ترجمة حفصة جودة
بعد قضاء يومين في مستشفى صغير بالصومال، بدا أن عبد الوالي عبدي يتلمس طريقه نحو القليل من التعافي، لكن ما يزال الطفل ذو العامين يزن 4.6 كيلوغرام، وهو وزن لا يزيد على الوزن الصحي لطفل حديث الولادة، لكنه بدأ يتمكن من الأنين الآن، تجلس أمه حوا بجواره على السرير في مدينة دولو الحدودية ترضع ابنتها ذات الشهرين وتصنع خططًا حالمة للعودة إلى مخيمهم المؤقت في ضواحي المدينة المغبرة.
تقول فطومة محمد، ممرضة كبيرة ومديرة من كينيا، بينما تتجول في الجناح الذي يحتوي على 17 سريرًا يضمون 17 رضيعًا يعانون من سوء التغذية والعديد من الأمراض التي تجمعهم في تلك السهول الشائكة جنوب الصومال حيث تعاني البلاد من أسوا أزمة جفاف منذ 40 عامًا: “الأمر مشجع”.
تقول حوا: “لا نملك طعامًا لتغذيتهم، لكن الجيران يساعدوننا”، كان عبدي يواجه الضعف منذ أسابيع ويعاني من الحمى والإسهال حتى قرروا أخيرًا أن يأتوا به إلى هنا طلبًا للمساعدة.
تساعد مستشفى المقاطعة في دولو الأطفال مثل عبد الوالي منذ سنوات في هدوء، بُنيت المستشفى بتمويل من حكومة المملكة المتحدة وغيرها ويعمل بها موظفون يقدمون الدعم الطبي الأساسي، ليس في المدينة فقط بل في الريف أيضًا حيث تسيطر جماعة الشباب الإسلامية المسلحة على بعض القرى.
لكن اليوم، بعد 5 مواسم جفاف، أُرهقت دولو نتيجة زيادة الوافدين الجدد، فقد تجمعت آلاف العائلات مثل عائلة عبد الوالي في مستوطنات عشوائية بعد أن نفقت ماشيتهم وجفت أراضيهم، بحثًا عن الطعام والأمان.
يقول عبد القادر محمد من مجلس اللاجئين النرويجي مع وصول المزيد من العائلات للمخيمات: “إننا نتحدث عن مئات آلاف الأرواح على المحك، والكثيرون يموتون الآن، ولا نملك موارد كافية لدعمهم”.
في المستشفى، تجلس ما يقرب من 100 امرأة في الحر القائظ بجوار أطفالهن الذين يعانون من سوء التغذية، بانتظار قياس وزنهم وتقييمهم، تقول باميلا واسونجا التي تدير برنامج التغذية في المستشفى نيابة عن منظمة “Trocaire” الخيرية الأيرلندية “الوضع سيزداد سوءًا هنا، نتوقع المزيد من سوء الأوضاع وإعلان المجاعة رسميًا قريبًا”.
حذرت الأمم المتحدة من أن 6.7 مليون شخص سيحتاجون إلى المساعدات الغذائية في الصومال في الأشهر القادمة، بما يعادل 40% من السكان، تدهورت حالة عبد الوالي فجأة وفي الـ9 صباحًا انخفضت درجة حرارته بشدة، فوضعه طبيبان في غطاء حراري مصنوع من القصدير، وعلى بُعد سريرين تعاني فتاة عمرها 18 شهرًا من نفس الوضع وبحاجة للعلاج الطارئ.
تقول الممرضة محمد: “نحن قلقون للغاية، فهؤلاء الأطفال لا يتحكمون في درجة حرارة أجسادهم، لهذا لا نضع مراوح في السقف في تلك الأجنحة، عندما ترتفع حرارة الطفل تصبح نسبة نجاته أعلى”.
وصل كراد أدان – 28 عامًا، والد الصبي – إلى المستشفى وكان يدور حول السرير بعصبية، قبل موجة الجفاف الجديدة، كانت الأسرة ميسورة الحال، فلديهم 4 أطفال و40 بقرة ومنزل من القش قرب بلدة كانساكس ديري على بعد 200 كيلو متر جنوب دولو.
لكن منطقة باي الآن تقع في مركز الجفاف الحاليّ وقبل شهرين نفقت آخر ماشية الأسرة، بعد فترة قليلة قرر الوالدان حزم أمتعتهم على عربة يجرها حمار وتوجهوا إلى الشمال في رحلة شاقة استمرت 6 أيام، حاول مقاتلو الشباب منعهم من مغادرة القرية لكنهم وافقوا على رحيلهم مقابل مصادرة هاتف السيد أدان وتحطيمه أمامه.
