يتيح “حكم اللصوص” للأحزاب الحاكمة في العراق استغلال هيمنتها على سلطات الدولة ومواردها ومفاصلها، من أجل توسيع مصالحها الشخصية، وفي النتيجة تتراكم ثرواتها ونفوذها السياسي، فالدولة مجرّد مورد للاستثمارات المالية الشخصية، وما يلحقها من فوائد وامتيازات لتابعيهم وتابعي تابعيهم، فتجيَّر مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان لأشخاص النظام وعائلاتهم وأقاربهم، أو في أحيان أخرى لقبائلهم وطوائفهم.
في الحالة العراقية، الفساد حالة نادرة على مستوى العالم، إذ تجري عمليات النهب والهدر بحماية السلاح الذي ترضخ له مؤسسات الدولة تحت طائلة التهديد، وتعمل على خدمة المتنفّذين وتأمين امتيازاتهم، ويحصر المسؤول تقديم الخدمات الاجتماعية مقابل الولاء؛ علاقة منظَّمة بين الفاسدين ونظام سياسي يوفّر لهم الغطاء.
كل هذه العوامل وأكثر جعلت من الحديث عن “مليارات منهوبة” و”ملايين مسروقة” أخبارًا مألوفة لدى العراقيين على مدار السنوات الماضية، إلا أن الجديد في فضيحة سرقة 3.7 تريليونات دينار عراقي (نحو 2.5 مليار دولار) من حساب أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين، تزامنها مع مرحلة سياسية جديدة بانتخاب البرلمان رئيسًا جديدًا للبلاد، وتكليف رئيس للحكومة المقبلة بعد عام من الانسداد والتعطيل السياسي، ونهاية حكومة أخرى جاءت بعد احتجاجات شعبية كبرى طالبت بإنهاء الفساد المستشري بفعل سياسة التخادم بين الأطراف الحاكمة.
أول اختبار حقيقي للسوداني
يرى كثير من العراقيين سرقة المسؤولين للمال العام أول اختبار حقيقي للحكومة المقبلة، التي أطلق المكلَّف بتشكيلها وعودًا شتى، على رأسها تعهُّده بإنهاء ظاهرة الفساد، حيث تفاعل السوادني المكلف بتشكيل الحكومة افتراضيًّا على مواقع التواصل الاجتماعي وغرّد عن الفساد المستشري والفضيحة الأخيرة، قائلًا: “وضعنا الملفَّ في أول أولويات برنامجنا، ولنْ نسمحَ بأن تُستباحَ أموال العراقيين، كما حصل مع أموال أمانات الهيئة العامة للضرائب في مصرف الرافدين”، لكن العراقيين الذين خَبِروا المنظومة الحاكمة يعرفون جيدًا تلك الشعارات.
“أولوياتنا مكافحة الفساد”، عبارة مكررة، جرت على ألسن رؤساء الحكومات المتعاقبة والقادة السياسيين كافة منذ عام 2003، لكنْ أيّ من تلك الوعود لم تُنهِ الظاهرة التي تسبّبت في ضياع أموال طائلة في جيوب المنتفعين على حساب الدولة ومؤسساتها.
كيف يمكن لـ 3.7 تريليونات دينار أن تختفي من أرصدة وزارة المالية؟
قصة الأموال المسروقة ظهرت إلى العلن بوثيقة مسرَّبة وحديث شعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كشف كتاب رسمي صادر عن هيئة الضرائب أن المبلغ جرى سحبه في الفترة الممتدة بين 9 سبتمبر/ أيلول 2021 و11 أغسطس/ آب 2022، وحُرِّرت هذه الصكوك المالية إلى 5 شركات صرفتها نقدًا مباشرة.
وفي الحالة العراقية يتبع سياق واحد في التعاطي مع مثل هذه الجرائم، وهو تشكيل لجان للتحقيق لا تكشف النتائج، بل تتستّر على هوية الضالعين بالجريمة، ففي الساعات الأولى لكشف الفضيحة لم تجب البيانات الرسمية عن أسئلة بديهية، مثل: “من هم المالكون الحقيقيون لتلك الشركات؟ ومن سمح بإعطاء الشركات تلك الصكوك؟ وكيف عبر الأمر غير ملحوظ عامًا كاملًا من دون أي علامات تحذيرية؟ ومن هم السياسيون الضالعون في عملية الفساد والسرقة الكبيرة؟”، والإجابة الصريحة عن هذه الأسئلة تكشف بوضوح طبيعة نظام الحكم.
كيف يمكن لـ 3.7 مليار دينار أن تختفي من أرصدة وزارة المالية؟ ومن يحمي الفساد في العراق؟ والإجابة أيضًا عن هذه التساؤلات تكشف عن مناخ للفساد محمي بسلاح ونفوذ سياسي يمنع فتح الملفات الكبرى.
وفي المحصلة، يعاني العراقيون في بلد تنخره المحاصصة والمحسوبية وتتبخّر أمواله بصفقات مشبوهة، ويتصدر دول العالم في مؤشرات الفساد، إذ يوفّر النظام السياسي ومنظومة الحكم غطاء للتجاوز على المال العام، ويتجاهل مطالب العراقيين الداعية إلى مكافحة الفساد ومحاسبة المتورطين.
منظومة متكاملة
مرَّ الفساد ويمرُّ بمراحل عديدة، فتحوّل من حالات فردية إلى منظومة متكاملة، رغم وجود لجان نيابية وهيئات “مستقلة” وعديد من المؤسسات الرسمية المعنية بمكافحته، إلا أن مهمتها في إيقاف الهدر المالي وضمان صرف الأموال في الأوجُه القانونية لم تتم، نظرًا إلى تغوّل الظاهرة في مفاصل الدولة الهشّة، التي تمَّ الاستيلاء عليها من قبل أحزاب وجماعات متنفّذة.
الفساد آفة حفرت وامتدّت جذورًا عميقة في العراق، واقتلاعها مرهون بإرادة سياسية، والفاسدون هم أصحاب القرار، وهم الذين يسيطرون على نقاط التفتيش، وهم أبطال عمليات الاحتيال المصرفي والتحايل على النظام المالي، وهذه الأشكال تتم -بالطبع- مع تواطؤ سياسي عبر شبكات الكسب غير المشروع التي اُبتليت بها البلاد.
يصعب التكهُّن أو احتساب حجم المال المسروق والمهدور بدقة، بسبب عدم وجود نظام مالي يسهّل هذه المهمة، والصفقات أُبرمت بشكل نقدي وأصبح من الصعب الحصول على الوثائق التي تثبتها، بالإضافة إلى أن المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد لا تكشف الأرقام بدقّة للرأي العام، وفي الغالب تتحدث عن عموميات في بياناتها، لكن تقارير عديدة تتحدث عن أن أموال العراق المهرّبة بشكل غير قانوني إلى الخارج وإلى أكثر من دولة تقدَّر بنحو 300 مليار دولار أميركي.
في المقابل، إن الأموال التي أُهدرت على مشاريع وهمية أُعلنت ولم تنفَّذ وسُحبت مبالغها من خزينة الدولة بنحو 300 مليار دولار، حيث في النهاية يرتبط الفساد في العراق ببنية الدولة، ويُغيّب النظام الزبائني مؤسساتها، سَمِّهم ما تريد ولن يعترض عليك أحد، انتهازيون وفاسدون أغناهم النظام السياسي وأفقر شعبه.