كعادته يستمر الاحتلال الإسرائيلي في اقتلاع أهالي الأرض من بيوتهم في الضفة والقدس لإقامة بؤر استيطانية، أو بحجّة أن مساكنهم تقع في المناطق (ج) التي تخضع لسيطرته، ولأن الفلسطيني لا يستسلم للمحتل يبقى مرابطًا عند أقرب نقطة من أرضه أو بيته الذي دُمِّر أو استولى عليه المحتل، لذا وجد العشرات من المطرودين في الكهوف الفلسطينية مأوى لهم فسكنوها إلى حين عودتهم.
وتعتبر الكهوف عنصر قوة للفلسطيني المهجّر قسرًا من بيته وأرضه، حيث يسكنها للبقاء في أرضه ومواجهة المخططات الإسرائيلية، رغم افتقارها لأدنى مقومات الحياة من شبكة مياه وكهرباء وصرف صحي، حيث يعتمد ساكنوها على جلب المياه من مناطق بعيدة أو من آبار تجميع مياه الأمطار، بالإضافة إلى أنهم يعيشون على تربية المواشي (الأغنام والأبقار والإبل).
ولم تكن الكهوف الفلسطينية مأوى للسكان فقط، بل كانت ملاذًا آمنًا للكثير من الثوار الذي عاشوا أزمنة مختلفة من الاحتلال وخاطروا بحياتهم، لذا يستعرض “نون بوست” أهمية الكهوف في التاريخ الفلسطيني وكيف باتت عنوانًا للتحدي في وجه المحتل.
صمود السكان في الكهوف
في السنوات القليلة الأخيرة، وتحديدًا بعد انطلاق تطبيق تيكتوك، استغل الشاب الفلسطيني عادل الطل (32 عامًا) التطبيق وراح يستعرض حياته وعائلته داخل الكهف في قرية زنوتا الواقعة جنوب الخليل، والصعوبات التي تواجههم في إيجاد أبسط الإمكانات المعيشية.
يعيش الطل وعائلته المكوّنة من 6 أفراد في “كهف رومي” ضمن المناطق المصنفة (ج) والمحاطة بالمستعمرات الإسرائيلية، وقد سبقه جدّه الذي أصرَّ على أن يكون قريبًا من بيته المسلوب، ليرث القضية من بعده والد الطل وبعد رحيله بقيت زوجته وأولاده يعيشون في الكهف الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة، حيث لا ماء ولا كهرباء كما يقول لـ”نون بوست”.
ويشير الطل إلى أنه رغم ارتفاع حرارة الكهف صيفًا وشدة برودته شتاءً، إلا أنهم متمسّكون بالبقاء فيه، معتمدون على الثروة الحيوانية حيث لديهم عدد من المواشي التي يهتمون بتربيتها والاستفادة من منتجاتها.
ويذكر أنه حاول مرات عديدة بناء خيمة بجانب الكهف، لكن سرعان ما كان الاحتلال يأتي ويهدمها خشية تحولها إلى مبنى حجري، مشيرًا إلى أن الاحتلال يطلب تصاريح بناء لكن عند التقدم لبلديته يرفضها.
وفي السياق ذاته، يؤكد الطل أن عائلته تمتلك بيتًا آخر في منطقة بعيدة عن المناطق (ج)، لكنهم يرفضون أن يهجروا الكهف كي لا يحقق الاحتلال مبتغاه.
المناطق (ج)، التي تمثل 61% من مساحة الضفة، تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية، ما يستلزم موافقة السلطات الإسرائيلية على أي مشاريع أو إجراءات فلسطينية بها.
استطاع الطل بواسطة هاتفه جذب آلاف المتابعين من دول مختلفة للاطّلاع على تفاصيل الحياة التي يعيشها، فهو بعفويته يحاول نقل حكايات خربته زنوتا بلهجته الفلاحية الفلسطينية التي جذبت الكثيرين، فيجعلهم يعيشون معه تلك الحياة البسيطة التي يهشّ فيها دجاجاته ويلحق غنماته خشية ذهابها لمناطق قريبة من المستوطنين.
ورغم أن الكهف الذي نشأ فيها الطل وأشقاؤه المتعلمون (طبيب ومحام)، إلا أنهم وبالرغم من مغريات الحياة يرفضون الرحيل والتخلي عن أراضيهم.
