يزور مكة المكرمة سنويًّا ملايين الحجاج والمعتمرين في بقعة هي الأقدس لدى ما يقارب 2 مليار مسلم في هذا العالم، هذه المدينة التي وصفها الله عز وجل على لسان نبيه الخليل إبراهيم: “رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ”، هذا الوادي وسط الجبال السوداء شهد الكثير من الأحداث التاريخية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتاريخنا الإسلامي، خاصة في صدر الإسلام بداية من ولادة النبي محمد ونزول الوحي والدعوة السرّية وإسلام الصحابة الأوائل، وليس ختامًا بالحديبية ثم الفتح وخطبة الوداع، لكن للأسف الواقع اليوم يقول إنه عندما يغيب منظر الكعبة المشرّفة ويبتعد المعتمر والحاج عن الحرم، يختفي كل ارتباط بمكة وتظهر شوارع وأبراج لا تشبه هذه العاصمة المقدسة والتاريخية.
قبل قرن من الزمن تقريبًا، كان الحاج والمعتمر يشاهد الكثير من معالم مكة التاريخية، لكننا اليوم بعد عمليات التوسعة المتكررة تكاد تختفي المدينة ومنازلها وشواهدها على حساب الأبراج الفندقية والأسواق التجارية والمطاعم والمقاهي، وفي هذا المقال نحاول وضع دليل سياحي وتاريخي مصغّر يقودنا عبر الزمن، لنطوف بما تبقى من شواهد مكة المعمورة التي تستحق أن تستعيد رونقها وإرثها التاريخي الممتد من أبي الأنبياء إبراهيم، وصولًا إلى يومنا هذا الذي يوثّق أكثر من 14 قرنًا من تاريخنا الإسلامي.
في هذه الجولة؛ لن نمر على الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم وجبل الصفا والمروة، ومناطق شعائر الحج من جبل عرفات ومنى ومزدلفة، لمعرفة الجميع بها ووجوب زيارتها بحكم ارتباطها بأداء مناسك الحج والعمرة، إنما سنعرّج إلى المناطق التاريخية غير المعروفة والتي لا يزورها الحجاج والمعتمرون عادة لعدم معرفتهم بها أو بوجودها، رغم أنها تحمل ارتباطًا وثيقًا بتاريخنا الإسلامي المتّصل بهذه المدينة.
وسيكون هذا المقال باكورة مقالات نستعرض فيها أعظم حواضرنا العربية ودليل مواقعها التاريخية والأثرية ضمن ملف “مدن مستترة”، تنشر تباعًا على موقع “نون بوست”، لنبحث عن مدننا الإسلامية المستترة وراء الحداثة تارة، والإهمال والعبث والتهميش والإقصاء المتعمد تارات أخرى، وإليكم الآن دليل المواقع التاريخية التي تستحق الزيارة في مكة المكرمة.
1- مكتبة مكة المكرمة (محل ولادة النبي محمد ﷺ)
في موقع قريب من المسجد الحرام، وتحديدًا في شعب بني هاشم، تقع بناية متواضعة من طابقَين لا تحمل أي أناقة عمرانية أو زخرفة إسلامية، تعتليها لافتة بسيطة مكتوب عليها “مكتبة مكة المكرمة”، هذا الموقع الشريف هو موقع الدار الذي ولدت السيدة آمنة بنت وهب أمّ النبي محمد ﷺ، حيث كان في الأرض ذاتها منزل والد النبي عبد الله بن عبد المطلب، ومرَّ الموقع عبر 14 قرنًا بعدد من المراحل التاريخية وثّقها المؤرخ عبد الوهاب أبو سليمان في كتابه “مكتبة مكة المكرمة.. دراسة موجزة لموقعها وأدواتها ومجموعاتها”.
حيث بقيَ المنزل في ملكية الرسول الكريم حتى هجرته للمدينة المنورة، لتتحول ملكيته لعقيل بن أبي طالب ويبقى في ورثته إلى أن تمَّ بيعه لمحمد بن يوسف أخ الحجاج الثقفي، واستمرَّ متوارثًا حتى اشترته الخيزران والدة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وأخرجت موقع المولد الشريف منه إلى الزقاق وأقامت عليه مسجدًا يصلّى فيه.
