قضت محكمة جزائية متخصصة في العاصمة السعودية الرياض، في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أحكامًا بالسجن تتراوح بين 10 و18 عامًا بحقّ 10 مصريين نوبيين، وسط صدمة كبيرة من ذوي المحكوم عليهم والجالية النوبية بصفة عامة، والتي تتميز علاقتها بالسلطات السعودية بتناغم واضح، كذلك الحال مع السفارة المصرية في المملكة.
الحكم جاء بعد عامَين و3 أشهر من احتجازهم بسبب تنظيمهم ندوة على الطريقة النوبية، في ذكرى حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019، حيث وجّه إليهم الأمن السعودي تهمًا اعتبرها البعض فضفاضة على شاكلة تنظيم تجمع من دون ترخيص ونشر أخبار كاذبة.
تفاصيل المحاكمة، التي وصفتها بعض المنظمات الحقوقية على رأسها العفو الدولية بـ”المسيَّسة”، أعادت ملف الجالية النوبية في السعودية إلى الأضواء مرة أخرى، فما هي قصة هذا الحكم؟ ولماذا يتعرّض النوبيون في المملكة لهذا الاضطهاد رغم علاقتهم الجيدة مع إمارات الدولة وحكّامها؟ ثم السؤال الأبرز: لماذا تخلّت السلطات المصرية عنهم رغم التعاون المسبق بينهما؟
القصة من البداية
القصة تعود إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حين أعلنت “الأسرة النوبية في الرياض”، وهي عبارة عن تجمع يضمّ أبناء النوبة في العاصمة السعودية، بالدعوة لحضور احتفالية ستنظّمها بمناسبة ذكرى انتصارات حرب أكتوبر، وكان الاحتفال مقررًا إقامته في حديقة “الاتحاد العام الرياضي للمصريين بالخارج”.
البرنامج المعلن كان عبارة عن ندوة مقسّمة إلى جزئين، الأول يناقش دور أبناء النوبة في حرب أكتوبر والإسهامات التي قاموا بها، والثاني عن العلم المصري، لكن فوجئ الجميع أنه وقبل الندوة بـ 3 أيام تمَّ تغيير مقرّ انعقاد الاحتفال، ليكون “جمعية دهميت النوبية بالرياض” بدلًا من الاتحاد العام، ولم يعرف أحد سبب هذا التغيير عكس المتعارف عليه كل عام.
ونظرًا إلى أن الندوة من المفترض أن تناقش دور الجنود النوبيين في الحرب، جرى تعليق ملصق كبير يجمع أبرز الأسماء التي شاركت في المعركة الفاصلة، وكان أبرزهم المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع الأسبق، بالإضافة إلى الصول أحمد إدريس، الذي ينسب إليه فكرة اعتماد الجيش المصري في التواصل بين وحداته على اللغة النوبية، كشفرة لا يعرفها الجيش الإسرائيلي وقتها.
وقبل ساعات من إقامة الندوة، فوجئ الجميع بسيارات الشرطة السعودية تطوّق مقرّ الجمعية وتعتقل عددًا من القيادات النوبية، أبرزهم رئيس الأسرة النوبية في الرياض، عادل سيد فقير، ورئيس الأسرة الأسبق، فرج الله يوسف، ومسؤول صفحة الأسرة النوبية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، محمد فتح الله شاطر، ورئيس جمعية قرية دهميت المستضيفة للندوة، سيد هاشم شاطر.
التحقيقات التي جرت مع المعتقلين تناولت بعض الأسئلة الغريبة، منها: لماذا لم يتم وضع صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن الملصق المعلق؟ علمًا أن السيسي لم يكن ضمن المشاركين في حرب أكتوبر حتى توضع صورته، هذا بخلاف أسئلة أخرى حول رغبة النوبيين في الاستقلال عن مصر، حسبما نقل موقع “مدى مصر” عن مصادر مقرّبة من الأسرة النوبية.
وبعد أسابيع من الاحتجاز وإجراء التحقيقات معهم، أفرجت السلطات السعودية عن 3 من المحبوسين، وقررت منع 10 آخرين من السفر، فيما تبقى آخرون قيد الحبس، غير أن الشرطة أعادت القبض على المفرج عنهم بعد ذلك في يوليو/ تموز 2020، أي بعد 7 أشهر فقط من إخلاء سبيلهم، وظلوا داخل محبسهم حتى صدور حكم الحبس في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بمدد تتراوح بين 10 و18 عامًا وسط صدمة كبيرة للأسرة بأكملها.
السؤال هنا: هل هذه هي المرة الأولى التي تنظّم فيها الجالية النوبية مثل تلك الاحتفالات؟ والإجابة بالطبع لا، حيث اعتادوا تنظيم مثل تلك الاحتفالات تحت مرأى ومسمع من السلطات السعودية والسفارة المصرية، بل إن بعض الدعوات كانت تصل إلى مسؤولين كبار في المملكة لحضور مثل تلك الاحتفالات التي يغلب عليها الطابع الوطني الإنساني الاجتماعي أكثر منه الطابع السياسي.
