التقارب الروسي التركي.. كيف يؤثّر على سياسات أنقرة في سوريا؟
مثّلت لحظة سقوط حلب بيد نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس أواخر عام 2016، بتغاضٍ دولي وإقليمي، نقطة تحول في مسار القضية السورية عسكريًّا وسياسيًّا، وانتكاسة كبرى لقوى الثورة والمعارضة لما تمثله المدينة من كونها مركزًا هامًّا واستراتيجيًّا، أخلّت خسارتها لصالح النظام بميزان القوى الميدانية والسياسية ضمن المشهد السوري.
فضلًا عمّا تبع ذلك من انتقال مسار الحل السياسي إلى مرحلة جديدة، تمثّلت بإطلاق روسيا وإيران وتركيا مسار أستانا كخطٍّ موازٍ لمسار جنيف، والذي عُدّ تطبيقًا عمليًّا للرؤية الروسية للحل السياسي في سوريا، وما تلاه من سلسلة تداعيات ونتائج عسكرية وسياسية شكّلت المشهد السوري العام.
وبقيت المحددات الرئيسية التي صاغت الموقف التركي خلال السنوات الأولى من عمر الثورة السورية، هي صاحبة التأثير الرئيسي على مجمل التغييرات التي أصابت موقف تركيا تجاه الملف السوري، فتغيُّرات المشهد السوري الداخلي سياسيًّا وعسكريًّا والمتعلقة أساسًا بتطورات جبهة حلب وثقل الوزن الروسي المتصاعد في سوريا؛ إلى جانب التغيُّرات في المشهد التركي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة؛ وتقلبات الموقف الدولي تجاه الملف السوري من ناحية التركيز على “محاربة الإرهاب” والتقارب التركي الروسي؛ كل تلك المتغيرات أفضت مجتمعة إلى تموضع تركي جديد ضمن المعادلة السورية، بعد انخراط عسكري مباشر في سوريا عبر عملية “درع الفرات” ومن ثم “غصن الزيتون” بتنسيق مع روسيا، وما شهدناه من انخراط تركي فاعل في الملف السوري عبر مسار أستانا.
إعادة تموضع
تراجع دور تركيا في سوريا بشكل واضح وضاق هامش مناورتها، وفقدت الأمل في إمكانية إحداث خرق جوهري في الملف السوري من ناحية إسقاط النظام وترجيح كفة حلفائها في المعارضة السورية، أو التأثير بشكل كبير على مجريات وتفاصيل المشهد السوري لعدة عوامل وأسباب، لعلّ أهمها: التغيير الجذري الذي أحدثه التدخل الروسي في مسار الصراع في سوريا سياسيًّا وعسكريًّا، والاستفراد الروسي بعموم المشهد السوري بعد التفاهم الأميركي الروسي، والموافقة الضمنية الدولية على الإطار العام للحل السياسي في سوريا وفق الرؤية الروسية، مع حصر المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، حدود تأثيره في مجريات الأحداث في سوريا ضمن سياسة “محاربة الإرهاب”، والتسليم الكامل للدور الروسي في سوريا، إلى جانب التعاون الأمريكي الروسي والتنافس بينهما أيضًا على دعم حزب الاتحاد الديمقراطي ومشروعه السياسي في سوريا.
فضلًا عن تزاحم الملفات الداخلية التركية المتعلقة بمواجهة حزب العمال الكردستاني (PKK)، والتجاذبات السياسية حول صياغة دستور جديد والانتقال للنظام الرئاسي، ما أضعف تلقائيًّا الموقف التركي وحدَّ من خيارات تركيا الاستراتيجية في سوريا، لتتصدّر مسألة أمن الحدود مع سوريا وإفشال المشروع السياسي في إقامة كيان سياسي كردي انفصالي سُلَّم الأولويات التركية وأمنها القومي.
أي قرار أو تحرك سياسي وعسكري تركي متعلق بالملف السوري سينطلق فعليًّا من ضرورات متعلقة بأمن تركيا القومي.
في السياق ذاته، شهدت الساحة الداخلية التركية تغييرات كبيرة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، حيث نجحت القيادة السياسية التركية في كسب ثقة جماهيرية وسياسية أوسع والتفّت مختلف التيارات المجتمعية والأحزاب السياسية حولها، ما أعطاها قدرة أكبر على ضبط الجيش وإعادة هيكلته.
