض.
ففي تصريحاتها في الملخص الإعلامي اليومي للبيت الأبيض 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022 قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير: “منذ بداية الإدارة، منذ توليه منصبه، كان الرئيس واضحًا جدًا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى نوع مختلف من العلاقة مع المملكة العربية السعودية. لقد قال ذلك منذ وقت مبكر جدًا. وقد قلت هذا الأسبوع الماضي عندما اتخذت أوبك قرارًا بمواءمة سياستها للطاقة مع حرب روسيا فإن الحرب تستهدف وضد الشعب الأمريكي وتؤكد بشكل أكبر على المنطق بإعادة تنظيم تلك العلاقة مع المملكة العربية السعودية”.
وتابعت قائلة “نحن نراجع أين نحن الآن، وسنراقب عن كثب خلال الأسابيع والأشهر القادمة أيضًا، ونتشاور مع حلفائنا وأيضًا مع أعضاء الكونغرس وسيتم اتخاذ القرارات، ولأكون واضحة، لن أستبق ذلك، لكن هذه هي العملية التي سنتخذها”.
وفي سؤال بشأن الإطار الزمني لمراجعة تلك العلاقات ردت بيير: “ليس لدينا جدول زمني، لكن من الواضح أن هذا شيء سنراقبه عن كثب، وقلنا منذ البداية، نحن بحاجة إلى نوع من إعادة التقييم وأن تكون لدينا علاقة مختلفة مع المملكة العربية السعودية، خاصة بعد القرار الذي اتخذته أوبك+، وكنا واضحين جدًا بشأن ذلك الأسبوع الماضي”.
وفي تصريحات سابقة له على هامش مؤتمر صحفي عقد بعد ساعات قليلة من قرار أوبك، أكد وزير الخارجية أنطوني بلينكن أن بلاده تدرس “عددًا من خيارات الرد” في إشارة منه إلى علاقات بلاده مع المملكة، فيما تقدم 3 أعضاء من مجلس النواب الأمريكي بمشروع قانون يقضي بإزالة الأصول العسكرية الأمريكية الموجودة في السعودية والإمارات.
مسك العصا من المنتصف
دخول السعودية على خط الأزمة الأوكرانية بعد غياب طويل في ضوء السياق الأخير يمكن قراءته في إطار محاولة الرياض امتصاص غضب الحليف الأمريكي وتهدئة الأجواء بعد الاتهامات الخاصة بدعم موسكو على حساب المعسكر الغربي الذي تربطه بالمملكة خريطة متشابكة من المصالح والعلاقات.
تسعى الرياض من خلال إعلانها دعم كييف ماديًا بالإيحاء بالاصطفاف سياسيًا إلى جانب أوروبا وأمريكا الداعمين الأكبر لأوكرانيا في مواجهة روسيا، إذ جاء هذا الموقف بعد أقل 48 ساعة على تصويتها لصالح قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين ضم روسيا لأربع مناطق أوكرانية، وهي الخطوة التي رحب بها متحدث مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، لكنه قال إن ذلك الموقف في الأمم المتحدة “لا يمحو حقيقة أن القرار الذي اتخذته أوبك+ كان غير ضروري”.
وفي السياق ذاته، تعزز الرياض من جهودها الدبلوماسية للانخراط أكثر في الملف الأوكراني من خلال إعادة الحديث مرة أخرى عن وساطتها لحل أزمة الأسرى بجانب عرض جهود الوساطة بين موسكو وكييف لاحتواء التصعيد، وكانت روسيا – بعد وساطة سعودية – قد أطلقت أواخر سبتمبر/أيلول، سراح 10 أجانب أسرتهم في أوكرانيا، بينهم خمسة بريطانيين وأمريكيين اثنين، فيما أعاد الرئيس الأوكراني هذا الملف مرة أخرى خلال اتصال الأمس مع ابن سلمان.
في ضوء ما سبق، فإن دعم أوكرانيا بالمال وعرض جهود الوساطة والتصويت لصالح قرار إدانة الضم الذي تأتي في إطار “تحركات سياسية”، لا يمكن اعتباره تغريدًا في مسار معاكس للروس، إذ تشهد العلاقات الروسية السعودية هذه الأيام حالة من التناغم غير المسبوق، غير أن المملكة وبمنطق مسك العصا من المنتصف تحاول كسب حليفها الغربي سياسيًا عبر تلك الإجراءات مع الإبقاء على علاقتها الرصينة مع الحليف الشرقي من خلال قرارات اقتصادية ميدانية تتمثل في موقف أوبك الذي لم ولن تتراجع عنه الرياض في الوقت الحاليّ رغم ما يحمله من مخاطر لحليفها الغربي، وبعد أن حققت أهدافها المرجوة منه، اقتصاديًا وسياسيًا، وهنا يبقى السؤال: إلى أي مدى تنجح السعودية في تلك السياسة؟ وماذا لو أجبر الجميع على وقف الحرب بشكل مفاجئ؟ أي سيناريو من شأنه أن يرسم العلاقات السعودية الغربية مستقبلًا التي بلا شك لن تكون كما كانت قبل 24 فبراير/شباط 2022؟