البلد المستباح.. كيف تُنهب أموال العراق؟
بحسب تصريح الرئيس العراقي، برهم صالح، تحصّل العراق على واردات وصلت إلى تريليون دولار من بيع النفط منذ عام 2003 وحتى عام 2021، ورغم الإمكانات الهائلة التي يملكها العراق، لكنه لا يزال يرزح تحت نسبة مخيفة من الفقر والبطالة وانعدام الخدمات وسوء الحالة المعيشية، والسبب ببساطة: منظومة الفساد التي تستغلّ موارد العراق.
منذ العام 2003 تصاعدت عمليات الفساد لتصل إلى مراحل غير مسبوقة، فقبل أيام فقط شهد مصرف الرافدين سرقة 2.5 مليار دولار من أموال الضرائب، ورغم أن فضيحة كهذه يمكن أن تهزّ أي حكومة في العالم، مرَّ الأمر بوعود إجراء تحقيقات قد لا تختلف عن سابقتها من حيث انتهائها دون أن تفضي إلى شيء.
في ملف “فرهود”، وهو تعبير عراقي محلي يشير إلى عمليات النهب واسعة النطاق، نفتح ملف الفساد في العراق، ونستعرض ارتكاب الأحزاب الحاكمة عمليات نهب ممنهجة طيلة 19 عامًا من ميزانية العراق بطرق مختلفة، ليس أولها المشاريع الوهمية والموظفين الفضائيين، وليس آخرها الرشاوى والعمولات، مرورًا بتحميل العقود الحقيقة أثرًا من قيمتها وسرقة الفائض منها لجيوبهم الخاصة.
لا شك أن الفساد موجود في معظم دول العالم، لكن المشكلة أن الفساد في العراق مستشرٍ بعمق في الدولة، حتى السلطات التشريعية التي تراقب عمل الحكومة، والهيئات المختصة بمراقبة الفساد ومحاسبته، هي جزء أساسي من عملية امتصاص واردات العراق، مع كل موازنة أو عقد أو مشروع تنجزه إحدى الوزارات ودوائر الدولة.
أصل القصة: القادمون بالجيوب الفارغة
ترتبط تحديات الفساد في العراق ارتباطًا وثيقًا بالتقلبات السياسية التي أعقبت الغزو الأمريكي، وسقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين عام 2003، والتسوية السياسية غير المستقرة التي تلت ذلك.
فبينما كان صدام حسين لا يزال في السلطة، صاغت شخصيات معارضة عراقية منفية نظام حكم لعراق ما بعد البعث، والذي سيمثل المجموعات العرقية المختلفة في البلاد ضمن هيكل نسبي لتقاسم السلطة.
تبنّت الولايات المتحدة هذه الفكرة لإعادة إعمار العراق بعد سقوط صدام حسين، ومع ذلك بدلًا من أن يؤدي الأمر إلى نظام حكم شامل، عزز اتفاق تقاسم السلطة حكم النخبة، وافتقر إلى المساءلة والشفافية، وانتهى به الأمر كعقبة أمام عملية التحول الديمقراطي بدل أن يكون ضمانًا للديمقراطية والمساءلة.
ساعدت على تفاقم الوضع الاضطرابات العسكرية التي شهدتها البلاد نتيجة التهميش والإقصاء الناتج عن هذا النظام، ولمعالجة الموقف وضعت واشنطن ثقلها خلف الحل العسكري بمساعدة الميليشيات التي تتبع لهذه النخب الحاكمة، غاضّة الطرف في الوقت نفسه عن فساد تلك النخب وبنائها للحكومة بطريقة تجعل الفساد جزءًا من المنظومة السياسية والاجتماعية نفسها.
لكن حتى قبل ذلك، ساهمت أمريكا أيضًا في إطلاق سلسلة كبيرة من عمليات الفساد كبيرة الموثقة زمن الاحتلال، والأمثلة على ذلك كثيرة:
– أنشأ قرار مجلس الأمن رقم 1483 صندوق تنمية للعراق بقيمة 20 مليار دولار باستخدام الأصول العراقية التي تمَّ الاستيلاء عليها سابقًا، والأموال المتبقية في برنامج الأمم المتحدة (النفط مقابل الغذاء) وعائدات النفط العراقي الجديدة، ووجدت مراجعة أجرتها شركة KPMG ومفتش عام خاص أن نسبة كبيرة من تلك الأموال قد سُرقت أو اختلسها مسؤولون أمريكيون وعراقيون.