وجُدّد المسجد وبُنيَ عليه قبّة خلال الفترات العباسية المتعاقبة ثم المملوكية والعثمانية، قبل أن يهدم ويحوَّل الموقع إلى مكتبة عام 1370هـ بأمر من الملك عبد العزيز وبإشراف عباس قطان، ليتمَّ بناء مكتبة مكة المكرمة.
وقطان يعتبَر أول أمين لبلدية العاصمة المقدسة، وتمَّ البناء على نفقة شقيقته فاطمة قطان، ولا تزال المكتبة كما هي في موقعها لكنها بحاجة للاهتمام بشكل حقيقي لتتناسب مع أهميتها وموقعها في تاريخنا الإسلامي، ويمكن زيارتها بسهولة سيرًا على الأقدام جهة التوسعة الجديدة للمسجد الحرام، خاصة إنها مكتبة عامة يمكن الدخول إليها والاستفادة من المكتبة خلال فترات الدوام الرسمي.
2- مسجد الجنّ
ليس ببعيد عن المسجد الحرام في حي الغزة، أحد أحياء مكة القديمة، يقع مسجد صغير وأنيق يطلق عليه عدّة أسماء، منها مسجد البيعة لبيعة الجن للرسول ﷺ في هذا الموضع، ومسجد الحرس لاجتماع حرس مكة فيه خلال العهد الأموي، لكنّه يعرَف أكثر باسم مسجد الجنّ، وهذا الاسم المثبت حاليًّا على بناء المسجد.
وهذا المسجد التاريخيّ بُني في أوائل القرن الثالث الهجري، وتمّ تجديده عدة مرات وارتبط بحادثة مهمة في السيرة النبوية، هي حادثة دخول عدد من الجن للإسلام ونزول سورة الجن في هذا الموضوع.
ويذكر د. فواز بن علي الدهاس، مدير مركز تاريخ مكة المكرمة، أنه تمّت تسمية المسجد بهذا الاسم لأن الصحابة افتقدوا النبي ﷺ ذات مرة، وبحثوا عنه في معظم أنحاء مكة المكرمة دون جدوى، وأثناء وجودهم في الحي الذي يقع به هذا المسجد، شاهدوه قادمًا من جهة “المعلاة”.
ولمّا سألوه عن غيابه، قال لهم ﷺ: “كنت مع إخوانكم من الجن أفقههم في أمور دينهم”، فسُمّي المكان “موقع الجن”، ثم لمّا بُني المسجد في المكان نفسه عُرف باسم “مسجد الجن”، والمسجد مفتوح حاليًّا للصلاة والزيارة ويقع في ركن مزدحم من المدينة، حيث تحيط به الفنادق وخلفه مقبرة جنة المعلا.
3- مسجد الحديبية
على بُعد 24 كيلومترًا من المسجد الحرام موقع يوثّق أحد أبرز أحداث السيرة النبوية، وتحديدًا عندما خرج الرسول للعمرة في السنة السادسة للهجرة ورافقه المهاجرون والأنصار ومن تبعهم من القبائل المتحالفة، حتى وصل إلى موقع يطلَق عليه الحديبية لتبدأ رحلة مفاوضات مع قريش تخلّلها ما يعرَف ببيعة الرضوان، التي بايع الصحابة فيها قرب الشجرة الرسول لقتال قريش، والتي ذكرها الله عز وجل في سورة الفتح: “لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا”.
في هذا الموضع بُنيَ مسجد حديث بجوار المسجد الأثري القديم المبني بالحجر الأسود والجصّ، هذا المسجد الذي يحمل اسم الحديبية هو الموقع الذي فاوض الرسول ﷺ قريش وتمَّ عقد صلح لمدة 10 سنوات كتبه الإمام علي، ولكن قريش نقضت الصلح بعد عامَين من عقده ما عجّل في فتح مكة لاحقًا، وأُطلق على الموقع لقب الحديبية نسبةً إلى بئر الحديبية التي كانت فيه.
ويقع المسجد على طريق مدينة جدة القديم، ويزوره الكثير من المسلمين للاطّلاع على معالم المنطقة التي جرت فيها هذه الأحداث المهمة في بداية التاريخ الإسلامي.