ويحاول الفلسطينيون الذين يعيشون في كهوف ترتيبها لتتناسب مع معيشتهم داخلها، فهناك مكان مخصّص لتخزين الحبوب والمونة، ومثله للنوم، وآخر للضيافة.
كما أن وصولهم للمراكز التعليمية، خاصة الأطفال، مرهق جدًّا، فهم يقطعون عشرات الكيلومترات للوصول إلى مدارسهم، عدا عن بُعد المسافة للمراكز الصحية وبقية المنشآت الخدماتية والأسواق، بالإضافة إلى استخدام القاطنين في الكهوف للمركبات غير القانونية والدواب للتنقل.
ووفق اتفاقية أوسلو الثانية الموقعة بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” عام 1995، تمَّ تقسيم الضفة الغربية إلى 3 مناطق (أ، ب، ج)، حيث تمثل المناطق (أ) 18% من مساحة الضفة، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية أمنيًّا وإداريًّا، أما المناطق (ب) فتمثل 21% من مساحة الضفة وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية.
أما المناطق (ج)، التي تمثل 61% من مساحة الضفة، تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية، ما يستلزم موافقة السلطات الإسرائيلية على أي مشاريع أو إجراءات فلسطينية بها.
تاريخ الكهوف واستخداماتها
بمجرد أن يذكر مصطلح “كهف”، يتوارَد للأذهان سريعًا صوت الخفافيش والطيور والزواحف التي تعيش فيها، وأنها مكان خطر، لكن الفلسطيني طوّع الكهوف لتناسبه إما للعيش فيها وإما هربًا من الغزاة وإما مكانًا للعبادة.
ويوجد في فلسطين المحتلة مئات الكهوف بمساحات وأشكال مختلفة، حيث لا تخلو قرية فلسطينية في مدن الضفة الجبلية منها، عدا عن مكانتها التاريخية خاصة أنه عُثر فيها على دلائل لوجود الإنسان البدائي الأول، لذلك كانت ولا تزال تجذب المستكشفين والثوار إليها.
ومن أبرز تلك الكهوف هي مغارات الكرمل في حيفا مثل كهوف الطابون والسخول وأبو إصبع والواد، التي عُثر فيها على أدوات صوّانية وهياكل عظمية تعدّ حلقة تطور بين الإنسان البدائي والحديث، بالإضافة إلى كهف شقبا غرب رام الله الذي عُثر فيه على مكتشفات تعود للفترة النطوفيّة (قبل 15000-11500 عام).
وخلال البحث والتنقيب اُكتشف أن الكهوف الموجودة في فلسطين المحتلة اُستعملت في دفن الموتى، وانتشر استعمال القبور المنحوتة داخل الصخر أو في الكهوف الصخرية حيث يوضع مع الموتى ممتلكاتهم من الحلي وأدوات الزينة والأسلحة والأختام والملابس، بالإضافة إلى الطعام والشراب داخل أوانٍ فخارية، واعتاد الفلسطينيون القدماء دفن موتاهم بتوابيت من الفخار ينحتون على أغطيتها صور الموتى.
أكدت آخر إحصاءات دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطينية تعرُّض ما يزيد عن 500 موقع أثري وأكثر من 1500 معلم أثري فرعي للسرقة والتدمير من قبل لصوص الآثار والاحتلال الإسرائيلي.
في بداية العام الجاري كشفت سلطة الآثار الإسرائيلية عن مسح شامل أجرته خلال السنوات الثلاث الماضية لنحو 400 كهف ومغارة في الضفة الغربية، وخاصة في المنطقة الجنوبية الشرقية لبيت لحم والخليل ولمنطقة البحر الميت، بواسطة طائرات من دون طيار.
وقالت إنها شكّلت وحدة فعّالة تتمتع بسلطات واسعة، وتذرّعت بأن الهدف من تأسيسها منع سرقة الآثار في وقت مبكّر، فيما اعترفت أنها نقلت العديد من الآثار الفلسطينية من الضفة الغربية إلى المتاحف داخل الخط الأخضر -“إسرائيل”- بزعم الحفاظ عليها.