تجمع الأطباء فجأة حول عبد الوالي، واستخدم أحدهم إصبعين للضغط المتكرر على صدره أملًا في تحفيز نبضات قلبه، اقترب زميله للنظر إلى أعين الطفل الثابتة، بينما وقف الوالدان بهدوء عند طرف السرير.
في تمام الساعة العاشرة و13 دقيقة وفي صباح ملبد بالغيوم انتهى الأمر، همست محمد قائلة: “لقد توقف نبض قلبه”، بينما انهارت والدة عبد الوالي وبدأت في البكاء، تقول محمد بطريقة توحي برؤيتها لهذا المشهد عدة مرات: “لقد تمكنا من إنقاذ العديد من الأطفال، لكن الأمور تزداد سوءًا الآن”.
يقول رئيس المستشفى الدكتور علي شعيب: “من الحزين والمؤلم أن تشهد أمرًا كان من الممكن منعه وتصحيحه بسهولة”.
في غضون دقائق، كان والد عبد الوالي على الهاتف يتحدث إلى أقاربه ويخطط للجنازة ظهر اليوم، بينما كان يحدث نفسه بهدوء “كلنا سنموت، يومًا ما”.
مرت سيارة الإسعاف في الحارة الضيقة للمستشفى وصعد والدا عبد الوالي على متنها، أمسك الأب بجسد ابنه بعناية بكلتا يديه.
لاحقًا أخدت باميلا واسونجا الزائرين في جولة بالمستشفى ليشاهدوا صيدليتها الممتلئة ومعملها الصغير، جاءت واسونجا إلى الصومال من بلدها كينيا في أثناء المجاعة الأخيرة في 2011، ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل هنا لتؤكد أن الكثير تغير منذ ذلك الحين، وأن العمل الدؤوب خلال العقد الماضي يؤتي ثماره.
تقول واسونجا: “أعتقد أن استمرار تقديم الخدمات هنا منع عنا أوضاعًا أكثر سوءًا، هناك الكثير من المنظمات الدولية الآن والعديد من المنظمات المحلية الذين أصبح باستطاعتهم الوصول إلى الأماكن البعيدة والأماكن التي يصعب الوصول إليها”.
ومع ذلك، مع اقتراب مجاعة جديدة، فقدت المستشفى نصف تمويلها الدولي نتيجة التأجيل الذي تسببت فيه الاضطرابات السياسية في العاصمة مقديشو.
الأسوأ من ذلك أن العالم كان بطيئًا في اكتشافه لحجم الكارثة في الصومال، فقد أظهرت البيانات الجديدة أنه لم يصل إلا أقل من نصف المساعدات الإنسانية المطلوبة للأزمة الحاليّة.
فعلى سبيل المثال، وفرت المملكة المتحدة 223 مليون دولار كمساعدات إنسانية في آخر أزمة جفاف بالصومال عام 2017، هذا العام قدمت أقل من ربع هذا المبلغ، تقول واسونجا: “نطلب من العالم أن لا يبعد تركيزه عن الصومال، الصومال بحاجة إلى المساعدة الآن وإذا لم تصل فإننا نتجه نحو كارثة بكل تأكيد”.
في الوقت الذي وصلت فيه الإسعاف إلى أطراف مخيم لادان، على الأطراف الشرقية للبلدة، تجمع حشد غفير حول خيمة الأسرة.
أثار هبوب الرياح موجة من الغبار الثقيل، وأُحضرت المياه لتغسيل الصبي، كان أحدهم قد اشترى كفنًا أبيض بالفعل، بينما حمل اثنان من الجيران معولين على كتفهما ليحفرا قبرًا في الأرض المقفرة، واختارا بقعة بين كومتين صغيرتين من التراب.
بعد ساعة وصلت حوا إلى المقبرة، تنص التقاليد ألا تحضر النساء الدفن، لكنها أوضحت هي ووالدتها أنهن لن يتزحزحا من هنا، وهكذا جلست مع عدة نساء أخريات على بعد 20 مترًا من القبر.
قالت السيدات لمواساة حوا: “لقد بذلت كل جهدك، ولديك أطفال آخرون”، بينما أمسك والد عبد الوالي بمعول آخر لمساعدة الرجال في حفر القبر، بعد الصلاة عليه ودفنه، عاد والدا عبد الوالي إلى خيمتهما، بينما تهب الرياح في السهل وتطير النفايات وقصاصات الورق فوق آلاف الشجيرات الجافة الشائكة.
المصدر: بي بي سي