تغيّرت السينما، لم تعد أفلام الغرب الأمريكية تُصنَع كما في حقبة خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، تقلصت النوعية ولم يبقَ منها سوى الفتات، فقد انفتحت على أنواع أخرى واندمجت في محيط الأصناف والأجناس السينمائية المختلفة، بحيث لا يقدر المشاهد الفصل بين الأنواع، بل يتعاطى معها ككلية واحدة.
انخفاض المعدل والتهميش لم يَطُولا نوعية أفلام الغرب فقط، بل امتدّا إلى أفلام الحرب والملاحم والسيوف وحتى أفلام الكوارث، إذ اختلفت طبيعة التعرض لهذه الأجناس التي كانت جميعها تتصدّر شبّاك التذاكر في حقب زمنية متفرقة خلال القرن المنصرم، فمع دخول التقنيات والمؤثرات البصرية منح الصنّاع حرية أكبر في استخدام الموارد وخلق العالم، ما فكّك النوعيات السينمائية، وخلق نمطًا حداثيًّا يتوافق مع احتياجات ونسق المجتمع، وكشف مناطق جديدة تتحدى عوائق وحدود مختلفة.
ولكن، بين الحين والآخر، يحقق أحد المخرجين فيلمًا يذكّرنا بالنمط الكلاسيكي في بناء الأفلام، يعود بنا إلى القديم، ويعيد تقديمه مجددًا، بيد أن منتجه لا يحمل بالضرورة قيمة الكلاسيكيات ذاتها، فالأفلام أبناء الأيام، والأيام ذاتها ولّت، ويحتاج المخرج إلى تقديم لمحة جديدة، عصرية، فالأفلام الكلاسيكية التي نعيد مشاهدتها مرارًا تحتفظ بقيمتها لتفردها، نظرًا إلى زمانها وثوريتها وظروفها وجمالها وأدواتها.
بيد أن تعريف الفيلم الجيد ذاته اختلف الآن، الجمهور لا يودّ مشاهدة منتج بصري جديد يشبه في وقعه وتناغماته كلاسيكيات النوع، فهو بسهولة يقدر أن يعود للأصل ويعيد مشاهدته، وبالطبع سيجد فرقًا هائلًا في جودة الأفلام، فالتشابُه وحده والجوّ العام لا يكفيان، حتى لو وُجّهت التحيات وأوحت الإشارات إلى ما هو قديم كلاسيكي راسخ.
لا تكفي نية الاستحضار والمغازلة لصنع فيلم مميز، فنحن ربما نفتقد لقوة وعنفوان وتنوّع السينما في أوقات ماضية، ولكننا بالضرورة نودّ مشاهدة فيلم جيد، بغضّ النظر عن كل الحالة العامة وفرادة الكلاسيكيات، إذا أردت الاعتماد على المفردات السينمائية الكلاسيكية ذاتها، فأنت حر، أنت الصانع، ولكن النتيجة ليست جيدة كفاية إلا في تذكيرنا بعظمة الحقب الماضية.
صنع المخرج والتر هيل، في الثمانين من عمره، فيلمًا يشتمل على شذرات من كل موتيفات أفلام الغرب الأمريكية العريقة، لا يمكن التفكير في فيلم “ميّت لأجل دولار (Dead for a Dollar)” بمعزل عن أعلام نوعية الغرب الأمريكي، فالأمر كله أشبه بمحاولة للتذكير، والكثير من الإحالات والإشارات لأفلام قديمة، بداية من موسيقى زاندر روزنيسكي تماثل موسيقى أفلام الغرب في الستينيات، من حيث الاستخدام الهادئ للآلات والإيقاع البطيء، بجانب عدم اللجوء للصخب إلا في مشاهد الذروات، ما يحيلنا إلى موسيقى موريكوني العظيم، بالإضافة إلى المكان والزمان، قرية على حدود المكسيك، في القرن التاسع عشر.