– بول بريمر، رئيس سلطة الاحتلال، احتفظ بنفسه بصندوق قيمته 600 مليون دولار دون أي أوراق تخصّ الصندوق أو مصاريفه، كما ضاعف ضابط بالجيش الأمريكي سعر عقد إعادة بناء مستشفى، وأخبر مدير المستشفى أن الأموال الإضافية هي “حزمة التقاعد”.
– دُفع لمقاول أمريكي 60 مليون دولار على عقد قيمته 20 مليون دولار لإعادة بناء مصنع للأسمنت، وقال للمسؤولين العراقيين إنهم يجب أن يكونوا ممتنين لأن الولايات المتحدة أنقذتهم من صدّام حسين.
– فرض أحد مقاولي خطوط الأنابيب في الولايات المتحدة مبلغ 3.4 ملايين دولار مقابل أجور عمّال غير موجودين و”رسوم أخرى غير مناسبة”.
بالمحصلة، من بين 198 عقدًا راجعها المفتش العام -فيما يخص ملف إعادة الإعمار-، لم يكن هناك سوى 44 عقدًا بوثائق لتأكيد إنجاز العمل.
لم يكن الفساد بالطبع لينتهي مع تسليم السيادة للعراقيين، حيث بدأت النخبة الحاكمة موجة فساد جشعة لم تتوقف حتى يومنا هذا، والدولة العراقية نفسها أُنشئت على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، وتمَّ تقسيم الوزارات والمناصب السيادية بطريقة شبه ثابتة، كانت الأحزاب هي التي ترشِّح الوزراء وأصحاب المناصب بصورة دائمة، شمل بعدها نظام المحاصصة كل شيء تقريبًا: الجيش، الشرطة، القضاء، وحتى عدد الموظفين والتعيينات.
استعادت هيئة الاستثمار أكثر من 400 ألف دونم من أراضي الدولة كانت محجوزة تحت مظلة المشاريع الاستثمارية الوهمية وغير المنجزة التي تقدَّر بقيمة 90 تريليون دينار.
من الناحية الأيديولوجية، كان هذا التنافس للسيطرة على الدولة من قبل مجموعة من السياسيين المنفيين سابقًا، والمدعومين بقوة السلاح الأمريكية، مبررًا من خلال الادّعاء بأنهم يمثلون مختلف الجماعات العرقية والدينية التي يتكوّن منها المجتمع العراقي، ما وفّر لهم حماية ضمنية باعتبار أن مهاجمتهم تعني تهميش طائفة أو مكون في البلاد.
كانت هذه الطبقة السياسية المسؤول المباشر عن عملية سحب الأموال لصالح الأحزاب من خلال طرق عديدة، وكل حسب مجال عمله: العقود والمشاريع الوهمية، العقود الفرعية، الموظفون الفضائيون، مشاريع بنسب إنجاز متدنّية أو غير مكتملة، تهريب الأموال أو غسيلها، تلاعُب في قيم العقود.. إلخ.
لا يوجد تقديرات دقيقة لحجم الأموال المهدورة، لكن دراسة حديثة لمعهد تشاتام هاوس البريطاني تشير إلى فقدان العراق 551 مليار دولار فترة 2006-2014 فقط.
لتصوُّر حجم الفساد الحاصل في الدولة العراقية، يكفي معرفة أن العراق يحتل المركز 157 على مؤشر الفساد في منظمة الشفافية العالمية، وأن هيئة النزاهة أعلنت عن تورُّط 11 ألفًا و605 مسؤولين بالفساد، بينهم 54 وزيرًا وُجّهت إليهم 15 ألفًا و290 تهمة خلال العام 2021 وحده؛ وبمناسبة الحديث عن هيئة الفساد، فهي هيئة مستقلة لا تخضع لرقابة الحكومة، لكنها مشكّلة بالكامل من أعضاء ترشِّحهم أو توافق عليهم الأحزاب السياسية المتهمة أساسًا بالفساد.
