قدمت الحضارة السورية للإنسانية الكثير والكثير في شتى العلوم والمجالات، فعلى مدار 7 آلاف عام تركت الحضارات التي تعاقبت على دمشق إرثًا ثقافيًا عظيمًا، تجسد في عدد من الصور والأشكال من بينها المخطوطات والمؤلفات التي زخرت بها مكتبات سوريا حتى اليوم.
وكانت مدن سوريا القديمة (صيدنايا ودورا وسرجيلا وماري وإبلا) منارات للأدب والثقافة، فيما تربعت دمشق على قائمة مصادر الإشعاع التراثي، ليس في سوريا فقط، بل في المنطقة بأكملها، لذا جاء اختيارها كعاصمة للثقافة العربية عام 2008، تتويجًا لتاريخها الثري في دعم الإرث الثقافي العربي والإسلامي.
نلقي الضوء في تلك المادة من ملف “خزائن المعرفة” على تاريخ الوراقة في سوريا وأبرز خزانات المعرفة بها التي تحتوي على أمهات المجلدات ونوادر المخطوطات وما تعرضت له بعض المكتبات من أضرار ومخاطر نتيجة الحروب والحرائق التي شهدتها البلاد وأفقدتها الكثير من زخمها التراثي.
دمشق.. حاضرة النّسْخ العربي والإسلامي
يقول الباحث التاريخي إياد خالد الطباع، في ورقته البحثية التي عنونها بـ”تقنيات صناعة المخطوط العربي في بلاد الشَّام” إن دمشق تعد أول حاضرة إسلامية بدأ فيها نسخ الكتب بشكل رسمي، وذلك حين أرسل إليها الخليفة عثمان بن عفان إحدى نسخ المصاحف التي وزعها على المدن الإسلامية عام 35هـ، وما إن وصلت النسخة إلى دمشق حتى نسخها الأهالي إلى عدة نسخ وكانت تلك أولى خطوات صناعة المخطوطات في بلاد الشام.
تحولت دمشق إلى قبلة للعلماء وطلبة العلم، وأولى الحكام وقتها أهمية كبيرة للتدوين والنسخ
ومع ولاية الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، شهدت حركة صناعة المخطوطات تطورًا كبيرًا، فقد روى عنه أنه كان يقوم بالليل ويجهز الدفاتر التي فيها سير الملوك وأخبارهم وأخبار الحروب والأحداث التي كانت تشهدها الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، كما كان ينقل معاوية عن بعض المساعدين أخبار العرب والعجم ويدونها في مخطوطات خاصة.
وفي زمان الوليد بن عبد الملك انتشرت الفتوحات والتوسعات الإسلامية، ورافق ذلك نهضة كبيرة في نسخ الكتب والمخطوطات التي تم نقلها من الحواضر التي يفتحها المسلمون، ما أدى إلى ازدهار مهنة “النسّاخ” في دمشق، وبدأت تنتشر دكاكين النسخ والتدوين، ويشير المؤرخون – بحسب الورقة البحثية – إلى أن نواة المكتبة العربية ونواة المخطوط الشامي بدأت مع قيام الدولة الأموية.
وفي أواخر القرن الرابع الهجري انتشرت المدارس في دمشق والشام عمومًا، وصاحبها انتشار صناعة الوراقة والنسخ، ومعها شيوع التأليف والترجمة، وتحولت دمشق إلى قبلة للعلماء وطلبة العلم، وأولى الحكام وقتها أهمية كبيرة للتدوين والنسخ، فبجانب أنها رسالة ثقافية سامية، كانت مهنة رابحة تدر دخلًا على أصحابها، وساهمت تلك الأجواء في ازدهار العديد من الصناعات والمهن المرتبطة بالمخطوطات منها: صناعة الورق وتجارته ومهنة النسخ ومهنة الزخرفة وصناعة التجليد وتجارة بيع الكتب.
واتخذت كتابة المخطوطات الدمشقية طريقتين: الأولى أن يؤلف العالم مجلدًا ما ثم ينقل عنه الناسخون، أما الثانية فكانت عبر الإملاء من فم الشيوخ في مجالس الإملاء، وكان الناسخون ينقلون عنهم فورًا، وهو ما كان معمولًا به في مجالس ابن عساكر التي كانت تقام في الجامع الأموي بدمشق.
