شن رجل الأعمال المصري الشهير نجيب ساويرس هجومًا على الهيمنة السعودية على السوق الاقتصادي المصري، محذرًا من تبعات تلك الموجة الجديدة من الاستثمارات السعودية المكثفة التي يتم ضخها في مختلف المجالات، ولافتًا إلى أن هذه الإستراتيجية سينجم عنها تبعات كارثية في المستقبل، خاصة في ظل التفرقة الواضحة في التعامل الإداري والأمني بين المستثمر المصري والأجنبي.
وقال ساويرس (الذي تملك عائلته ثروة قدرها 12.9 مليار دولار كأغنى عائلة في قارة إفريقيا)، خلال مؤتمر حابي الاقتصادي الذي عقد قبل أيام: “الاستثمارات التي تنفذها السعودية في البحر الأحمر سواء في نيوم أم غيرها لا شك ستهدد استثماراتنا في البحر الأحمر وشرم الشيخ وهذه المناطق”، مؤكدًا على أهمية حل مشكلات المستثمرين وتشجيع القطاع الخاص، مضيفًا “الرؤية الاقتصادية غير واضحة، وإحساسي الشخصي أننا في الطريق إلى الركود”.
الحديث عن تداعيات فتح السوق أمام الاستثمارات الأجنبية ليس الأول من نوعه، فرغم أبعاده الإيجابية كونه مطلبًا محوريًا لتعزيز الاقتصاد، فإن البعض أعرب عن بعض التخوفات من تلك السياسة الجديدة التي يراها تأتي على حساب شركات القطاع الخاص، وحين يأتي التخوف من شخصية بحجم ساويرس صاحب المشروعات العملاقة والحضور الاقتصادي القوي، داخل مصر وخارجها، فإن الأمر يحتاج إلى تسليط الضوء للوقوف على حجم تلك الاستثمارات ولماذا يتخوف منها بعض رجال الأعمال المصريين.
تشير التقديرات إلى أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر وصلت خلال الفترة من يوليو/تموز 2021 حتى مارس/آذار 2022 إلى 7.3 مليار دولار بزيادة 53.5%، تتصدرها الاستثمارات الخليجية التي تعاظمت في الأشهر الأخيرة، وفق تقرير مركز معلومات مجلس الوزراء.
السعودية الأولى بـ53 مليار دولار
شهدت العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الخليج خلال السنوات الأخيرة تناغمًا غير مسبوق، ورغم تباين الرؤى السياسية في بعض المواقف، فإن المستجدات الطارئة التي شهدتها الساحة دفعت الطرفين إلى التقارب مهما كانت التباينات، وكان الاقتصاد هو الجسر الأقرب للتواصل بينهما.
وتتصدر المملكة العربية السعودية قائمة الدول الخليجية الأكثر استحواذًا على السوق المصري، بإجمالي استثمارات بلغت 53 مليار دولار موزعة على 5300 مشروع لتكون بذلك أكبر استثمار عربي في مصر حسبما أكد رئيس مجلس الأعمال المصري السعودي عبد الحميد أبو موسى في تصريحاته في 21 يونيو/حزيران الماضي.
وأشار أبو موسى أن المرحلة القادمة ستشهد مزيدًا من المال السعودي في مختلف القطاعات المصرية، منوهًا أن زيارة ولي العهد محمد بن سلمان الأخيرة لمصر شهدت إبرام 14 اتفاقية تغطي جميع القطاعات والمجالات من لوجستية وصناعية وتجارية وزراعية، بإجمالي استثمارات بلغت 8 مليارات دولار.
ودخل الصندوق السيادي السعودي هو الآخر على خط الحضور داخل السوق المصري مؤخرًا عبر بوابة الاستحواذ على الأصول العامة للدولة التي اضطرت مصر لطرحها للبيع لسد العجز الذي تعاني منه، ومن المتوقع أن تبلغ استثمارات الصندوق السعودي في تلك الأصول نحو 10 مليارات دولار، ضمن حزمة مساعدات مالية تعهدت بها المملكة لدعم الاقتصاد المصري بلغت 22 مليار دولار.