تقول رئيسة هيئة الاستثمار، سهى النجار، في تصريح إن الهيئة استعادت أكثر من 400 ألف دونم من أراضي الدولة كانت محجوزة تحت مظلة المشاريع الاستثمارية الوهمية وغير المنجزة التي تقدَّر بقيمة 90 تريليون دينار (ما يعادل 62 مليار دولار)، بينما أقرّت وزارة التخطيط بوجود 6 آلاف مشروع أخذت أموالًا من الدولة دون تنفيذها.
إدارة فاسدة.. وحدود منهوبة
تمثل المنافذ الحدودية إحدى أغرب قصص السرقة في عراق ما بعد 2003، حيث يملك العراق 11 منفذًا حدوديًّا يتعامل بها تجاريًّا مع 130 دولة حول العالم، حيث تتراوح واردات العراق من المنافذ بين 5 و10 مليارات دولار.
يقول عضو اللجنة المالية في مجلس النواب، هيثم الجبوري، إن حوالي 10 من هذه المنافذ تقع خارج سلطة الدولة العراقية، تديرها مكاتب اقتصادية تتبع لعشائر وميليشيات خاضعة للأحزاب المشكِّلة للحكومة، بالتالي يستحيل محاسبتها تقريبًا، فهي محمية بالسلاح -الذي أصبح رسميًّا رغم أنه خارج سلطة الدولة-، وهي محمية أيضًا بسلطة الأحزاب التي تديرها، كما تقول عدة مصادر إن سيطرة هذه الميليشيات على المنافذ الحدودية تكلف العراق سنويًّا 3-4 مليارات دولار.
لا يقتصر الفساد على الفساد المباشر في هدر الأموال وسرقتها، وإنما يمتدّ إلى طريقة إدارة المصروف الحقيقي من واردات البلاد، التي لا تزال تعتمد الاقتصاد الريعي من بيع النفط والإنفاق على الاحتياجات.
يعتمد العراق بشكل شبه كلّي على النفط الذي يشكّل 90% من الموازنة العامة، تستخدم الحكومة هذه الأموال لتوظيف المواطنين في القطاع العام الذي توسّع منذ عام 2003 ليصل إلى حوالي 6.5 ملايين موظف، يكلِّفون الدولة حوالي 75% من الموازنة العامة تُدفع كرواتب، أي أن عدد الموظفين في القطاع العام تزايد 3 أضعاف ليزداد معه الإنفاق الحكومي على المعيّنين الجدد بنسبة 400% عمّا كان عليه الوضع قبل 15 عامًا.
تسبّبت هذه السياسة الاقتصادية بخلق مشكلة مزدوجة للعراق، وجود الحكومات الضعيفة والشمولية يعني أن كل حزب سياسي كبير يمكنه إدارة وزارة واحدة أو أكثر، تستخدم هذه الوزارات كوكالات توظيف للموالين لها، وهكذا وجدت النسبة الكبيرة من السكان نفسها تعتمد على الحكومة لكسب العيش، إما بشكل مباشر من خلال الرواتب والمعاشات التقاعدية، وإما بشكل غير مباشر من خلال العقود أو توفير السلع والخدمات لمن هم في كشوف المرتبات الحكومية.
حتى الشركات الصغيرة في العراق تعتمد في النهاية على الحكومة، لأن الكثير من عملائها -خاصة في المدن الكبرى- هم أنفسهم يتلقون رواتبهم من الحكومة بطريقة أو بأخرى، وهو ما نتج عنه أمران:
– أصبح على كل حكومة جديدة تعيين أعداد جديدة في هيكلها البيروقراطي، لأن البديل عن ذلك غضب شعبي عارم ينهي سيطرة الأحزاب التي تعيش على موازنة الدولة.
– كنتيجة للسبب الأول، كان هناك حاجة ماسّة لزيادة الموازنة العامة أو تعديلها سنويًّا لملاءمة هذه المشكلة، ما جعل الاقتراض بندًا ثابتًا منذ العام 2010، وصلت معه قيمة الديون إلى 114 مليار دولار.