4- مسجد بيعة العقبة
في شعب من شعاب جبل ثبير، على يسار الداخل إلى مِنى، يقف مسجد بيعة العقبة، الموقع الشاهد على أول اتفاق تمَّ في التاريخ الإسلامي، ويعتبَر المسجد من أكثر الموقع التاريخية المتفق على صحّتها في مكة، حيث لم يختلف المهتمون بتاريخ مكة على تحديد موضع المسجد قديمًا وحديثًا، ومنهم الأزرقي الفاكهي، الفاسي، الزواوي المكي، القطبي، وقد استعرض هذه المعلومات د. ناصر البركاتي في كتابه “دراسة تاريخية لمساجد المشاعر المقدسة”.
يعود تاريخ المسجد لعام 144هـ، حيث قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببناء الجامع في المكان الذي اجتمع فيه الرسول محمد ﷺ مع عدد من الأنصار حيث بايعوه بيعة العقبة، وكان الهدف الأساسي من إقدام المنصور على البناء هو إبراز وتخليد لدور جدّه العباس بن عبد المطلب عمّ النبي ﷺ لأنه شهد البيعة وعقد عقدها للرسول.
5- مكتبة الحرم المكي الشريف
160هـ هو العام الذي شهد بناء أول مكتبة في مكة المكرمة، وإحدى أقدم المكتبات في العالم الإسلامي، على يد الخليفة العباسي محمد المهدي بن أبو جعفر المنصور، حيث نُقلت المصاحف والكتب من بغداد وبقية الأمصار الإسلامية إلى مكتبة الحرم المكي الشريف لتشكّل نواة هذه المكتبة العريقة.
في بدايتها كانت المكتبة تشغل حيزًا داخل قباب الحرم المكي، لكنها تنقلت بعد التوسعة في عدد من المواقع حتى استقرّت اليوم في بناء مكوّن من 13 طابقًا في حي بطحاء قريش، وتحتوي المكتبة على 6842 مخطوطًا أصليًّا من أبرزها مخطوط لكتاب “الموطأ”، مخطوط لكتاب “الفهرست” لابن النديم، مخطوط كتاب “لسان العرب” لابن منظور وغيرها الكثير.
المكتبة مفتوحة اليوم للزيارة والاطّلاع على الكتب بشكل يسير ومبسّط، ليخدم طلاب العلم من أهالي مكة والزائرين لها من بقاع العالم الإسلامي.
6- قصر دار البياضية
في حي المعابدة في مكة المكرمة يقبع بناء ضخم لقصر يمتدّ على طول أحد شوارع الحي، يعود تاريخه إلى أكثر من قرنين من الزمان حيث بُنيَ في عهد مملكة الحجاز، وترجع ملكيته لوقف شريف مكة غالب بن مساعد الذي تولى الحكم عام 1202هـ، وقد بُنيَ عام 1205هـ.
القصر ذي الطابقَين الذي يخضع لأعمال ترميم حاليًّا بعد عقود من الإهمال والترك، هو أحد الشواهد المعمارية على شكل معمار مكة المكرمة الحجازية في العهد العثماني، القصر الذي يتوهّم البعض أنه قصر السقاف الذي تمّت إزالته على عكس قصر البياضية الباقي.
وقد استأجر الملك السعودي عبد العزيز القصر من أحفاد الشريف غالب ليكون مقرًّا للحكم في بداية تأسيس المملكة السعودية، ثم مقر الإمارة في مكة، ثم مقرًّا لرابطة العالم الإسلامي، ليكون هذا القصر شاهدًا تاريخيًّا على حقب تاريخية مهمة من تاريخ مكة المكرمة.
7- قصر بن سليمان
على طراز معماري إسلامي متأثّر بالمعمار الأوروبي العثماني الأنيق، شُيّد قصر بن سليمان بلونه الأبيض لعائلة آل بوقري المكية، وهي عائلة من أثرياء مكة ذات الأصول الشرق آسيوية المشتهرة بالتجارة، ومن القصص اللطيفة المرتبطة بالقصر أن المصمِّم والباني له بنّاء أمّي من أهالي مكة من أسرة الوزيرة، حيث كان يستخدم عصاة من أشجار الشوحط في الرسم والتخطيط على الأرض لكيفية تصميم القصر، ويطلب من البنّائين والعاملين معه التنفيذ حسب ما رسمه لهم من تصاميم بعصاه على الأرض.
