في الوقت الذي تدخل فيه الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام في إيران شهرها الثاني، تُطرَح العديد من الأسئلة حول موقف التيار الإصلاحي من الاحتجاجات الراهنة، خصوصًا أنه كان المحرك الرئيسي لأغلب الاحتجاجات التي خرجت ضد النظام السياسي، وتحديدًا احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009، عندما تمَّ الالتفاف على الاستحقاق الانتخابي لمرشح التيار الإصلاحي، مير حسين موسوي، لصالح أحمدي نجاد.
وساهمَ التيار الإصلاحي عبر طروحاته السياسية المتمثلة بضرورة تحديث الرؤى الدينية السائدة في إيران، وتطوير الممارسات السياسية، وتعزيز الحريات العامة، وتقليص نفوذ رجال الدين وسيادة القانون، وتعزيز مكانة المرأة، والانفتاح على الخارج، وإيجاد علاقات مبنية على حسن الجوار مع المحيط الإقليمي، والتفاهم مع الدول الغربية، عبر طروحات تُرجمت على شكل مواقف سياسية عبّر عنها صراحة قادة الإصلاح، وفي مقدّمتهم عبد الكريم سروش وعباس عبدي وعلي أكبر محتشمي، حتى تمَّ نفي البعض منهم فيما هرب البعض الآخر خارج إيران.
ورغم أن جذور التيار الإصلاحي تعود إلى ظروف ما قبل الثورة الإسلامية في إيران، حيث إنهم كانوا يوصَفون باليسار الإسلامي للثورة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم كجزء من النظام السياسي الذي أسّسه القائد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله الخميني، وذلك بسبب انعدام هامش المناورة السياسية أمامهم.
وبقيَ التيار الإصلاحي على هذا الحال حتى فوز الرئيس الأسبق محمد خاتمي بانتخابات الرئاسة عام 1997، حيث ظهرت آنذاك ما عُرف بالجبهة الإصلاحية، وأصبحت تجدُ نفسها في إطار منافسة على السلطة مع التيار المحافظ، بعد أن كانت جزءًا منها، ومنذ ذلك التاريخ أصبح التيار الإصلاحي أحد أطراف المعادلة السياسية في إيران.
التيار الإصلاحي بين النظام والحركة الاحتجاجية
يمكن القول إن طبيعة الشعارات السياسية التي تمَّ رفعها في الاحتجاجات الراهنة، والتي تحولت من إصلاح النظام إلى المطالبة بتغييره، جعلت التيار الإصلاحي يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الشارع، فالاحتجاجات الراهنة بدت رافضة لكل ما يتعلق بهذا النظام.
كما أن التيار نفسه يواجه تحديًا خطيرًا في هذا السياق، إذ ما زالت تداعيات الحركة الخضراء تفرض إيقاعها على سلوكيات التيار، عندما قرر المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، وضع قيادات التيار، ومنهم مهدي كروبي ومير حسين موسوي، تحت الإقامة الجبرية، بسبب وقوفهم ضد النظام، حيث يتخوف قادة التيار من أن يتمّ اتهامهم بأنهم جزء من المؤامرة التي تحاك ضد النظام، كما وصفها خامنئي مؤخرًا، ما يردعهم عن دعمها أو حتى المطالبة بتأييد مطالبها.
وفي هذا السياق، أصدر القضاء الإيراني حكمًا بالسجن 5 أعوام بحق السياسي الإصلاحي مصطفى تاج زاده، الموقوف منذ يوليو/ تموز الماضي، بعد إدانته بتقويض أمن الدولة، حيث أُوقف تاج زاده، الذي يعدّ من أبرز وجوه التيار الإصلاحي، والمعروف بمواقفه المنتقدة للسلطات في إيران، في منزله في 8 يوليو/ تموز الماضي، على خلفية “العمل ضد الأمن القومي”.
وبدأت محاكمته في أغسطس/ آب الماضي، وكتب محاميه هوشنك بور بابائي عبر تويتر ليلة الثلاثاء: “تمَّ الحكم على موكلي مصطفى تاج زاده بالسجن 5 أعوام بعد إدانته بالتآمر ضد الأمن، وعامَين بعد إدانته بنشر الأكاذيب، وعام بسبب الدعاية ضد النظام السياسي”.