بلد وشعب مكشوفان: الدفاع بالفضائيين
أدّى الفساد المستشري في العراق إلى نتائج سلبية وخيمة على كل الأصعدة، فساد قطاع الصحة ساهم في كوارث على المجتمع، بل أدّى بحسب إحدى الدراسات إلى تقليل معدّل أعمار المواطنين المتوقعة لتكون الأدنى في العالم، وقطاع التعليم بدوره وضع نسبة كبيرة من الشعب ضمن نطاق الأمّية، وهكذا لعب الفساد دورًا مدمِّرًا في كل القطاعات.
تعتبر ظاهرة الفضائيين أحد أبرز أشكال الحياة السياسية في عراق ما بعد الغزو عام 2003، ويقول وزير المالية السابق، علي علاوي، إن حوالي 250-300 ألف موظف ضمن هيكل الدولة العراقية البيروقراطي الضخم هم من الفضائيين الذين تتسرّب رواتبهم إلى جيوب الفاسدين، كما يقول مسؤولون عراقيون إن 20% من رواتب الموظفين التي تبلغ حوالي 40-45 مليار دولار يخسرها العراق لصالح منظومة الفساد السياسي.
لكن الضربة الأقوى جاءت عام 2014، حين استفاق البلد على وقع احتلال ثاني أكبر محافظة له (نينوى) على يد “داعش”، بعدما استطاع بضعة مئات من المقاتلين هزيمة ما يقارب 60 ألف جندي مكلفين بحماية المدينة، منهم فرق مدرّعة بأسلحة أمريكية كلّفت الدولة مليارات الدولارات دون قتال تقريبًا.
ليتضح بعدها أن جزءًا من هؤلاء المقاتلين كانوا جنودًا وهميين، حيث قال رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، فيما بعد إن القوات الأمنية تضمّ 50 ألف فضائي، تدفع الدولة رواتبهم وتجهيزاتهم وأكلهم وشربهم وتدريبهم وتسليحهم دون أن يكون لهم وجود على أرض الواقع.
حتى تحين لحظة التغيير، سيظل العراق رهينة دوامة لا تنتهي من الفساد وهدر المال العام، دوامة يظل فيها المواطنون بين أمرَين: الثورة على النظام الفاسد ومواجهة رصاص يدفعون هم ثمنه
خلال فترة 2014-2018 حتى إعلان تحرير العراق بالكامل، الشعب تقريبًا هو الذي خاض معارك التحرير ضد “داعش”، وشهد ذلك العام انتخابات هزلية أفضت إلى وصول عادل عبد المهدي كمرشح توافقي للأحزاب، والذي توسّع الفساد في عهده ليكون العام 2019 عام الانفجار الذي أنتج مظاهرات تشرين.
لم تكن المظاهرات تهدف إلى إسقاط حزب أو وزارة بعينها، وإنما كانت مطالبات مدنية باستبدال كل نظام المحاصصة السياسي، بالطبع كانت هذه المظاهرات هي أخطر ما واجهت الأحزاب الحاكمة، كون النسبة المشاركة فيها من الشريحة التي ساندت تلك الأحزاب بداية تشكيل الحكومة العراقية بعد الاحتلال، ورغم ذلك لم تجد تلك الأحزاب بدًّا من قمع عنيف أسقط ما يقارب الـ 500 قتيل وآلاف الجرحى، كثير منهم أُصيب بعاهة دائمة.
الآن، انتقل الصراع إلى ما بين تلك الأحزاب نفسها، بدخول التيار الصدري -يملك عدة ميليشيات مسلحة- ساحة الصراع وفرض الهيمنة، ويشعر الكثير من العراقيين أن التغيير في العراق قد لا يكون إلا مسلحًا، بوجود أحزاب تحتكر السلاح، وقوات أمن متفرّجة تستنزف موازنة العراق دون جدوى حقيقية لوجودها.
وحتى تحين لحظة التغيير، سيظل العراق رهينة دوامة لا تنتهي من الفساد وهدر المال العام، دوامة يظل فيها المواطنون بين أمرَين: الثورة على النظام الفاسد ومواجهة رصاص يدفعون هم ثمنه.. أو حياة صعبة يدفعون هم ثمن الفقر فيها من صحّتهم.. وأحيانًا من عمرهم.