واستهل الصندوق السعودي حصصه في الأصول المصرية عام 2021 بالاستحواذ على 7.5% من حصة الشركة القابضة للغازات “جاسكو” من شركة مصر لإنتاج الأسمدة، وتمثل 3.1 مليون و100 ألف سهم، كذلك استحوذ الصندوق على 4 شركات عامة بقيمة 3.1 مليار دولار، خلال الشهرين الماضيين.
الإمارات ثانيًا بـ20 مليار دولار
تحل دولة الإمارات في المرتبة الثانية من حيث الاستثمارات الأجنبية في مصر بإجمالي يبلغ 20 مليار دولار وسط توقعات بارتفاع هذا الرقم ليصل إلى 35 مليار دولار خلال السنوات الخمسة القادمة وفق ما أشار الأمين العام لمجلس الإمارات للمستثمرين بالخارج، جمال الجروان.
وقد قفزت الاستثمارات الإماراتية في مصر من 712 مليون دولار خلال النصف الأول من العام المالي 2020/2021 لتصل إلى 6.98 مليار درهم (1.9 مليار دولار) في الفترة نفسها من العام المالي 2021/2022، بزيادة بلغت 169.1% وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري (حكومي).
ويستهدف رأس المال الإماراتي قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الذي يأتي في المرتبة الأولى ضمن القطاعات المستهدفة في السوق المصري باستثمارات تبلغ ملياري دولار ونحو 55 شركة، يليه قطاع التمويل بحجم استثمارات وصلت إلى 1.700 مليار دولار و49 شركة مؤسسة، ثم القطاع الإنشائى ثالثًا باستثمارات 814 مليون دولار بعدد شركات مؤسسة 118 شركة، يليه الاستثمارات الصناعية بعدد شركات مؤسسة 131 شركة واستثمارات 544 مليون دولار.
فيما يأتي القطاع الخدمي في المرتبة الخامسة باستثمارات قدرها 343 مليون دولار و275 شركة، يعقبه الاستثمارات السياحية بعدد شركات مؤسسة 48 شركة باستثمارات 260 مليون دولار، فيما تتذيل الاستثمارات الزراعية القائمة بمبلغ 129 مليون دولار.
المتابع لمسار الاستثمارات الخليجية في مصر يجد أنها تستهدف الكيانات القائمة بالفعل، بل الناجحة منها التي تحقق أرباحًا كبيرةً، فيكون الإغراء بالمال دافعًا لأصحاب تلك الكيانات، الحكومة كانت أو الأفراد، للتخلي عن حصصهم للمستثمر الخليجي الذي يجد في هذا النوع من الاستثمار غايته في تحقيق أهدافه الربحية في أقصر وقت ممكن
الكويت والبحرين ثالثًا.. 18 مليار دولار
رغم أنها لم تكن ضمن زمرة المهرولين مؤخرًا للاستحواذ على الأصول المصرية في المزادات المعلنة في الفترة الحاليّة، فإن حضور الكويت الاستثماري داخل السوق المصري يفرض نفسه بقوة، إذ يشير السفير السابق لمصر في الكويت، طارق القوني، أن حجم الاستثمارات الكويتية المتراكمة في مصر ارتفع إلى 15 مليار دولار كاستثمارات متراكمة خاصة إذا تم حساب الاستثمارات في مجال البترول والغاز.
وألمح السفير أن الكويت بهذا الرقم تحتل المرتبة الثالثة عربيًا من حيث حجم الاستثمارات في مصر، مشيرًا إلى القفزة الكبيرة التي شهدتها تلك الاستثمارات من 3.7 مليار دولار خلال الفترة من 1970 – 2016 وصولًا إلى 4 أضعاف هذا الرقم خلال السنوات الماضية، من خلال 1166 شركة عاملة في معظم محافظات الجمهورية.
فيما تأتي مملكة البحرين في المرتبة الرابعة بإجمالي استثمارات بلغت 3.2 مليار دولار في 2016 مشروعًا في مختلف القطاعات المصرية لتحتل رقم 16 في قائمة الاستثمارات الأجنبية في السوق المصري حسبما أشار سفير المملكة في القاهرة هشام بن محمد الجودر، مع توقعات بزيادة تلك النسبة خلال الأعوام الخمس المقبلة.