المكتبة الظاهرية
في الزقاق الذي يربط بين قلعة دمشق والجامع الأموي في منطقة باب البريد بحي العمارة في قلب دمشق، تقع المكتبة الظاهرية قبالة المدرسة العادلية الكبرى، تلك المكتبة التي أسسها الظاهر بيبرس عام 676هـ/1277م، لذا سميت باسمه، تعد واحدة من منارات الثقافة في الشام وأحد أضلاع الحضارة السورية العريقة.
تعاقب على ملكية المبنى المقام عليه المكتبة الكثير من الشخصيات التاريخية السورية أبرزهم الشريف أحمد بن الحسين العقيقي عام 378هـ، ثم انتقلت ملكيتها إلى أبي أيوب والد صلاح الدين الأيوبي لتكون مقرًا لإقامته، وخلفه في ملكيتها الملك السعيد محمد بركة (ت678هـ/1280م) وبعده ابن الظاهر بيبرس (ت676هـ/1277م)، فيما تعددت أسماؤها منذ نشأتها، فسميت بداية الأمر بـ”المكتبة العمومية” عام 1298مـ ثم “دار الكتب العربية” عام 1919 فيما تغير إلى “الأهلية” عام 1934م وصولًا إلى “دار الكتب الوطنية” عام 1947م.
ظل مدادها لا ينفد أبدًا، إذ كانت الجهة الأكثر موثوقية لدى المشايخ والعلماء لوقف مكاتبهم لها
ظلت المكتبة مسكنًا شخصيًا لتلك الشخصيات حتى أمر الملك المنصور قلاوون عام 1290م بإكمال البناء وتطويره ليستعمل فيها بعد كمدرسة للأحناف والشافعية ودار للحديث، كما هو مدون على اللوحة الحجرية الموجودة فوق باب المدفن بالمكتبة حتى اليوم، وظلت المكتبة في هذا الدور قرابة 600 عام تقريبًا، قبل أن تحولها الدولة العثمانية فيما بعد إلى مدرسة ابتدائية عرفت باسم الملك الظاهر.
في عصر العثمانيين ازدهرت حركة الترجمة والتدوين والنسخ بشكل كبير، ولعل اختيار مدحت باشا واليًا على سوريا عام 1878م دليلًا على ذلك، إذ كان معروفًا بعلاقته القوية بالعلماء وحبه للعلم وتشجيعه على البحث والتفوق، وكان من بين علماء الشام ممن قربهم منه الشيخ سليم البخاري المتوفى عام 1928م والشيخ طاهر الجزائري، مفتش معارف ولاية سوريا، المتوفى عام 1920م، وكان لهم دور في حث الوالي على العناية بالتراث والمخطوطات وتحويل المدرسة الظاهرية إلى مكتبة عامة تضم بين جنباتها نوادر ونفائس المخطوطات التراثية العربية والإسلامية.
وبالفعل أصدر الوالي قرارًا بجمع كل المخطوطات من المكتبات العامة والمكتبات الخاصة ووضعها في مكتبة يكون مقرها مقبرة الملك الظاهر وابنه، ومع مرور الوقت تحولت إلى “المكتبة الظاهرية” لما تتمتع به من طراز معماري فريد وقوة في البنيان تؤهلها لتلك المكانة.
وفي عام 1927 تم إخلاء المدرسة الابتدائية الظاهرية وإجراء بعض الترميمات بها لتتناسب ومهمتها الجديدة، فقسمت إلى أقسام وغرف وأرفف، مع إدخال بعض التطورات بها بجانب ترتيب الكتب وتنظيم عملية الفهرسة، مع الاستعانة بنظام وضع الكتب في الرفوف عمودية وليست أفقية، وهي طريقة المدينة المنورة في الفهرسة.