وبذلك تشكّلت جبهة داخلية متماسكة نوعًا ما، لا سيما في الفترة الأولى التي أعقبت الانقلاب الفاشل، الأمر الذي أعطى صانع القرار التركي قاعدة ومنطلقًا لبلورة سياسة خارجية أكثر انخراطًا ومبادرة تجاه المنطقة، وسرّع من عملية مراجعة تركيا لسياستها الخارجية والعودة بها إلى دائرة التواصل مع مختلف الأطراف، وتخفيف حدّة الاستعداء مع الأطراف المختلفة في المنطقة.
حيث بدأت تلك المراجعة مع تولي بن علي يلدرم رئاسة الوزراء عام 2016، والذي اعتمد مجددًا سياسة “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم”، وما نتج عن ذلك من تطبيع للعلاقات تدريجيًّا مع قوى دولية وإقليمية مختلفة كـ”إسرائيل” والإمارات وروسيا، حيث زار الرئيس التركي أردوغان روسيا عقب فشل الانقلاب مباشرة، وإعلان بن علي يلدرم عن بدء اتفاق تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
وأعطت المحاولة الانقلابية الفاشلة دفعة لتركيا لتسريع مسار التقارب النسبي مع روسيا، في ظل توتر علاقاتها مع المحور الغربي الأمريكي بسبب الموقف من الملف السوري والدعم الغربي والأمريكي لمشروع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ومن ثم الموقف الغربي الأمريكي من الانقلاب الفاشل، حيث شكّكت تركيا في موقف الولايات المتحدة تجاه مخاوف الأمن القومي التركي، وحمّلتها مسؤولية دعم الانقلابيين وإيواء فتح الله غولن، المتهم الأول بترتيب المحاولة الانقلابية، ما انعكس بطبيعة الحال على دور تركيا وتموضعها ضمن المشهد السوري.
كما بدت واضحة زيادة حساسية تركيا تجاه أمنها القومي، وأبدت توجُّسًا أكبر حيال مشروع “قسد” السياسي، حيث أصبح منع تشكُّل كيان سياسي كردي بقيادة “قسد” الهدف الناظم لمختلف السياسات والقرارات التركية المتعلقة بسوريا وأمنها القومي، لا سيما بعد تفجير أنقرة في مارس/ آذار 2016 الذي أودى بحياة 29 شخصًا واتهام تركيا حزب العمال الكردستاني بالوقوف خلف التفجير.
التقارب مع روسيا وتأثيره على معركتَي حلب ودرع الفرات
في ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن أي قرارٍ أو تحرك سياسي وعسكري تركي متعلق بالملف السوري سينطلق فعليًّا من ضرورات متعلقة بأمن تركيا القومي، ومن حسابات سياسية ترتبط حقيقة بضرورات إدارة الأزمة السورية وتبعاتها على السياسة الخارجية والداخلية التركية، قبل أي حسابات “ثانوية” أخرى متعلقة بالقضية السورية من حيث دعم قوى الثورة والمعارضة السورية لتحقيق مصالحها في إسقاط النظام، أو تحصيل مكتسبات سياسية خاصة بعيدًا عن حسابات وتجاذبات الفواعل الدولية المنخرطة في الملف السوري.
ومن الواضح أن تركيا استثمرت جيدًا في المتغيرات الداخلية والخارجية بعد محاولة الانقلاب، وتقاربها المتصاعد مع روسيا في تشكيل استراتيجية جديدة تخدم مصالحها وأهدافها الاستراتيجية في سوريا، وإفشال أية جهود لاستبعادها مستقبلًا من ترتيبات الحل السياسي، حيث دخلت مع روسيا في محادثات أستانا كدولة ضامنة لقوى الثورة والمعارضة، وأطلقت عملية “درع الفرات” ضد تنظيم “داعش” بتنسيق مع روسيا.
كما لعبت دورًا مهمًّا وحساسًا في رسم مستقبل حلب بعد توقيعها تفاهمًا مع روسيا لإجلاء المدنيين والعسكريين من مناطق شرق حلب، وعقدت قمة ثلاثية بعدها بمشاركة إيرانية أعقبها “إعلان موسكو” الذي توَّجَ خط التقارب التركي الروسي، حيث ظهر الميل التركي أكثر نحو الرؤية الروسية للحلّ في سوريا مقابل توتر وبرود في العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب.
واستطاعت تركيا توظيف هذا التقارب مع روسيا في إطلاق عملية “درع الفرات”، بهدف تأمين المدن التركية الحدودية من نيران تنظيم “داعش”، ومنع “قسد”، الذي يشكّل تنظيم YPD عمودها الفقري، من السيطرة على تلك المساحة وضمّها إلى مناطق نفوذها في منبج ووصل مناطق سيطرتها في عفرين وكوباني، وبالتالي وأد فكرة إقامة كيان سياسي كردي على الحدود التركية.
