المناطق التي كانت بمنأى عن الاجتياح البرّي والقصف العنيف في وسط وغرب أوكرانيا، أصبحت مجددًا هدفًا للهجمات الروسية المكثفة، وهكذا تدخلُ الحرب مرحلة جديدة أكثر دموية، فيما يقاوم الجيش الأوكراني بعناد أكبر بدلًا من الاستسلام، الأمر الذي ينذر بسيناريوهات قاتمة، أكثرها ترجيحًا هو إطالة أمد الحرب.
سيشهد التاريخ على يوم الاثنين 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 بأنه نقلة عنيفة لحرب يناهز عمرها 8 شهور، حيث عاد الرعب إلى المناطق التي انسحب منها الجيش الروسي خلال شهرَين من اندلاع الحرب، واختار التمركز في الشرق الأوكراني، وهي المناطق الأربع ذاتها التي ضمّتها روسيا مؤخرًا إلى الكيانات التابعة لها؛ دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا.
تغيُّر قواعد الاشتباك
بعد يومَين فقط على تفجير جسر القرم، تغيّرت قواعد الاشتباك حيث تعرضت العاصمة كييف والعديد من المدن الأخرى لضربات صاروخية مكثفة استهدفت البنى التحتية في أوكرانيا وأسقطت عشرات القتلى، وعندما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “هذه هي الطريقة التي تردّ بها روسيا على الأعمال الإرهابية لنظام كييف”، فإن ذلك يعني أن موسكو لربما تعمّدت ألا يكون الردّ لمجرد حفظ ماء الوجه، بل لتوجيه رسائل تحذيرية وإنذار حاسم بأن تكرار ما حدث لجسر القرم سيكلف كييف ثمنًا باهظًا.
في البحر الأسود تلقّت روسيا إهانة يصعب عليها ابتلاعها، سواء حادثة الجسر أو تدمير أهم سفنها الحربية “الطراد ماسكفا” في أبريل/ نيسان الماضي، ونتيجة لذلك من المرجّح جدًّا أن يرتقي الصراع الذي يسمّيه نظام موسكو بـ”العملية العسكرية” إلى إعلانها “حربًا شاملة”، وأن تحوَّل التعبئة الجزئية إلى تعبئة كاملة، ما سيؤدي إلى تخصيص مزيد من الموارد للجيش لتحقيق نصر حاسم.
تحدّث الكرملين عن “حرب خفية” يشنّها الحلفاء الغربيون ضد روسيا، من خلال استهداف المنشآت المدنية والبنية التحتية في الداخل الروسي، لهذا ليس من المستبعَد عدم اكتفاء روسيا بتوسيع جبهات القتال في أوكرانيا، بل قد تشنّ بدورها حربًا خفية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، سواء بتكثيف الحرب السيبرانية أو استهداف المنشآت المدنية في الدول الأوروبية دون تبنّي ذلك.
جدّية التهديدات النووية
الواقع هو أن المخاوف تزداد يومًا بعد يوم من استخدام روسيا للأسلحة غير التقليدية والمحرّمة دوليًّا من أجل مواجهة تقدم الجيش الأوكراني المدعوم غربيًّا والانتصار عليه، ليس فقط بواسطة الأسلحة الكيماوية التي استخدمتها في سوريا، بل حتى النووية.
بوتين لا يمزح في مسألة استخدام السلاح النووي، والغرب يعي ذلك جيدًا، لكنه في الوقت نفسه يتوعّد روسيا إذا استخدمت النووي ضد أوكرانيا، فقد يتدخل الاتحاد الأوروبي عسكريًّا لتدمير الجيش الروسي، وكما يزعم الغربيون لن يكون الرد نوويًّا.
يحتل التهديد باستخدام الأسلحة النووية مكانة بارزة في هذه الحرب منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي، وبوتين نفسه لمّح مباشرة إلى ذلك في مناسبات عديدة، حيث هدّد في بداية الهجوم أولئك الذين سيحاولون الوقوف في طريقه بتحمل العواقب، وأكّد أنه مستعد لاستخدام كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا.
