ترجمة وتحرير: نون بوست
في مطلع نيسان/ أبريل 1948، كتب ديفيد بن غوريون في مذكراته عن “تطور العلوم وتسريع تطبيقها في الحرب”. بعد شهر ونصف، كتب عن “مواد بيولوجية” وقع شراؤها مقابل ألفي دولار. وبعد 74 سنة، اكتُشفت الآن فقط العلاقة بين الاثنين. كشف المؤرخ بيني موريس والمؤرخ والحائز على جائزة إسرائيل بنيامين ز. كيدار عن هذه الحيثيات المثيرة للجدل بعد بحث أرشيفي مكثّف. ومن الواضح أن مقتطفات من مذكرات هذا الرجل الذي كان أول رئيس وزراء لإسرائيل هي دليل على تورطه في عملية سرية لتسميم مياه شرب القرى العربية خلال حرب الاستقلال.
كُشف جزئيًا عن هذه العملية قبل عقود عندما ظهرت شائعات وشهادات شفوية في الصحف والكتب حول محاولة الجيش الإسرائيلي في سنة 1948 تسميم الآبار في عكا وغزة عن طريق إضافة البكتيريا إلى مياه الشرب. ويتضمن بحث موريس وكيدار “هذا الدليل الدامغ” – في شكل وثائق رسمية. تظهر الوثائق التي تم اكتشافها مؤخرًا أن هذه العملية كانت أوسع نطاقًا مما كان يُعتقد سابقًا وأن شخصيات عسكرية وسياسية رفيعة المستوى أخرى إلى جانب بن غوريون متورطةٌ في هذه الجريمة.
يقول موريس “لقد اكتشفنا الكثير من المعلومات الجديدة. حللنا تفاصيل تطور العملية خلال مراحلها المختلفة؛ واكتشفنا من أعطى التفويض بالعملية ونظمها وقادها، وكيف تم تنفيذها في مناطق مختلفة”. ويضيف كيدار: “قمنا ببناء صورة أكثر شمولا الآن وهي تستند جزئيًا إلى وثائق جيش الدفاع الإسرائيلي”.
نشر الثنائي مؤخرًا مقالًا في مجلة الدراسات الشرق أوسطية بعنوان “ألق الخبز: الحرب البيولوجية الإسرائيلية خلال حرب 1948”. كان مصطلح ألق الخبز الاسم الرمزي للعملية. بطبيعة الحال، فإن معظم المواد المتعلقة بالحادثة تخضع للرقابة، ولكن عندما بحث موريس في أرشيفات الجيش الإسرائيلي عن أي ذكر لعملية بهذا الاسم تفاجأ باكتشاف العديد من الوثائق. كتب موريس في المقال أن الرقيب لم يكن على ما يبدو على علم بما يشير إليه الاسم الرمزي.
أرسل ديان – الذي كان اسمه الرمزي “موشيه نبتون” – برقية إلى يادين: “سوف تُنفّذ عملية ألق الخبز من قبل نحشون [وهم الجنوذ الذي قاموا بعملية نحشون، والتي شملت لواء هارئيل] يوم الإثنين أو الثلاثاء. سآتي في منتصف الأسبوع بكل المواد”.
أصدر يادين تعليمات لكبار قادة جيش الدفاع الإسرائيلي تفيد بأن “هناك حاجة فورية لتعيين ضابط خاص من أجل عملية “ألق الخبز” والمسألة ذات أهمية قصوى ويجب أن تحرص على السرية التامة”.
وفي برقية أخرى كتب يادين: “ضع في الآبار مادة تابعة لعملية “ألق الخبز”. وفي برقية أخرى كتب: “هل هناك إذن باستخدام “المادة البيولوجية” [المشار إليها بالحرف العبري بيت] في المناطق التي ستخضع للإخلاء؟”.
بدأت العملية في نيسان/رأبريل 1948، عندما كانت المخاوف تتصاعد من غزو الجيوش العربية. كانت الخطة تهدف إلى تسميم الآبار في القرى العربية المهجورة وكذلك في المناطق اليهودية التي كان من المقرر إخلاؤها من قبل المحتل. كان الهدف من العملية منع العرب من العودة إلى قراهم والاستيطان في مناطق يهودية تقع تحت سيطرتهم.
ركزت العملية في البداية على المنطقة الواقعة بين القدس وتل أبيب، ثم امتدت لاحقًا إلى عكا شمالًا وغزة جنوبًا. تشير الأدلة إلى أنها تضمنت لاحقًا – سواء في التخطيط أو في الواقع – مجتمعات أخرى مثل أريحا وبئر السبع وعيلبون وبدّو وبيت سوريك وبيت محسير وهار طوف (بعد إجلاء اليهود). كما تم اقتراح إمكانية إضافة أهداف خارج إسرائيل مثل القاهرة وبيروت، لكن هذا المخطط بقي مجرد حبر على ورق. كان الهدف من ذلك عرقلة تقدم الجيوش العربية.
وجد موريس أدلة مثيرة حول العملية في أرشيف كيبوتس نعان في شهادة قدمها سنة 1988 عضوة الكيبوتس عالم الآثار شيماريا غوتمان الذي كان قائدًا في البلماح (سرايا الصاعقة) وضابطًا كبيرًا في المخابرات في الجيش الإسرائيلي. روى غوتمان كيف أبلغه الجنرال يوهانان راتنر، القائد الأعلى الذي كلفه بن غوريون برئاسة العملية، بإرسال “شخصين إلى الحدود المصرية للقيام بهذه المهمة [المتعلقة] بالآبار”. كان هذان الاثنان هما دافيد مزراحي وعزرا حورين (أفجين)، اللذان انطلقا للمهمة في غزة في 22 أيار/ مايو سنة 1948، لكن تم القبض عليهما ومحاكمتهما أمام محكمة عسكرية مصرية بتهمة تسميم الآبار بالبكتيريا، وتم إعدامهما في وقت لاحق.
