لم ينتظر الصدر أكثر من يومين حتى انفجر بالحكومة الجاري تشكيلها، فبعد انتخاب البرلمان العراقي – الخميس الماضي – مرشح التسوية عبد اللطيف رشيد رئيسًا للجمهورية، الذي كلف بدوره محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة الجديدة للبلاد، أعلن زعيم التيار الصدري – على لسان المقرب منه محمد صالح العراقي – رفضه المشاركة في الحكومة المقبلة، وهو موقف معلن نسف الكثير من التحليلات والآراء التي تحدثت عن اتفاق غير معلن مع خصومه في الإطار التنسيقي.
بعيدًا عن موقف الصدريين وما تريده جماهير التيار، يمضي الإطار التنسيقي – الذي يملك أكبر عدد من النواب في البرلمان بعد انسحاب الكتلة الصدرية – في مسيرته نحو إتمام العملية السياسية، إذ تريد القوى المعنية بتكليف السوداني الإسراع بتشكيل الحكومة عبر مباحثات واسعة مع الأطراف الأخرى من القوى السنية والكردية بعد سنة عجفاء من الانقسام والخصام، إذ يمثل تكليف مرشح بتشكيل الحكومة خطوة وضعت حدًا لشلل مؤسساتي، مع فشل القوى السياسية الكبرى على الاتفاق منذ الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
يعرف المكلف بتشكيل الحكومة نتائج تلك الضغوط ويحاول الإسراع بتقديم كابينته الوزارية إلى البرلمان استباقًا لأي تصعيد مناهض له
كان ملايين العراقيين يتوقعون وينتظرون موقفًا من الصدر ينسف جلسة الخميس، لكن زعيم التيار اختار توقيتًا مغايرًا لإعلان موقفه الرافض والمندد بحكومة توافقية يشكلها خصومه في الإطار، فقد نقل مشروعه من العملية السياسية إلى قواعده الشعبية، عبر الضغط بجماهيره الغاضبة وجمهور احتجاجات تشرين الذي يستعد لجولة جديدة في الـ25 من الشهر الحاليّ، يتوقع منها أن تكون عنصرًا ضاغطًا موازيًا على القوى التقليدية، تزيد القوى المدنية الضغط بإعلانها جبهة موحدة تضم ثمانية أحزاب وحركات باسم “قوى التغيير الديمقراطية” التي أعلنت في بيان تأسيسها موقفًا عابرًا للحدود بدعوتها المجتمع الدولي إلى وقف دعم النظام السياسي في العراق.
السوداني يستبق تصعيدًا محتملًا
يعرف المكلف بتشكيل الحكومة نتائج تلك الضغوط ويحاول الإسراع بتقديم كابينته الوزارية إلى البرلمان، استباقًا لأي تصعيد مناهض له، إذ يخوض مفاوضات مكثفة مع الأحزاب السياسية من أجل إكمال كابينته، ويتزامن ذلك مع إطلاق مؤشرات بإمكانية تقديم وزرائه في نصف المهلة الدستورية التي ينص الدستور على تقديمها خلال 30 يومًا، بدءًا من يوم تكليف مرشح برئاسة الحكومة.
في المجمل لا تبدو المهمة سهلة، خصوصًا في بلد متعدد الطوائف والعرقيات، يقوم نظامه السياسي على التخادم والمحاصصة، وتتشكل الحكومات فيه بعد مفاوضات لا تنتهي بين القوى المهيمنة على المشهد السياسي، وهي مهمة صعبة، وفي حال تشكيل الحكومة فإنها ستكون بعمر قصير، خصوصًا أن عرّابيها متهمون بقتل المحتجين وانتهاك السيادة والهيمنة على موارد الدولة، وهذه العوامل لا ينحصر تأثيرها على الحكومة الجديدة، بل تهدد النظام السياسي بأكمله، ذلك النظام الذي فشل في توفير حياة كريمة للعراقيين على مدار سنوات طويلة، فالخلاف والصدام لم ينته، ويبدو خيارًا مؤجلًا قد يعود إلى الواجهة في أي لحظة، والانفراجة المؤقتة أمام اختبار حقيقي، فتغريدة واحدة كافية لحشد الآلاف من أنصار التيار والعودة إلى مواجهة الجماهير بالجماهير مرة أخرى.