كانت باكورة مقتنيات المكتبة والنواة الأولى لها في حلتها الجديدة من المخطوطات قرابة 2453 مخطوطة تم جمعها بشكل شخصي من بين المكتبات الشخصية الموجودة التي كان من أبرزها عشر مكتبات هي: المكتبة العمرية: وقد جمع منها 660 مخطوطة، مكتبة عبد الله باشا العظم: وجمع منها 461 مخطوطة، مكتبة الخياطين: وجمع منها 375 مخطوطة، مكتبة الملا عثمان الكردي: وجمع منها 312 مخطوطة، المكتبة السليمانية: وجمع منها 130 مخطوطة، المكتبة المرادية: وجمع منها 260 مخطوطة، المكتبة السميساطية: وجمع منها 81 مخطوطة، مكتبة بيت الخطابة: في الجامع الأموي وجمع منها 73 مخطوطة، مكتبة الأوقاف: وجمع منها 64 مخطوطة وأربعة كتب مطبوعة، المكتبة السياغوشية: وجمع منها 11 مخطوطة.
ومع الوقت باتت المكتبة الظاهرية واحدة من خزائن المعرفة الكبرى في الشام والعالم العربي والإسلامي، وظل مدادها لا ينفد أبدًا، إذ كانت الجهة الأكثر موثوقية لدى لدى طلبة العلم والعلماء لوقف مكاتبهم لها، وظلت هكذا حتى فوجئ الجميع بنقل مخطوطاتها ومراجعها لحفظها في مكتبة الأسد بصفتها المكتبة الوطنية المركزية.
المكتبة الوطنية بدمشق
تعد مكتبة الأسد، وهي المكتبة الوطنية في سوريا، العنوان الأبرز للمخطوطات الشامية، إذ تحتضن آلاف المخطوطات بين جنباتها وأولت الدولة أهمية كبيرة لها كونها رمزًا وعلامةً مضيئةً على حضور سوريا الثقافي وإسهاماتها الحضارية الموثقة على جلود وأوراق تلك المخطوطات.
ويعتبر البعض أن تلك المكتبة – التي أنشئت في دمشق وافتتحت رسميًا عام 1984 على مساحة 22 ألف كيلومتر مربع – واحدة من أكبر المكتبات العربية والإسلامية، وقد وضعت في ديباجة تأسيسها حزمة الأهداف التي سعت لأجل تحقيقها والمتعلقة بجمع كل أشكال التراث الثقافي من كتب ومخطوطات ومجلدات في شتى المجالات، والحفاظ عليها وحمايتها وتسهيلها أمام القراء والباحثين.
يلاحظ أن مكتبة الأسد لا تزال تتعامل بنظام الترميم اليدوي الذي رغم ثمنه الباهظ، فإنه الأكثر جودة ودقة
وتضم المكتبة المقسمة إلى 9 طوابق عددًا من القاعات، الرئيسية منها تبلغ 12 قاعة: قاعة الأدب والدين واللغات، قاعة العلوم الاجتماعية والمعارف العامة والفنون، قاعة العلوم النظرية والتطبيقية، قاعة شاملة للعلوم مخصصة لطلبة السنوات الأولى في الجامعات والمعاهد، القاعة السورية، قاعة مخصصة للتشريعات والقوانين السورية وحفظ وأرشفة الجريدة الرسمية السورية، قاعة الدوريات القديمة، وتضم الإصدارات القديمة بكل اللغات، قاعة الدوريات الحديثة، وتضم الإصدارت الحديثة للصحف والمجلات العربية والأجنبية، قاعة هيئة الأمم المتحدة، تحتوي على مراجع وتقارير إدارية وعلمية صادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، قاعة الكمبيوتر، قاعة المكفوفين، تضم أجهزة خاصة لضعاف البصر إضافة للأجهزة المخصصة للمكفوفين فاقدي البصر وأجهزة سمعية وتضم الكتب والدوريات بلغة بريل، قاعة المخطوطات والكتب النادرة، وهي قاعة مجهزة بمستودع خاص يخضع لشروط حماية للمحافظة على المخطوطات والوثائق وحمايتها من التلف وفق أحدث النظم والتقنيات، وأخيرًا قاعة التراث السوري أو قاعة الوسائل السمعية والبصرية، وهي مخصصة لحفظ التراث السوري بأشكاله وألوانه كافة.