اكتسب القصر شهرته عندما انتقلت ملكيته إلى عبد الله بن سليمان، أول وزير مالية سعودي، ثم بعد مغادرة بن سليمان مكة تمَّ استئجار القصر لوزارة الداخلية السعودية، ثم اُستخدم كمقرّ لمحاكم مكة ثم مكتبة عامة، قبل أن يغلق ويتحول إلى بناء مهجور يمكن الاطّلاع عليه من الخارج فقط عند زيارة منطقة بئر طوى في حي جرول بمكة المكرمة.
8- متحف مكة للآثار والتراث
قد تبحث عن موقع يقدّم المعرفة بتاريخ مكة الإسلامي القديم، ومكان يجمع توثيق تطور المسجد الحرام، وكل ذلك يمكن أن تشاهده في متحف مكة للآثار والتراث الذي يحتوي على قسم يقدّم الآثار القديمة في منطقة مكة، وكذلك قسم يحاكي تطور عمارة المسجد الحرام وعدد من الآثار الإسلامية المكية.
يقع المتحف داخل بناء قصر الزاهر الذي بُنيَ عام 1952م، ثم تحول إلى مدرسة، ثم سُلِّم المبنى لوكالة الآثار والمتاحف حيث تولّت الوكالة ترميمه ترميمًا شاملًا، ليحوَّل إلى متحف يقع حاليًّا على طريق مكة المدينة المنورة.
9- سوق ذي المجاز التاريخي
في شرق مكة المكرمة يقع سوق ذي المجاز التاريخي، وهو أحد أكبر أسواق العرب القديمة في جاهليتهم وصدر الإسلام التي اقترنت بسوق عكاظ وسوق مجنة.
وكان الرسول ﷺ يتردد على سوق ذي المجاز في المواسم ليعرض الإسلام على القبائل العربية عند اجتماعها به في الأول من ذي الحجة حتى اليوم الثامن منه، وهذا ما منحه قيمة كبيرة ضمن مواقع الأسواق القديمة في تاريخنا الإسلامي.
السوق لا تزال بعض آثاره باقية يمكن مشاهدتها عند المرور به على يمين القادم من عرفة من جهة المغمس، قبل وصوله الطريق السريع.
10- عين زبيدة
تحتوي مكة المكرمة على أحد روائع أوقاف المسلمين على مدار تاريخنا الإسلامي، وهو شبكة مياه ضخمة تنقل المياه من عيون الماء والوديان إلى الحجّاج، أمرت بإنشائها الأميرة زبيدة بنت المنصور الهاشمية، زوجة هارون الرشيد، عام 186هـ.
وقد وصف المؤرخ اليافعي عين زبيدة في القرن الثامن الهجري، فقال: “إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة ممّا يتنزه برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة، ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًّا، لا يوصل إلى قراره إلّا بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهارًا فضلًا عن الليل”.
لا تزال آثار عين زبيدة شامخة على عظمة هذا الإنجاز، ويمكن لزائر المشاعر وجبل الرحمة أن يشاهدها لكن للأسف دون مياه تتدفق بعد عجز وتأخُّر إعادة هذه العين، التي استمرت في سقي حجّاج بيت الله الحرام لقرون طويلة.
ختامًا، تذخر هذه الأرض المباركة بقائمة لا تنتهي من المواقع الأثرية والتاريخية فقدنا أغلبها، كما حدث قبل سنوات مع قلعة أجياد التاريخية، وبقيَ القليل، والقليل في مكة المكرمة كثير، وهناك عدد من المواقع لم أذكرها لشهرتها لكنها تستحق الزيارة والاطّلاع، مثل غارَي حراء وثور، والموقع الذي أقدم نبي الله إبراهيم فيه على تقديم الهدي بدلًا عن ولده إسماعيل، وشعب أبي طالب الذي شهد الكثير من الأحداث كمقاطعة قريش لبني هاشم، ومدفن أم المؤمنين خديجة، ومسجد النمرة والتنعيم وبقية معالم مكة المكرمة التي تعتبر إرثًا مشتركًا لمليارَي إنسان يتجهون إلى قبلتهم فيها 5 مرات في اليوم.