قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن إيران أرسلت مدربين من الحرس الثوري إلى شبه جزيرة القرم، لمساعدة القوات الروسية في التعامل مع الطائرات المسيرة التي استخدمتها مؤخرًا في هجماتها الجوية على العاصمة كييف وبعض مدن الجنوب والشرق، حسبما نقلت عن مسؤولين أمريكيين.
تأتي تلك التسريبات بعد ساعات قليلة مما نقلته وكالة “رويترز” عن مسؤولين ودبلوماسيين إيرانيين بشأن تعهد طهران بتزويد روسيا بصواريخ أرض-أرض ومزيد من الطائرات المسيّرة، وذلك وفق الاتفاق المبرم بين البلدين في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي خلال زيارة النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر واثنين من كبار المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني ومسؤول من المجلس الأعلى للأمن القومي موسكو.
وفي ظل التعثر الذي تواجهه القوات الروسية في أوكرانيا باتت المسيرات الإيرانية أحد أهم الأسلحة المستخدمة روسيًا التي يتوقع أن تُحدث الفارق لا سيما فيما يتعلق بتدمير البنية التحتية واستهداف العمق الأوكراني، حيث كييف وأجوارها، وذلك في محاولة للتغلب على التفوق العسكري الأوكراني ميدانيًا.
دخول طهران على خط الأزمة بصورة مباشرة وإحداثها الفارق في الخريطة الميدانية لصالح الروس، مع الحديث عن استمرارية هذا الدعم خلال الآونة المقبلة، والتورط في مستنقع الحرب كأحد أطرافها، يتعارض بشكل كبير مع الموقف الذي تبنته الدولة بداية اندلاع المعركة، فما الذي تغير؟ وما حسابات إيران من تغير موقفها؟
7 أشهر للخلف.. محاولة للفهم
في الأول من مارس/آذار الماضي، استعرض المرشد الإيراني علي خامنئي، ملامح موقف بلاده من الحرب الروسية الأوكرانية بعد أسبوع تقريبًا على اندلاعها في 24 فبراير/شباط، قائلًا: “نحن نعارض الحرب والدمار في كل مكان في العالم. هذا موقفنا الثابت”، مضيفًا “إيران تؤيد وقف الحرب في أوكرانيا نريد أن تنتهي الحرب هناك، لكن العلاج لأي أزمة يصير ممكنًا حين تُعرف جذورها. جذور الأزمة الأوكرانية من سياسة صنع الأزمات الأمريكية، وأوكرانيا ضحية لهذه السياسة”، حسب تعبيره.
وفي تغريدة لاحقة قال فيها: “جذور الأزمة في أوكرانيا تدخل أمريكا في الشؤون الداخلية لذلك البلد عبر صنع انقلاب ملون، وتحريك التجمّعات ضد الحكومات، وإزاحة هذه الحكومة ووضع تلك”، أما وزير خارجيته أمير عبد اللهيان، فأكد هو الآخر أن “الحرب ليست حلًّا” وأنه يجب التركيز علی الحلول السلمية والديمقراطية”.
الإعلام الإيراني هو الآخر تبنى نفس الخط السياسي الذي تبنته السلطة، فحاول قدر الإمكان النأي بنفسه عن الولوج بشكل مباشر في مستنقع الاستقطاب والانخراط نحو أي من طرفي الأزمة، إذ حاولت “وكالة أنباء جمهورية إيران الإسلامية” وهي الوكالة الرسمية، تحميل مسؤولية الحرب إلى روسيا وأوكرانيا معًا، حيث كتبت تقول: “لدى روسيا وأوكرانيا سجلاً طويلاً من الاهتمامات الثقافية المتبادلة والنزاعات الإقليمية والتوترات طويلة الأمد التي وصلت الآن إلى مواجهة عسكرية كاملة”، حسبما نقلت الكاتبة المتخصصة في الشأن الإيراني، هدى رؤوف.
موقف طهران الأولي كان نابعًا من برغماتية واضحة، فهي لا تريد خسارة الروس كحليف إستراتيجي يمكن التعويل عليه في مواجهة الغرب الذي يمضي قدمًا في استهدافها عبر سلسلة من العقوبات، وعلى الجانب الآخر لا تريد خسارة الغرب كحليف محتمل في ظل الخطوات المأمولة بشأن الاتفاق النووي
وطيلة الأشهر السبع الأولى من الحرب التزم الموقف الإيراني بثلاثة أبعاد رئيسية، وفق الباحث الإيراني حسن أحمديان، الأول يتعلق بعدم إدانة روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، الثاني يتمثل بإدانة الدول الغربية وتمدد حلف الناتو كسبب رئيسي للحرب الأوكرانية، فيما يرتبط البُعد الثالث بعدم دعم روسيا وهو ما ظهر في تصريحات مسؤولي إيران كما في امتناعها عن دعم روسيا أمام قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المندِّد بالحرب علی أوكرانيا.