ويبلغ عدد المخطوطات التي تحتضنها مكتبة الأسد قرابة 19215 مخطوطة، حيث نقلت إليها مكتبات المراكز الثقافية والمحافظات ومديريات الآثار والمتاحف، وهي تتنوع فيما بينها من حيث الموضوعات واللغة إذ تقدم وجبة دسمة من التراث الجامع لكل الحضارات الناشئة في الشام.
وتتخذ المكتبة مجموعة من الإجراءات والتنظيمات لحماية وحفظ المخطوطات من التلف، حيث تمر المخطوطة برحلة طويلة بدءًا من خروجها من مستودع الحفظ الذي يجب أن يراعي المواصفات العالمية من حيث الحرارة والرطوبة، ثم يتم فحصها بعد ذلك وتحديد حجم ومدى إصابتها أو صلاحيتها، وبعد ذلك تتوجه إلى مرحلة التعقيم التي يدخلها كل المخطوطات بشكل دوري، مع فهرستها بشكل ممنهج وعلمي يسهل عملية الاضطلاع عليها.
ورغم أن معظم المكتبات في العالم تتعامل مع المخطوطات التراثية بنظام الترميم الآلي وفق بعض الخطوات التقنية التي تتم بشكل مميكن، يلاحظ أن مكتبة الأسد لا تزال تتعامل بنظام الترميم اليدوي الذي رغم ثمنه الباهظ، فإنه الأكثر جودة ودقة ويقلل نسب الخطأ ويحافظ على المخطوطة من التلف لفترات طويلة.
ضحايا الحرب
المكتبة الوطنية في ساحة الأمويين والمكتبة الظاهرية في دمشق القديمة، هما المكتبتان الأساسيتان في العاصمة السورية، قبل إفراغ الظاهرية لصالح مكتبة الأسد، على أن سوريا فيها عدد من المكتبات العريقة في المحافظات والمدن الأخرى، لكن نيران الحرب امتدت إلى عدد منها.
فما بناه السوريون في آلاف السنين دمره عقد من الحرب، هكذا يرى الكثير من المراقبين واقع التراث السوري الذي تعرض لدمار أفقده الكثير من بريقه، فعلى مدار السنوات العشرة الأخيرة تعرضت عشرات المكتبات إلى الحرق والتدمير في إطار الحملة التي شنها الأسد ضد المعارضين والثائرين منذ 2011.
بعد عقود طويلة كانت فيها دمشق وحلب لؤلؤتين ثقافيتين وقبلتين لا يخيب من قصدهما، إذ بهما اليوم في واقع بائس، فالمفقود من الكنز التراثي الذي كان تمتلكه سوريا كفيل أن يبني حضارات بأكملها
هذا الرأي أكدته الباحثة السورية بغداد عبد المنعم في كتابها “التراث في آتون الحرب” الذي وثقت من خلاله حالة مدينة حلب، لافتة أن تلك المدينة التي كانت تمتلك أكبر ذخيرة مخطوطية في شمال المنطقة العربية، تعرضت لحرب إبادة لهذا التراث، ما دفع حائزي المخطوطات إلى نقلها إلى أماكن سرية آمنة.
واستعرضت الباحثة في مؤلفها مصائر التراث والمخطوطات في أثناء فترات الحروب التي شهدتها سوريا، قائلة إنه في الحروب الداخلية المباشرة كما هو الحال الآن فإن التدمير والحرق هو المصير المحتوم، وهو ما يتفق معه المؤرخون ممن يشيرون إلى أنه لا ثقافة ولا تراث مع الأنظمة الديكتاتورية التي لا تؤمن بالعلم ولا الثقافة، أما في الحروب الباردة فالسرقة والنهب المصير البديل.
وبعد عقود طويلة كانت فيها دمشق وحلب لؤلؤتين ثقافيتين وقبلتين لا يخيب من قصدهما، إذ بهما اليوم في واقع بائس، فالمفقود من الكنز التراثي الذي كان تمتلكه سوريا كفيل أن يبني حضارات بأكملها، ومع ذلك فإن الكثير من الأصوات تطالب بحماية المتلقي والعمل على تطويره وحمايته من الضياع والتلف بصفته ذاكرة الأمة وحلقة الوصل بين ماضيها وحاضرها والمرشد نحو مستقبلها.