الجالية الأكثر تنظيمًا في المملكة
يطالب النوبيون على مدار سنوات أزمتهم مع السلطات المصرية والممتدة لأكثر من 60 عامًا، إثر ترحيلهم عن قراهم بسبب بناء خزان أسوان (البداية كانت عام 1902 ثم تعلية السد فترة 1912-1933 وصولًا إلى إقامة السد العالي عام 1964)، بالعودة إلى منازلهم مرة أخرى، والكفّ عن التعامل معهم كـ”ورقة أمنية”، وهو ما أوقعهم أكثر من مرة في صدام مع الأمن المصري.
وفي ظل موجات المد والجزر التي شهدتها تلك العلاقة المتوترة، خاصة مع دخول السودان على خط الأزمة، أُضفيَ على القضية بُعد أمني جديد للجانب المصري، ما دفع الكثير من أبناء النوبة إلى مغادرة البلاد حيث توجّه السواد الأعظم منهم إلى السعودية التي تحوّلت إلى قبلة النوبيين طيلة العقود الخمس الأخيرة.
وبحسب مصطفى (60 عامًا)، وهو أحد رموز الأسرة النوبية طيلة السنوات العشر الماضية، فإن النوبيين في الرياض تحديدًا يعدّون الأكثر بين الجالية المصرية، وأنهم ينحدرون من أكثر من 60 أسرة نوبية، وما يميزهم تماسكهم كوحدة واحدة عكس باقي المصريين.
من السمات التي تميز النوبيين في المملكة كثرة الجمعيات والروابط المدشّنة لهم، وهو التقليد المتعارف عليه حتى في مصر، فهناك تقريبًا جمعية لكل قرية نوبية في القاهرة.
ويضيف القيادي النوبي في حديثه لـ”نون بوست” أن الجالية تتخذ من الترابط الاجتماعي والأسري وتفعيل الحضور الثقافي المصري في السعودية هدفًا رئيسيًّا لها، بجانب تعزيز أواصر الصداقة مع الشعب السعودي الذي يكنّ لهم كل احترام على حد قوله.
واستبعد مصطفى أي نشاط سياسي للجالية، قديمًا وحديثًا، حتى إبّان ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، وبينما كان الجميع ينخرط في العمل السياسي، التزمت الجالية الصمت واكتفت بنشاطها المعتاد في التقريب بين المصريين وخدمة أبناء الجالية ودعم الدولة المصرية بكل ما لديها من إمكانات.
ومن السمات التي تميز النوبيين في المملكة كثرة الجمعيات والروابط المدشّنة لهم، وهو التقليد المتعارف عليه حتى في مصر، فهناك تقريبًا جمعية لكل قرية نوبية في القاهرة، فحين يجتمع أفراد قبيلة أو عائلة نوبية ما في أي مكان يقومون بتدشين رابطة خاصة بهم، ولذا فهم الأكثر انتشارًا من حيث التنظيم في مصر وخارجها.
وكانت باكورة الحضور التنظيمي للنوبيين في السعودية بداية الألفية الحالية، حيث تدشين “الأسرة النوبية في الرياض”، وهو الكيان الذي رغم تأسيسه بداية التسعينيات لكنه لم يعترَف به من القنصلية المصرية إلا عام 2004، حتى تحوّل إلى كيان منظَّم شرعي له هيكل رسمي وتجرى له انتخابات دورية.
وكانوا على تواصل كبير مع السلطات المصرية، سواء الحكومة في القاهرة أو البعثة الدبلوماسية في الرياض، ما نسج رباطًا من العلاقات الجيدة بين الطرفَين، ساعد في تعزيز الجالية لحضورها مستندة في ذلك إلى تقنين أوضاعها ثم شبكة علاقتها القوية في الداخل والخارج، وهو ما أهّلها لأن تكون فيما بعد إحدى الأدوات التي لجأت إليها دولة الثالث من يوليو/ تموز 2013 فيما بعد.
المشاركة في الإطاحة بالإخوان
حسبما نقل موقع “مدى مصر” عن رئيس الأسرة النوبية السابق، فرج الله أحمد يوسف، والذي حُكم 16 عامًا في سلسلة الأحكام الأخيرة، كانت الجالية داعمًا للحكومة المصرية في الإطاحة بالإخوان من الحكم عام 2013، حين طلبت منه حكومة ما بعد الانقلاب -وكان يعمل وقتها مستشارًا لهيئة الآثار والسياحة السعودية- أن يدعم المرحلة الجديدة، وساعد في تمرير مخطط إزاحة الجماعة والرئيس محمد مرسي من الحكم.
ووفق الشهادات، اتصل به ضابط الاتصال في السفارة المصرية صيف 2013 وطلب منه السفر إلى مصر ضرورةً لحضور اجتماع عاجل مع بعض القيادات، وقد حجزت له السفارة تذكرة الطيران وحضر بالفعل الاجتماع الذي استضافته وزارة الخارجية بمشاركة بعض ضباط المخابرات، وعاد للرياض في اليوم نفسه، بعدما تلقى تعليمات وطلب دعم الجالية النوبية والمصرية هناك لقرار عزل الإخوان وتولي حكومة جديدة.