ويبدو أن الموافقة الضمنية الروسية حينها على عملية عسكرية تركية محدودة الأهداف والسقف السياسي والعسكري، وأخذ روسيا مخاوف تركيا الأمنية بعين الاعتبار، يعكسان ربما الرغبة الروسية في تطوير مسار العلاقات مع تركيا على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية، في ضوء توتر العلاقات التركية الغربية.
فضلًا عن محاولة روسيا جذب تركيا للقبول بمقاربتها ورؤيتها في المشهد السوري، وتحصيل بعض المكاسب والتنازلات فيما يتعلق بموقفها من شكل الحل السياسي في سوريا أو حتى تنازلات على الصعيد الميداني، حيث كرّرت تركيا تأكيدها، تماشيًا مع المرونة الروسية فيما يتعلق بعمليتها العسكرية، على موافقتها العلنية على بقاء بشار الأسد في الفترة الانتقالية، وتخلّت تمامًا عن خطاب إسقاط النظام، في تناغم مع الموقف الدولي الذي استقرَّ على إبقاء النظام والتركيز على “محاربة الإرهاب”.
أعادت تركيا بناء مقاربتها تجاه سياستها الخارجية في سوريا نتيجة جملة من المتغيرات الداخلية والخارجية، لعلّ أبرزها التقارب مع روسيا وتوتر علاقاتها مع الغرب.
ويظهر حجم حضور العامل الروسي وتأثيره على حسابات تركيا تجاه عمليتها العسكرية وانخراطها العسكري في سوريا، في حرص تركيا على تطمين روسيا حول هدفها من التدخل عسكريًّا، وحصره ضمن إطار محاربة الإرهاب لا بهدف دعم إسقاط النظام أو شمول عمليتها العسكرية لمدينة حلب، والذي جاء على لسان عدد من المسؤولين الأتراك.
حيث أكّد الرئيس التركي أردوغان، في كلمة أمام مسؤولي المناطق التركية، على أن “عملية “درع الفرات” لا تستهدف أي دولة أو شخص وإنما تستهدف التنظيمات الإرهابية”، وأتبعه تصريح لرئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم أشار فيه إلى أن “عملية “درع الفرات” لا تهدف إلى تغيير النظام في دمشق، وغير مرتبطة بتطورات الوضع في حلب، وهدفها فقط هو القضاء على التنظيمات الإرهابية في المنطقة”.
علاوة على ذلك، وقفت الحاجة التركية للدور الروسي في سوريا، وتحديدًا لإتمام عملية “درع الفرات”، وحرص تركيا على تعزيز خط التقارب مع موسكو، عائقًا أمام أخذ تركيا دورًا مهمًّا في معركة حلب، حيث تجنّب الخطاب الرسمي التركي تحميل روسيا مسؤولية ما يجري في حلب في ظل حملة نظام الأسد بدعم روسي جوّي لاستعادة السيطرة على المدينة، وتراجعت عمليًّا عن دعم الفصائل العسكرية المحاصرة شرقي حلب، واقتصر الدعم التركي على الجانب الإغاثي والإنساني من خلال السعي لوقف إطلاق النار وتأمين خروج المدنيين والمقاتلين المحاصرين في حلب، وتجنّبت تقديم دعم عسكري أو سياسي نوعي لقوى المعارضة السورية المحاصرة في حلب، التي اضطرت للخروج منها وفق الشروط الروسية والإيرانية.
في المحصلة، أعادت تركيا بناء مقاربتها تجاه سياستها الخارجية في سوريا نتيجة جملة من المتغيرات الداخلية والخارجية، لعلّ أبرزها التقارب مع روسيا وتوتر علاقاتها مع الغرب، والذي انعكس تلقائيًّا على دور تركيا وتفاعلاتها في سوريا، من حيث إنها فقدت هامشًا جيدًا في المناورة السياسية والميدانية، ما حدَّ من خياراتها بعد تراجع قدرتها على تغيير موازين القوى ضمن المعادلة السورية.
أدّى هذا إلى تراجُع السقف التركي من المطالبة بإسقاط النظام إلى التركيز على أولويات تركيا العسكرية والأمنية والسياسية في سوريا، حيث تجلى ذلك بشكل واضحٍ في التنسيق مع روسيا لإتمام عملية “درع الفرات” التي أولتها تركيا أهمية قصوى، والإحجام عن دعم المعارضة عسكريًّا وسياسيًّا في حلب، والانخراط أكثر ضمن مسارات الحل السياسي وفق الرؤية الروسية عبر مسارَي أستانا وسوتشي.