تكشف الأوصاف التي نعت الصدر بها خصومه في بيانه الأخير، غضبًا مكتومًا ووضعًا سياسيًا لا يزال هشًّا وقوةً يريد من خلالها التأثير على المشهد السياسي بالضغط عبر جماهيره للتعويض عن رأس المال السياسي الذي خسره بخروجه من البرلمان.
يضغط زعيم التيار أيضًا من خلال فرض انتخابات مبكرة عبر اللجوء إلى سياسة عدم الاستقرار الممنهج، كما يفعل عادةً، ليحافظ على قوته وتأثيره في المفاوضات، وهي سياسة يجيدها الصدريون لكسب مزيد من خصومهم، ولجأوا إليها بعد الخطأ الإستراتيجي الكبير المتمثل في سحب نواب الكتلة الصدرية من البيت التشريعي، بعد أن كانوا الكتلة الأكثر عددًا والقوة الأكثر تأثيرًا.
الأوصاف التي نعت الصدر بها خصومه كشفت غضبًا مكتومًا ووضعًا سياسيًا لا يزال هشًّا
تعود أصل المشكلة بين الفريقين إلى ترشيح خصوم الصدر في الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني في الصيف الماضي، شرارة أشعلت التوتر بين الطرفين اللذين اعتصم أنصارهما نحو شهر في المنطقة الخضراء وقرب أسوارها عند الجسر المعلق، وفي هذه الجولة أثبت الصدر الذي اعتاد إطلاق المفاجآت السياسية، خلال عام التعطيل السياسي، قدرته على زعزعة المشهد السياسي عبر تعبئة الآلاف من أنصاره للنزول إلى الشارع، وبلغ التوتر ذروته في 29 أغسطس/آب، حين قُتل العشرات من أنصار الصدر في اشتباكات داخل المنطقة الخضراء مع قوات من فصائل مسلحة منضوية تحت أجهزة الدولة.
في نهاية المطاف خرج الصدريون الفائزون بأعلى الأصوات خاليين الوفاض من المشهد السياسي، وهم يتجرعون مرارة قرار متسرع أخرجهم من البرلمان وأفقدهم فرصةً من الصعب تكرارها، وبقيت مطالب التيار معلقة على تغريدات تطالب – بين حين وآخر – بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وهي قضية أخرى محط خلاف كبير بين الصدر وخصومه، يتمحور الخلاف فيها على قانون انتخابي، تقول أحزاب الإطار إنه فُصِّل على مقاس الصدريين وإنهم يسعون لتغييره قبل أي انتخابات جديدة، ومفوضية هي الأخرى متهمة بالتواطؤ مع التيار.
كثير من الوعود قطعها رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني، لتغيير واقع العراقيين وتحقيق الإصلاح الذي فشلت في تحقيقه شخصيات عديدة، لكن وعوده – بالنسبة للعراقيين – تعد كلامًا مستهلكًا وعبارات إنشائية حاضرة مع كل تشكيل لحكومة جديدة منذ 2003، حيث الحياة العامة بمشاكلها باقية على حالها والناس محرومون من حقوقهم الأساسية والمياه والنظام الصحي والكهرباء، ورغم هدر مليارات الدولارات في السنوات الماضية لم يتغير شيء في حياة العراقيين، بل أخدت الأزمة بُعدًا اجتماعيًا من خلال أزمة في الثقة وحالة اغتراب كبيرة تعيشها النخب السياسية مع شارع غاضب وناقم.
مرة أخرى يتأكد للعراقيين أن المشكلة أساسها نظام سياسي ومصالح حزبية مقدمة على مظالم الفقراء والمحرومين، ومنظومة حكم تتجاهل احتياجات الشعب وتعمل ضدّها.. أزمات تتنقل بين الحكومات، وها هي اليوم تنتظر حلولًا تدبرها حكومة السوداني.