وفي المقابل، أكّدت آخر إحصاءات دائرة الآثار والتراث الثقافي الفلسطينية تعرُّض ما يزيد عن 500 موقع أثري وأكثر من 1500 معلم أثري فرعي للسرقة والتدمير من قبل لصوص الآثار والاحتلال الإسرائيلي.
كما أكّدت أن من أهم أسباب هذه الوضعية انهيار نظام الحماية في المناطق (ج) التي تقع تحت إدارة الاحتلال المباشرة، ثم أعمال التدمير التي يقوم بها الاحتلال لمواقع التراث الثقافي كما جرى في القدس ونابلس والخليل وبيت لحم وعابود ومناطق واسعة من جنوب الضفة والبحر الميت.
ملجأ للمقاومين ومكان للكهنة
وفي سياق احتواء الكهوف الفلسطينية للمقاومين، لا تزال حجارتها مخضّبة بدماء الثوار المطاردين منذ الغزو الصليبي وحتى الإسرائيلي، فهي كانت ملاذًا لهم تحميهم من جنود الاحتلال خاصة في الكهوف المنتشرة في المناطق الجبلية.
تقول إحدى الروايات إن المقاتلين المسلمين خلال الفترة الأيوبية، كانوا يختبئون في كهوف مدينة القدس خلال حملاتهم الاستطلاعية لجمع الأخبار عن الصليبين، وما وثّق ذلك هو وجود أسماء بعضهم محفورة على جدران الكهوف.
وفي حادثة أخرى بارزة حين استخدم المقاومون الكهوف في معركة الصوّانة، وهي مجموعة تلال قريبة من الحدود الأردنية-الفلسطينية شرق قريتَي بيت دجن وبيت فوريك، إذ لجأ في أبريل/ نيسان 1967 بعض المقاومين الذين تسلّلوا عبر منطقة الجفتلك إلى إحدى مغارات الصوّانة، حينها علمَ الاحتلال بوجودهم وهاجمهم فاستشهد أحدهم وأُلقيَ القبض على البقية.
وخلال المعركة علم جنود الاحتلال بقدوم مجموعة ثوار لمساندة المجموعة المتسلِّلة، فنصبوا لهم فخًّا في المغارة، وحين وصل الثوار إلى الكهف أُطلق النار عليهم لتكون معركة حامية الوطيس استشهد فيها 3 من المقاومين وأُصيب اثنان أُلقي القبض عليهما، فيما نجح البقية بالفرار.
رغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي قلع الفلسطيني من أرضه وبيته وملاحقته في الكهوف والمغارات، إلا أنه لا يزال ثائرًا صامدًا في وجه المحتل للحفاظ على أرضه وتاريخه وتراثه، فالحجارة شاهدة على أنه صاحب الأرض.
وفي هذه السنوات لا يزال يراوغ الفدائيون جنودَ الاحتلال حينما يحتمون في الكهوف، ليكون آخر الشهداء المقدسي أحمد زهران (31 عامًا)، حيث قُتل في الكهف وسُرق جثمانه، بعدما بقيَ الاحتلال يطارده مدة أسبوعَين بحجّة أنه كان يخطط لتنفيذ عملية ضد أهداف إسرائيلية، وكان برفقته -يوم اكتشاف الاحتلال مكانه- صديقاه زكريا بدوان ومحمود حميدان، وقد أعلن الاحتلال أنه قتلهم جميعًا فجر الأحد 26 سبتمبر/ أيلول 2021.
ولم تقتصر الكهوف الفلسطينية على دفن الموتى أو حماية المقاومين فقط، بل وُظِّفت دينيًّا حينما اتخذها الرهبان مكانًا للعبادة وطلبًا للحماية، خاصة في العهد الروماني حين طاردت السلطات الرومانية آنذاك أتباع المسيح عليه السلام.
وفي الفترات الإسلاميّة اللاحقة، اتُّخذت بعض الكهوف كمقامات للأولياء، مثل مغارة الأدهمية شمال البلدة القديمة للقدس أسفل مقبرة باب الساهرة، وصخرة الست سليمية في مدينة نابلس، وهي تجويف صخري على السفح الجنوبي لجبل عيبال، بالإضافة إلى اتخاذها للتأمُّل كنوع من العبادة والابتعاد عن الناس.