وعليه يمكن اختصار الموقف الإيراني بصورة إجمالية في تجنب إدانة الحرب الروسية على أوكرانيا بشكل واضح ومباشر، لكن في الوقت ذاته لم تعبر طهران عن التأييد المطلق لتلك الحرب، وبين هذا وذاك دعا قادة الطرفين إلى اللجوء للحلول السلمية والدبلوماسية كخيار أخير وجيد لإنهاء تلك الأزمة.
وبعد قرابة 200 يوم على اندلاع الحرب التي خيمت تداعياتها الكارثية على الخريطة العالمية دون استثناء، وإن كانت بنسب متفاوتة، قررت طهران التخلي عن سياستها المعلنة بالنأي عن الانزلاق لفخ الاستقطاب، وبدأت مرحلة جديدة من الانخراط بشكل مباشر في الحرب، عبر دعم روسيا عسكريًا ولوجستيًا، وإن كان هناك نفي رسمي إيراني لما أسمته “ادعاءات”.. فما الذي تغير؟
ما الذي تغير؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن موقف طهران الأولي كان نابعًا من برغماتية واضحة، فهي لا تريد خسارة الروس كحليف إستراتيجي يمكن التعويل عليه في مواجهة الغرب الذي يمضي قدمًا في استهدافها عبر سلسلة من العقوبات التي أشعلت الساحة الداخلية وحرمتها من الكثير من مواردها، ومن ثم لم تكن هناك إدانة مباشرة.
وعلى الجانب الآخر لا تريد خسارة الغرب كحليف محتمل في ظل الخطوات المأمولة بشأن الاتفاق النووي والتصريحات الإيجابية الصادرة عن البيت الأبيض وبعض العواصم الأوروبية قبل أشهر بشأن انفراجة في هذا الملف واحتمالية الوصول إلى صيغة مشتركة لإبرامه قريبًا، فدعم روسيا من شأنه أن يزيد من معاداة الغرب لإيران ويعرقل أي تقدم بشأن الملف النووي، وعليه لم يكن هناك تأييد لموسكو بشكل واضح.
راهن الإيرانيون عبر سياسة التوازن بين طرفي الأزمة خلال الأشهر الماضية على تحريك المياه الراكدة في الملف النووي، واستمالة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة في إنجازه في أسرع وقت ممكن بما يسمح لطهران باستعادة نشاطها الاقتصادي مرة أخرى عقب رفع العقوبات المفروضة عنها كأحد مخرجات الاتفاق، وفي الوقت ذاته الحفاظ على موسكو على رأس قائمة الحلفاء من أجل كسب دعمها في الملف ذاته.
نظام الملالي يحاول بشتى السبل الإفلات من فخ الاحتجاجات الداخلية وذلك عبر إحياء النزعة القومية التي لن تأتي إلا بتصعيد الخطاب ضد الولايات المتحدة وذلك من خلال الاصطفاف مع الروس في خندق واحد والتحول من محايد إلى طرف حرب
لكن فوجئت طهران مؤخرًا بدخول مسار المباحثات نحو مرحلة من التعقيد في ظل تشديد واشنطن على بعض النقاط التي يعتبرها الإيرانيون معرقلة للمفاوضات، هذا بجانب الحديث عن فرض عقوبات جديدة، بينما اتهمت السلطات الإيرانية الولايات المتحدة بتأجيج الاحتجاجات الداخلية لديها وهي الرسالة التي أرادوا الرد عليها سريعًا.
من الواضح أن سياسة إيران التوازنية (ولو نظريًا فقط) تجاه الحرب الأوكرانية لم تؤت ثمارها، بل على العكس من ذلك جاءت بنتائج عكسية، حيث العمل على تأجيج المشهد الداخلي بهدف زعزعة الاستقرار وتقليم أظافر نظام الملالي، من وجهة النظر الإيرانية، ومن ثم كان التغير في الموقف هو رد الفعل الأقرب لتلك التطورات.
وتهدف طهران من خلال الانخراط في الحرب كطرف فيها – حتى وإن نفت ذلك – إلى الضغط على الغرب لكسر جمود ملف الاتفاق، فكما كانت تتعامل مع هذا الملف (الحرب الأوكرانية) ابتداءً كورقة استمالة للغرب، ها هي تسعى اليوم للتعامل به كورقة ضغط لحث الغرب المتقرح من تداعيات تلك الحرب على إعادة النظر في مواقفه بشأن الاتفاق ومساراته المعقدة.
وفي مسار مواز، فإن نظام الملالي يحاول بشتى السبل الإفلات من فخ الاحتجاجات الداخلية وذلك عبر إحياء النزعة القومية التي لن تأتي إلا بتصعيد الخطاب ضد الولايات المتحدة وذلك من خلال الاصطفاف مع الروس في خندق واحد والتحول من محايد إلى طرف حرب، الأمر الذي ربما يخفف الأجواء الداخلية ويُحدث نقلة نوعية في المزاج العام للشارع الذي لن يرفع حينها سوى شعار واحد “الموت لأمريكا” “الموت للشيطان”.