ليس ذلك فقط، بل يطوّع والتر الثيمات ذاتها التي استخدمها جون فورد في تحقيق أفلامه، أنا لا أقصد على المستوى الفني والسردي، بل على المستوى التقني، فالفيلم بصريًّا أدنى من أغلب أفلام العصر الذهبي للويسترن الأمريكي، إذ لا يوجد تلاعب أو نقلات أو حتى محاولة لفرض نسق بصري معيّن لقيادة الفيلم، بل يترك السردية الكلاسيكية تنساق في نمط شديد العادية، وبهدوء حذر يوجّه والتر هيل فيلمه من البداية إلى اللحظة النهائية.
والتر هيل، الغائب عن السينما لفترة تجاوزت الـ 6 سنوات، منذ فيلمه “المهمة (The Assignment)” عام 2016، يحقق فيلمه الأخير بميزانية ضئيلة، وبأسلوب حكي كلاسيكي وفيّ لتيمة الغرب الأمريكية، حيث يقول في أحد تصريحاته إنه لا يعيد اللقطة مرتين، ولا يشاهد اللقطة من خلال الشاشة الرئيسية (المونيتور)، بل يكتفي بلقطة واحدة، خصوصًا أنه يتعامل مع ممثلين بارعين يحفظون النص جيدًا.
يمكن أن تشير منهجية اللقطة الواحدة إلى نقطتَين، أولاهما أن الأسلوب أقرب إلى أنماط التصوير بكاميرا الفيلم، فعلبة الخام مكلفة، إذ كان يستوجب على المخرج حساب خطواته بحذر خوفًا على الشريط، إلى جانب أن الفيلم ذاته مخلصًا لأسلوب الصناعة الكلاسيكي، في منطق الحكي واللغة البصرية، حتى هيكلة الشخصيات -وهذه نقطة إيجابية- أشبه بشخصيات الغرب القديمة، فالأشخاص حقيقيون، يبتعدون تمامًا عن الصوابية السياسية وتصحيح المسار، بالإضافة أن والتر ذاته قد تجاوز الثمانين، وقد صنع الفيلم تحية للمخرج الأمريكي بد بوويتكر، واحد من صنّاع أفلام الغرب في حقبة الخمسينيات والستينيات، بميزانية ضئيلة أيضًا كان يخلق عالمًا خاصًّا.
النقطة الثانية هي المدة القصيرة التي وفّرتها شركة الإنتاج، كل هذه العوامل جعلت الفيلم يظهر في شكله النهائي كمنتَج بصري متوسط، يتضمن بعض الحوارات الجيدة وبعض اللقطات المميزة، لكنه لا يخرج عن المألوف والعادي، متوسط الجودة، رغم ثقل الممثلين ورزانتهم إلّا أن السردية البصرية مكتظة بالمشاكل، حقّق والتر الكثير من اللقطات على عجل، ظهرت عدة هفوات في المعارك والبناء، بيد أنه كما قلت لا يتجاوز العادي والمتوسط في كل شيء، كمحاكاة لأفلام العصر الذهبي للغرب الأمريكي.
في فيلم “ميّت لأجل دولار” يلجأ رجل ثري يُدعى مارتن كيد (هاميش لينكلتر) إلى صائد جوائز شهير آنذاك، ماكس بورلاند (النمساوي-الألماني كريستوف فالتز)، لتخليص زوجته راتشل (راتشل بروزناهان) من قبضة خاطفها، جندي أسود سابق في الجيش يُدعى إلايجا جونس (براندون سكوت)، وعلى إثر ذلك ينطلق ماكس بصحبة أحد جنود الجيش، الرقيب بو (وورن بورك)، في رحلة على الحدود الأمريكية المكسيكية لاسترجاع المرأة التي يدّعي زوجها أنها مخطوفة.
مع مرور الأحداث، يتضح أن الزوجة هربت مع عشيقها إلايجا بإرادتها الحرة للتخلُّص من بطش زوجها وخياناته المتعددة، ومع انكشاف الملابسات تتعقّد الحكاية أكثر، خصوصًا مع ظهور عصبة من الرجال بقيادة زعيمهم تايبيريو فارغاس (بنجامين برات)، الذي يسطو بفضل نفوذه على الحي، بل المنطقة بأكملها تحت سيادته.