تقول الباحثة تاتيانا كاستويفا-جان: “منذ بداية الحرب، بدا واضحًا أن الرئيس الروسي لا يسترشد بحسابات عقلانية توازن التكاليف والفوائد، ولكن ما يحركه هي الكراهية العميقة لأوكرانيا والغرب، التي أصبحت هوسه الذي يزيد بمرور الوقت”.
وتضيف مديرة معهد روسيا والدول المستقلة الجديدة: “كنا نسمع في أوروبا بأن بوتين لن يبدأ الحرب ضد أوكرانيا، لكنه فعل، وسمعنا أيضًا أنه لن يأمر بالتعبئة لأن هذه الفكرة غير شائعة في روسيا، لكنه فعل، والآن نسمع بأن بوتين لن يضغط الزر لبدء حرب نووية”.
ماذا لو كسر بوتين المحرّمات؟
يصعب التكهُّن بما قد يقدم عليه الروس، لكن إذا قرر بوتين تنفيذ تهديده باستخدام الرؤوس النووية التي يملكها والبالغ عددها 6 آلاف رأس نووي، فإن التدمير سيكون متبادلًا، خاصة أن الدول النووية داخل حلف الناتو تمتلك أنواعًا مختلفة من الردع، في حين أن هذه التهديدات كثيرًا ما رددها سيد الكرملين منذ ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014.
لهذه التهديدات وظيفة سياسية، إنها تعدّ رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها عدم تجاوز الحدود في التدخل في أوكرانيا، وإذا قامت روسيا بكسر المحرّمات النووية القائمة منذ عام 1945 فإنها ستصبح في هذه الحالة دولة معزولة ومنبوذة في جميع أنحاء العالم، فيما سيفقد بوتين جميع حلفائه بما في ذلك الصين.
ولا تزال في الكرملين أصوات عاقلة تعارض بقوة استخدام النووي، في حين أن بوتين يواجه ضغوطًا شديدة من قبل جنرالات الجيش الروسي باستخدام النووي لحسم هذه الحرب، وحجّتهم أن ما يعتبرونه حدودًا جديدة لبلادهم تتعرض لهجوم من قبل الجيش الأوكراني.
حرب مصيرها مرهون بالأسلحة
عناد الدب الروسي يطيل أمد الحرب، وفي المقابل يحظى الجيش الأوكراني بدعم غربي أقوى هذه المرة من خلال إمدادات الأسلحة والمعدّات التي قد تكون من الجيل الأحدث أو متفوقة على ما يملكه الجيش الروسي، كما لا تزال معنويات الأوكرانيين مرتفعة وهم يدافعون بشراسة عن أراضيهم، ويرغبون في تحقيق نصر تكتيكي على الأقل بحلول الشتاء، وهذا ما يبرر مطالبهم من الأصدقاء الغربيين.
يعزز الغربيون من دعمهم العسكري لأوكرانيا، وقد تعهّدت واشنطن بتقديم أنظمة دفاع جوي متطورة “ناسامس”، المتوقع إرسالها الشهر الجاري، بالإضافة إلى المزيد من الذخائر لمنظومة راجمات الصواريخ “هيمارس”، كما تشمل الحزمة أيضًا أسلحة مضادة للدبابات وصواريخ “هارم” المضادة للإشعاعات والرادارات ومركبات عسكرية ومعدّات طبية، كل هذا يرفع من قيمة المساعدات الأمريكية لأوكرانيا إلى 18.3 مليار دولار منذ وصول جو بايدن إلى الرئاسة.
اتضح أن هذه الحرب كانت حتمية، وأن بوتين اختار أن يضرب أولًا كما اعتاد أن يفعل وهو صبي في شوارع لينينغراد، وبذلك أغلق جميع أبواب الحوار والدبلوماسية وأصرَّ على حرب طويلة الأمد لا تحددها القواعد والأخلاق، لأن مصيرها الآن أصبح مرهونًا بمصير الأسلحة.