الاستثمارات القطرية.. الدخول بقوة
عادت الاستثمارات القطرية بقوة للسوق المصري مرة أخرى بعد فترات فتور شابت العلاقات السياسية مع النظام المصري، حيث ارتفع حجمها نحو 5 أضعاف خلال السنوات السبعة الماضية من 94.4 مليون دولار في العام المالي 2014/2015 إلى نحو 507.9 مليون دولار في العام المالي 2020/2021، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري.
وكانت الاستثمارات القطرية قد بلغت عام 2016/2017 قرابة 169.4 مليون دولار لتتراجع عام 2017/2018 إلى 165 مليون دولار، لتعاود القفز مرة أخرى عام 2018/2019 حتى وصلت إلى 373.2 مليون دولار، فيما شهدت خلال عام 2019/2020 أعلى نسبة وصلت إليها حين تجاوزت 678 مليون دولار.
ودخل صندوق الاستثمار القطري في منافسة قوية مع نظيره الإماراتي والسعودي في الاستحواذ على الأصول المصرية، وأبرزها شراء حصص في شركة الإسكندرية لتداول الحاويات، التي تطرحها وزارة النقل البحري على القطاع الخاص، كما يخطط للاستحواذ على 25% من أصول شركة فودافون لخدمات الهواتف النقالة، التي تمتلك شركة المصرية للاتصالات الحكومية 45% من أصولها، كذلك الاستحواذ على ربع حصص شركة الشرقية للدخان (إمبراطور صناعة التبغ في مصر).
وتحيا العلاقات المصرية القطرية خلال الآونة الأخيرة حالة من التنسيق والتناغم أسفرت عنها حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية التي تحاول من خلالها الدوحة تعزيز حضورها الاستثماري في السوق المصري الذي يتمتع بالعديد من المميزات النسبية مقارنة بأسواق المنطقة، فضلًا عن التسهيلات الممنوحة للمستثمرين الأجانب لدفعهم إلى نقل رؤوس أموالهم للداخل.
لم القلق من تلك الاستثمارات؟
منطقيًا فإن كثرة الاستثمارات الأجنبية من شأنها أن تنعش الاقتصاد الوطني وتفتح مجالات عدة للإنتاج والعمل وتقلص نسبيًا معدلات البطالة والاعتماد على العملات الأجنبية، غير أن هذا يحتاج إلى ضوابط محددة للوصول إلى تلك النتائج، وهو ما لم يحدث بشكل أو بآخر مع الاستثمارات الخليجية تحديدًا.
المتابع لمسار الاستثمارات الخليجية في مصر يجد أنها تستهدف الكيانات القائمة بالفعل، بل الناجحة منها التي تحقق أرباحًا كبيرةً، فيكون الإغراء بالمال دافعًا لأصحاب تلك الكيانات، الحكومة كانت أو الأفراد، للتخلي عن حصصهم للمستثمر الخليجي الذي يجد في هذا النوع من الاستثمار غايته في تحقيق أهدافه الربحية في أقصر وقت ممكن.
وعلى الجانب الآخر وفي إطار مساعي الدولة إزالة العقبات أمام الاستثمارات الأجنبية يتم تذليل كل الصعاب وتُمنح التسهيلات لتلك الاستثمارات بما يساعدها على النمو والارتقاء وتحقيق النجاح تلو الآخر، ولن يكون ذلك إلا على حساب شركات القطاع الخاص التي تعاني من بيروقراطية متجمدة وسياسات قاسية تدفع الكثير من تلك الشركات إلى تغيير النشاط أو الغلق أو تحجيم حضورها داخل السوق المصري.