إلى جانب ذلك، يخرج المجرم السابق جو كريبينز (ويليام ديفو) من السجن بعد أن قضى مدته، الذي ستقوده الأقدار بعدها نحو غريمه السابق بورلاند الذي أوقع به وسلّمه للشرطة، ليحاول الانتقام، تتشابك الأحداث ببطء، بإيقاع هادئ لا يرفع من نسقه إلا في آخر نصف ساعة تقريبًا، عندما تتقاطع الخطوط السردية، حين يجتمع كل الأطراف في البلدة، وتبدأ لعبة تصفية الحسابات ومعرفة الطرف الأقوى.
جمع والتر هيل فريقَ عمل مميزًا على مستوى التمثيل، فجميعهم أسماء تقع بين الجيد والمرموق، ولكن على النقيض لم تظهر أي شخصية بشكل استثنائي، لقد أدّى كل فرد منهم دوره كما يجب أن يكون، ولكن الفيلم نفسه لا يسمح للممثل إلا في مشاهد قليل أن يعبّر عن ذاته ويضيف إلى الشخصية بُعدًا جديدًا.
وعلى عكس كل التوقعات، كان أداء فالتز باردًا وفاترًا، مثلما أدّى ديفو، في دور صغير نسبيًّا، أداءً عاديًّا ليس مميزًا ولكنه ليس فاترًا، على عكس راتشل بروزناهان التي خلقت توازنًا في الفيلم، في دور محوري، نجحت في تذكيرنا ببطلات سابقات في أفلام الغرب، رغم كونه دورًا نمطيًّا للمرأة، ولكن يبتعد عن الأجندات السياسية قدر الإمكان.
والحقيقة أن هيل يرسم شخصياته بشكل جيد لتتوافق مع الحقيقة وتتآلف مع البيئة، ليستطيع المشاهد في النهاية تصديقها، بيد أنه لم يخلق نمطًا استثنائيًّا، لا على مستوى الشخصيات ولا على مستوى السيناريو، فسهولة التنبؤ بالأحداث أفقدت الفيلم جزءًا من قيمته التشويقية، وعلى الوتيرة نفسها، بل ربما أسوأ، حيث يصمّم هيل وفريقه الإنتاج، ربما يقع النمط البصري في خانة المتاح والمستطاع، ولكن على الناحية الأخرى لم نرَ خدعًا بصرية أو محاولة للعب بالكاميرا، لم نرَ لغة سينمائية فريدة كما حدث في العصر الذهبي للويسترن، حتى تصحيح الألوان لم يمنح الصورة السينمائية رونقًا.
لقد تخلّى هيل، ربما بسبب أن الميزانية ضئيلة، عن كثير من مفردات القيمة البصرية، ولكن على الناحية الأخرى يمكن أن يكون اختيار هذا النمط بالذات متعمّدًا، لرصد حقبة سينمائية معيّنة، ولكن حتى هذه الأجناس السينمائية كانت تخلق جماليات من نوع مختلف عن طريق تطويع أشكال أخرى من المفردات السينمائية البصرية والأدبية.
لقد خلق هيل عالمًا عاديًّا في كل شيء، حتى نمطه البصري لا يحمل إلا بضع إشارات جميلة، إلى جانب عدة مشاهد جيدة في منتصف ونهاية الفيلم لا يمكن تحميل الفيلم أكثر من ذلك، ولكن لا يمكن تهميش مجهود صناعته، فالمنتج البصري يقع كله داخل خانة الغرب الأمريكي، فيلم يسير على النمط ذاته الذي اتّبعه آباء صنف الغرب، فيلم جيد وقابل للمشاهدة.
ربما يسأل البعض عن مدى صحة ودقة اختيار المخرج لممثل غير أمريكي، كريستوف فالتز، وتسكينه في دور أمريكي بحت، والحقيقة أن المخرج قد برّر ذلك، وأدلى أن شخصية ماكس بورلاند شخصية حقيقية، مهاجرة، وقد عملت في الجيش الأمريكي ثم تحولت إلى صيد الجوائز حتى توفت وتركت وراءها صيتًا وسمعة، لذا فضّل المخرج اختيار ممثل غير أمريكي وتسكينه للدور، حتى يصبح الأمر أكثر منطقية، وقد رضيَ تمامًا عن أداء فالتز للدور.