ذكر غوتمان أنه عارض العملية بشدة لأسباب أخلاقية وحذر أيضًا من أن تسميم المياه قد يضر اليهود أيضًا. وقال لراتنر: “اسمع، قد نحتل هذه المنطقة غدًا ونشرب من مياهها، وسيصاب كل جيشنا أيضًا بالتيفوئيد أو الزحار”. وعندما طلب إصدار الأمر كتابيًا، رُفض طلبه. “أخبرني [راتنر] لن أصدر شيئًا من هذا القبيل أبدًا [كتابيًا]”. تساءل غوتمان “ما نوع المواد التي يتحدثون عنها – “سائل أم مسحوق … ثم رجّح أن تكون المواد في شكل مسحوق”. وقد أشار أيضًا إلى أنه “تم القبض على الاثنين متلبسين”.
تم إخفاء شهادة أخرى عثر عليها موريس وكيدار في مقابلة أجراها السفير السابق آشر بن ناتان مع المؤرخ نير مان سنة 2008. وصف بن نتان مرحلة أخرى من العملية: محاولة تسميم آبار في القاهرة. في صيف 1948، كان بن ناتان في باريس كجزء من منصبه في المخابرات العملياتية. استقبله هناك ضابط المخابرات بنيامين جبلي وأعطاه “كبسولة لتسميم الآبار في القاهرة”. لكن الخطة ألغيت، وقال بن ناتان: “بقيت كبسولة السم معي، وفي النهاية تخلصت منها في المجاري.” وجد موريس وكيدار أيضًا دليلاً على ذلك في أرشيف الجيش الإسرائيلي في وثيقة تعود لأيلول/ سبتمبر سنة 1948، كتب فيها يادين: “يرجى الاتصال قريبًا … فيما يتعلق بتفعيل عملية “ألق الخبز” في الخارج”.
تُظهر الوثائق أن بن غوريون كان على قمة الهرم يليه يادين الذي أشرف على الجانب العسكري من العملية وقاد العملية يوهانان راتنر. في البداية، كان دايان هو الرجل الأبرز في المجموعة، الذي أصبح فيما بعد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ووزير الدفاع. وتشير الوثائق إلى أن دايان كان المهرّب الذي نقل البكتيريا من “ساينس كوربس” إلى نقاط مختلفة في جميع أنحاء البلاد. كما شارك في العملية دافيد شلتئيل، قائد لواء إيتزوني في القدس. كما انضم في وقت لاحق ضابط المخابرات عزرا هيلمر (الذي أصبح اسمه لاحقًا عومر، رئيس دائرة استخبارات هيئة الأركان العامة لمنظمة هاغاناه). ولا تزال هوية شخص آخر شارك في العملية مجهولة ويشار إليه في البرقيات باسم “مزراحي”.
في البداية، كان الجنود العاديون، مثل جنود الكتيبة الرابعة في لواء حاريل، هم من قاموا بالعمل القذر على غرار تسميم الآبار. وفي وقت لاحق، تم تكليف أفراد من الفرقة العربية في البلماح، “ميستارفيم”، المتخصصين في عمليات التخريب والاغتيالات في أراضي العدو.
من الناحية العلمية، أشرف على صناعة السم أشخاص من فرقة “ساينس كوربس بِت”، وهي وحدة فرعية في سلاح العلوم كانت مهمتها التصدي للحرب البيولوجية. كان يرأسها أليكس كينان، الذي أسس المعهد الإسرائيلي للبحوث البيولوجية في نيس تسيونا. وقد أشرف على العمل العلمي الأخوان كاتشالسكي (كاتسير): عالم الفيزياء الحيوية إفرايم كاتسير، القائد الأول “لساينس كوربس” والحائز على جائزة إسرائيل والرئيس الرابع لإسرائيل، وشقيقه الأكبر العالم أهارون كاتسير من معهد وايزمان، الذي قُتل في هجوم 1972 في مطار اللد. يقول موريس “شارك أيضا في العملية سلسلة من المساعدين الذين أصبحوا أساتذة في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية”.
هذه العملية تحاكي خطة “أفينجرز” بقيادة أبا كوفنر لتسميم مصادر المياه والغذاء في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية للتسبب في قتل جماعي. شارك الأخوان كاتسير أيضًا في هذه العملية، وزودوا كوفنر بالسم لكنه في النهاية ألقى به في البحر قبل أن يعتقله البريطانيون. يعتقد موريس وكيدار أن الهدف من عملية الجيش الإسرائيلي لم يكن التسبب في القتل الجماعي وإنما تعطيل تحركات العرب. وفي النهاية، لم تغير العملية وجه الحرب.
وحسب تقارير مختلفة، أصيب عشرات العرب بالمرض، خاصة في عكا. وأثارت العملية انتقادات لاذعة داخل النظام – سواء داخل الجيش الإسرائيلي أو بين قيادة ييشوف – بصورة جزئية لأنها انتهكت بروتوكول جنيف لسنة 1925 الذي يحظر “استخدام العمليات البكتريولوجية في الحرب”.
المصدر: صحيفة هآرتس