تأزم الموقف الروسي
وجدت طهران في تأزم الموقف الروسي ميدانيًا فرصتها لتحقيق الأهداف المنشودة من الحرب، إذ إن التفوق الروسي على طول الخط ما كان يسمح لها بأن تفرض نفسها كلاعب محوري في المشهد، فبعد الخسائر التي تكبدتها موسكو في أوكرانيا عسكريًا جاءت المسيرات الإيرانية بمثابة “قشة الإنقاذ” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتعامل مع تلك الحرب كـ”مسألة حياة أو موت” كونها تحدد بشكل كبير مستقبله السياسي.
ومن المرات النادرة التي يخرج فيها القادة الروس ليعلنوا عن موقفهم المتأزم ميدانيًا، ففي حديثه لقناة “روسيا 24” التليفزيوينة قال الجنرال سيرغي سوروفكين الذي كُلف بقيادة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا قبل أقل من أسبوعين: “يمكن وصف الوضع في منطقة العملية العسكرية الخاصة بأنه متوتر. العدو لا يتخلى عن محاولاته لمهاجمة مواقع القوات الروسية”، مؤكدًا أن “النظام الأوكراني يسعى لاختراق دفاعاتنا” من خلال حشد “جميع احتياطييه” في الهجوم المضاد.
ويرى الجنرال صاحب الخبرات القتالية الطويلة أن الوضع “صعب للغاية” خاصة في خيرسون، في ظل الاستهداف الأوكراني للبنية التحتية للمدينة، مضيفًا أن تلك الضربات أحدثت أضرارًا هائلة بمواقع مهمة وحساسة للغاية، ويخشى أن يؤدي تدمير سد محطة كاخوفكا إلى فيضان هائل.
وتشير التقارير والتقديرات إلى معاناة روسيا تسليحيًا، إذ إنها استنفدت جزءًا كبيرًا من ذخيرتها داخل الأراضي الأوكرانية، فبحسب مجلة فوربس فقد وجّهت القوات الروسية 84 صاروخًا نحو 29 موقعًا للبنية التحتية، معظمها باهظة الثمن وعالية الدقة، من طراز Kh-101 وS-300 وTornado-S، فيما اعترضت منها القوات الأوكرانية 43، وكلف ذلك الخزينة الروسية ما بين 400 إلى 700 مليون دولار، ولفتت المجلة أنه خلال شهر يونيو/حزيران، تحديدًا يوم 25 و26، أطلقت موسكو ما بين ما بين 60 و80 صاروخًا، قد كلفتها ما بين 150 و200 مليون دولار.
وفي حال استمرار الحرب فترات أطول فإن المعاناة الروسية ستتضاعف إن لم يكن هناك تدعيمات عاجلة، فوفقًا لموقع The War zone، المتخصص في الشؤون العسكرية والتسليحية، فقد أفادت عدة تقارير بأن المخزون الروسي من الصواريخ الموجهة الدقيقة قد ينفد، في ظل محدودية قدراتها الإنتاجية وسط العقوبات الغربية.
وفي تلك الأجواء جاءت المسيرات الإيرانية من طراز “شاهد” و”مهاجر” التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر أو أكثر، لتعيد التوازن نسبيًا للمعركة التي تحقق فيها أوكرانيا نجاحات ميدانية وصلت إلى السيطرة على أكثر من 25 ألف كم متربع من قبضة الروس، هذا بجانب التمدد الواضح في الجنوب والشرق، ووصل الأمر إلى نقل المعركة إلى الداخل الروسي كما حدث في استهداف جسر كيرتش والحديث عن استهداف مناطق حدودية روسية.
التغير في الموقف الإيراني أحدثت قلقًا كبيرًا لدى الغرب، فهناك تحركات واضحة من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مجلس الأمن الدولي لبحث مسألة الدعم الإيراني لروسيا بمسيرات عالية الدقة، وربما يتم طرح هذا الملف على جدول أعمال الجلسة المغلقة للمجلس اليوم 19/10/2022، فيما يطالب وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بقطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع إيران.
في ضوء ما سبق، فإن إيران تحاول جاهدة لفت أنظار الغرب إليها كلاعب مهم لا بد أن يكون التعامل معه بشكل مختلف، وهو سلاح ذو حدين، إما أن تحقق من خلاله طهران أهدافها فعليًا وتجبر أوروبا وأمريكا على ذلك في ضوء المأزق الذي يعانون منه بسبب تداعيات الحرب، وإما أن يكون شعرة معاوية التي يقطعها الإيرانيون خاصة أن بايدن بدأ في التعامل مع الملف النووي الإيراني كورقة دعائية يتم توظيفها في الاستحقاقات الانتخابية التي سيخوضها الشهر القادم وما سيتلوها من ماراثونات قبيل الانتخابات الرئاسية، فهل تنجح طهران في تحقيق الثنائية، الضغط على الغرب ومزيد من التقرب من موسكو، أم ستكتفي بالاصطفاف إلى المعسكر الروسي فقط، أم ستخسر كليهما؟ هذا ما تحمله الأيام القادمة.