كما وجّه القضاء الإيراني تهمة “الدعاية ضد النظام” إلى فائزة رفسنجاني، ابنة الرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، بعد توقيفها على خلفية الاحتجاجات الراهنة، إذ قال المتحدث باسم السلطة القضائية مسعود ستايشي: “تمَّ توجيه الاتهام لفائزة رفسنجاني بالتواطؤ والإخلال بالنظام العام والدعاية ضد الجمهورية الإسلامية”، ويذكَر أن علي أكبر هاشمي رفسنجاني من أبرز الشخصيات الإيرانية في حقبة ما بعد انتصار الثورة عام 1979، وتولّى رئاسة البلاد فترة 1989-1997، وكان محسوبًا على التيار المعتدل.
يمكن القول إن النهج السياسي الذي تبنّاه التيار الإصلاحي خلال الفترة الماضية، والقائم على فكرة أن هناك ضرورة ملحّة لتحقيق ثورة في الداخل الإيراني يقوم بها خامنئي، ورفض أي محاولات غربية لتحقيق تغيير في الداخل، هو ما جعل النظام يُسمَح له بالاستمرار بالحياة السياسية.
ففي الوقت الذي يتّجه فيه النظام نحو تركيز السلطة بيد التيار المحافظ، وإخضاع كافة المؤسسات لهذه السلطة، فيما يبدو كتهيئة الأرضية لمرحلة ما بعد خامنئي، فإن التيار الإصلاحي على ما يبدو أيضًا، ومن خلال وقوفه على الحياد في هذه الاحتجاجات، يفكّر بالطريقة ذاتها.
التيار الإصلاحي يجد نفسه اليوم في موقف سياسي معقّد للغاية، فهو من جهة يواجه ضغوط سياسية تمارَس من النظام، ومن جهة أخرى يواجه سهام النقد من المحتجّين.
ومن دون شكّ، فإن أهم ما يميز هذه الاحتجاجات هو أنها نجحت، إلى حد كبير، في تجاوز الاستقطاب الكلاسيكي القائم في إيران بين المحافظين والإصلاحيين، أما الآن لم تعد هذه الاحتجاجات تتماهى مع هذا الاستقطاب، بل يمكن القول إنها سعت إلى التمرد عليه.
فعندما يهتف المحتجون بشعار “مرگ بر ديكتاتور (الموت للديكتاتور)”، في إشارة إلى خامنئي، فإنهم يهتفون ضد تيار المحافظين الأصوليين الذي يسيطر على معظم مؤسسات صنع القرار في إيران إن لم يكن مجملها، وفي الوقت نفسه ضد تيار الإصلاحيين الذي لم يبرز دوره في الاحتجاجات الحالية، أو الاحتجاجات التي تلت أزمة عام 2009.
فالتيار الإصلاحي يرى نفسه أنه أصبح يمتلك من التقاليد السياسية ما يمكّنه من أن يطرح نفسه كبديل للنظام السياسي الحالي، فيما لو تحولت هذه الاحتجاجات إلى حالة ثورية تسقط النظام، فعدم تدخُّل التيار الإصلاحي يمكن تفسيره، إلى جانب ما تمَّ ذكره، أنه يأتي في إطار تقديم رسائل تطمين للشارع المحتجّ بأنه ليس جزءًا من سياسات النظام، وذلك كان واضحًا في الانتقادات التي وجّهتها القيادات الإصلاحية إلى سلوكيات قوات الأمن الإيرانية في التعامل مع الاحتجاجات، ومن ذلك ما كتبه خاتمي على صفحته في تويتر عندما قال: “مأساة أخرى، ألمها يحرق حتى النخاع”.
إجمالًا، يجد التيار الإصلاحي نفسه اليوم في موقف سياسي معقّد للغاية، فهو من جهة يواجه ضغوط سياسية تمارَس من النظام، ومن جهة أخرى يواجه سهام النقد من المحتجّين، وما بين هذَين الضاغطَين ما زال قادة التيار غير قادرين على بلورة رؤية سياسية لكيفية التعاطي مع هذا الواقع.
ويمكن القول إن قادة التيار يدركون أن النظام يمتلك نسبة كبيرة من النجاح لتجاوز الاحتجاجات الحالية، ولعلّ هذا ما يفسر السلوكيات المتأرجحة لقادة التيار، عبر عدم التصعيد في انتقاد النظام، للحفاظ على وجودهم السياسي، وكذلك تقديم دعم جزئي لمطالب المحتجين، للحفاظ على حظوظهم الانتخابية في المرحلة المقبلة.