بحسب الشهود، لم ترسل السفارة المصرية بالرياض محاميًا للدفاع عن المتهمين، مكتفية بإيفاد موظف يعمل في الشؤون القانونية لديها لكنه غير مسجّل كمحامٍ في السعودية، لذلك اقتصر حضوره كملاحظ.
وكان يوسف قد تمَّ تعيينه عام 2012 نائبًا لرئيس “صندوق الجالية المصرية في السعودية”، وذلك في إطار صفقة تمّت بينه وبين الإخوان وقتها، مقابل تصويت النوبيين لأعضاء الجماعة في الصندوق، لكن بعد الانقلاب تقدّم باستقالته من الصندوق الذي فقد شرعيته منذ ذلك الوقت، بعدما أوقفت القنصلية التعامل معه بشكل رسمي.
وهنا يتعجّب أبناء الجالية من قرار الاعتقال والقبض على رموز الجالية، في ظل العلاقات الجيدة التي كانت تربطهم بالسفارة المصرية وخارجية دولتهم من جانب والمسؤولين في المملكة من جانب آخر، إذ كانت كافة الاتصالات واللقاءات والمشاورات تتمّ تحت علم الجانب السعودي، لكن السؤال الأبرز هنا: كيف كان موقف الحكومة المصرية من قرار الحكم على أعضاء الجالية النوبيين؟ وهل يتناسب مع حجم التنسيق بينهما والخدمات التي قدمتها الأسرة النوبية للدولة المصرية؟
تساؤلات عن موقف السفارة المصرية
جاء موقف السفارة والقنصلية المصرية صادمًا للجميع، للنوبيين وبقية أبناء الجالية المصرية، وهو ليس الموقف الأول الذي تتخاذل فيه السفارة عن المصريين في الغربة، لا سيما في دول الخليج، حيث يقع الكثير من المواطنين هناك بين فكَّي كمّاشة سلطوية الكفيل وتجاهل الحكومة المصرية، ما أدّى في غالبية الأحيان إلى تنازل المصريين عن حقوقهم المشروعة وغضّ الطرف عمّا يتعرضون له من انتهاكات، حماية لسلامتهم في المقام الأول ولقمة العيش ثانيًا.
وبحسب الشهود، لم ترسل السفارة المصرية بالرياض محاميًا للدفاع عن المتهمين، مكتفية بإيفاد موظف يعمل في الشؤون القانونية لديها لكنه غير مسجّل كمحامٍ في السعودية، لذلك اقتصر حضوره كملاحظ، في الوقت الذي رفض فيه المحامون السعوديون الدفاع في تلك القضية نظرًا إلى ما يحاط بها من أبعاد سياسية ما قد يوقعهم في مأزق مع السلطات السعودية هناك، وعليه جاءت المحاكمات من دون محامٍ، ما دفع منظمة العفو الدولية للتشكيك في نزاهة التقاضي، إذ تفتقد العملية برمّتها للعدالة التي من أبجدياتها حضور محامٍ عن المتهم والاستماع إلى دفاعه الشخصي، وهذا لم يحدث وفق المنظمة.
كما طالبت مؤسسة كوميتي فور جَستس بالإفراج عن المحكوم عليهم أو إعادة محاكمتهم “في محاكمة تنطبق عليها معايير المحاكمة العادلة المعترف بها دوليًّا، فضلًا عن مطالبة السلطات السعودية باحترام حرية الرأي والتعبير المكفولة وفقًا لأحكام العهد الدولي والمواثيق الدولية الموقعة عليها المملكة”، فيما أعادت منظمة هيومَن رايتس ووتش نشر تقرير عن المحتجزين العشرة كانت نشرته في مارس/آذار الماضي، واصفة المحكمة التي أصدرت الحكم بحقهم بـ”المتعسفة”.
وتشير التجارب السابقة أن السفارة المصرية بالمملكة لا تقدم عونًا للمصريين أمام القضاء السعودي، وهو ما يمكن الوقوف عليه في عشرات الحالات أبرزها أحمد الجيزاوي والمهندس علي أبو القاسم، الذي لم يفرَج عنه إلا بعفو ملكي بعد سنين قضاها في السجن وحكم بالإعدام.
كواليس القضية مثيرة للشكوك لدى البعض، إذ إنه ليس من المنطقي أن عدم تعليق صورة السيسي أو تنظيم ندوة عن حرب أكتوبر -رغم أنها ليست المرة الأولى- جريمة يكون عقابها السجن ما بين 10 و18 عامًا بحقّ 10 مصريين، والأغرب التزام القاهرة الصمت إزاء تلك الأحكام، ما يثير القلق لدى الجالية النوبية التي ربما تكتشف في النهاية أن سنوات التنسيق مع السلطات المصرية لم تشفع لها في الدعم وضمان محاكمة عادلة على الأقل، فهل تتدخل الدولة المصرية في مرحلة الاستئناف على الحكم قبل فوات الأوان، خاصة بعد كشف طبيعة التعاون الأمني والسياسي بين الجالية والحكومة قبل 10 سنوات؟