يواجه القطاع الخاص المصري أزمة خانقة، حولته من القوة المحركة للاقتصاد ككل إلى تابع مهلهل، على بعد أمتار قليلة من التهاوي، على الأقل تلك الشريحة متوسطة الإمكانيات التي تمثل السواد الأعظم من هيكلة القطاع برمته
ولأن معظم الاستثمارات الخليجية تكون تحت إشراف الحكومة أو بالمشاركة معها، فإن ما تُمنحه من تسهيلات لا يقارن بنظيراتها المصرية، ما يجعل المنافسة هنا غير عادلة، وهو ما يسفر عن فجوة كبيرة بين الشركات الخليجية والوطنية العاملة في مصر، فجوة تميل كفة الميزان بشكل كبير لصالح الأجانب.
وبينما كان يؤمل أصحاب الشركات المصرية أنفسهم في دعم حكومي يخرجهم من عنق الزجاجة التي وضعوا بها بفعل الأزمة الاقتصادية التي تواجه العالم خلال السنوات الأخيرة بالتزامن مع السياسات الاقتصادية المتبعة داخليًا التي أدت في النهاية إلى تعثر الكثير من المصانع (وفق التقارير الرسمية هناك بين 8- 8.5 ألف مصنع متوقف في مصر)، إذ بهم يواجهون جفاءً غير مسبوق في الوقت الذي تفرش فيه الأرض بالورود أمام الخليجيين وأصحاب الملايين النفطية، وهو ما يقود في النهاية إلى بداية انهيار القطاع الخاص.
أزمة القطاع الخاص
يواجه القطاع الخاص المصري أزمة خانقة، حولته من القوة المحركة للاقتصاد ككل إلى تابع مهلهل، على بعد أمتار قليلة من التهاوي، على الأقل تلك الشريحة متوسطة الإمكانيات التي تمثل السواد الأعظم من هيكلة القطاع برمته، فبجانب التغول الواضح للاستثمارات الأجنبية على حساب أبنائه الشرعيين من الشركات الوطنية فهناك تغول من نوع آخر يتمثل في سحب الجيش البساط من تحت أقدامه لحساب شركاته الخاصة.
فالسنوات السبعة الماضية تحديدًا شهدت هيمنة شرسة من المؤسسة العسكرية على الخريطة الاقتصادية، فأحكمت سيطرتها على معظم المجالات، لا سيما تلك المعروف عنها بثرائها كالطرق والكباري والأدوية والتموين والزراعة والطاقة والنفط والمعادن والقطاعات الحيوية الأخرى، كان ذلك على حساب تهميش الشركات الأخرى المدنية.
وفي ظل تلك الوضعية اضطرت الكثير من الشركات إلى غلق أبوابها وتشريد العمالة بها، ومن استطاع منهم الصمود قلص عدد العمالة بشكل كبير وخفض الرواتب وبدأ العمل تحت جناح مؤسسة الجيش عبر الأبواب الخلفية، أو كما يطلقون عليهم في مصر “من الباطن”.
ونتيجة طبيعية لتلك الأجواء سجل القطاع الخاص غير النفطي أكبر انخفاض له منذ عامين خلال يونيو/حزيران الماضي بحسب شركة “ستاندرد أند بورز جلوبال”، حيث شهدت شركات القطاع تراجعًا في الطلب جراء قفزات الأسعار وانخفاض سعر الجنيه ونقص الموارد، فيما تعرض النشاط التجاري لأسرع وتيرة انكماش شهدها منذ الموجة الأولى لتفشي جائحة كورونا (كوفيد-19).
وكان ساويرس – الذي عبر عن مخاوفه من تغول الاستثمارات السعودية في مصر قبل أيام – قد انتقد مزاحمة شركات الجيش والحكومة للقطاع الخاص، ما وصفه حينها بأنها “منافسة غير عادلة” وفق ما جاء في تصريحاته لوكالة “فرانس برس” في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي.
إن كان هذا حال رجل بحجم ساويرس يمتلك وعائلته أكبر شركات في إفريقيا وله علاقات متشعبة مع الدولة وأجهزتها السيادية، ولديه من القدرة على عبور أي مطبات في مسار شركاته واستثماراته التي تملأ دول المنطقة، فما هو حال الشركات الأقل، التي لا يتمتع أصحابها بتلك الشبكة العنكبوتية من العلاقات والنفوذ، ليجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الغلق والتعثر وتغيير النشاط وإما الرضوخ لإملاءات المستثمر الجديد وداعميه.